“في ظلّ العدوان المتواصل، فقد تسبّب القصف الشديد في الساعات الأخيرة بتدمير جميع المسارات الدولية المتبقية التي تصل غزة بالعالم الخارجي بالإضافة للمسارات المدمرة سابقاً خلال العدوان، مما أدّى إلى انقطاع كامل لخدمات الاتصالات عن قطاع غزة الحبيب”.
هكذا أعلنت شركة الاتصالات الفلسطينية “بالتل” (Paltel) عبر حساباتها على مواقع التواصل، عجزها الكلّي عن تأمين خدمة الإنترنت في قطاع غزّة يوم الجمعة 27 تشرين الأول/أكتوبر.
اليوم، في 1 تشرين الثاني/نوفمبر، قطع الاحتلال الإسرائيلي الاتصالات والإنترنت مرة أخرى عن قطاع غزة، وسط استمرار القصف العشوائي لليوم الـ26 على التوالي.
بعد أيّام من بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة في 7 تشرين الأول/أكتوبر، عانت شبكة الاتصالات والإنترنت من تقطّع وتشويش مستمرّين بسبب القصف الإسرائيلي العنيف الذي تسبّب بقتل نحو 9 آلاف مدني تقريباً حتى الآن.
تعمّدت قوات الاحتلال استهداف بنية الاتصالات التحتية في قطاع غزّة، للتستّر على الجرائم التي يرتكبها بحق المدنيين/ات، وعزل سكّان غزّة عن بعضهم البعض وعن العالم الخارجي، بحسب صحافيين/ات ميدانيين يغطّون الأحداث من غزة. ونقل صحافيون/ات عبر صفحاتهم/ن الشخصية على مواقع التواصل أنّ السكان، خلال فترة انقطاع الشبكة، كانوا عاجزين/ات عن الاتصال بسيارات الإسعاف والاتصال ببعضهم البعض للاطمئنان أو طلب المعلومات ومعرفة آخر المستجدات.
وكدليلٍ على ما سبق، كان الأمين العام للاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، جاغان تشاباجين، قال في 27 تشرين الأول/أكتوبر، في تغريدة: “انقطع الاتصال بزملائنا في غزة جراء انقطاع الكهرباء، ونشعر بالقلق إزاء عدم قدرة الصليب الأحمر الفلسطيني على مواصلة تقديم الخدمات الطبية الطارئة”.
يوم السبت الماضي، دعا جيش الاحتلال الإسرائيلي سكّان منطقة شمال غزة ومدينة غزة إلى ترك منازلهم/ن فوراً، تمهيداً لتوسيع رقعة العملية العسكريّة البرية في قطاع غزّة. ولكن في وقت أصدر جيش الاحتلال التحذير في 28 تشرين الأول/أكتوبر، وصل معدّل الاتصال بالإنترنت إلى أدنى مستوياته منذ بدء العدوان، ما يعني أن احتمال وصول الرسالة إلى المدنيين المعنيين/ات بها كان ضئيلاً جداً. وكان هذا ما جرى بالفعل، إذ أكّد بعض سكّان القطاع، بعد بدء عودة الإنترنت تدريجياً، أنهم/ن لم يكونوا على علمٍ بنيّة الاحتلال توسيع رقعة العمليات العسكرية إلا بعد عودة الشبكة والاطلاع على أحداث الأيام التي مضت. كما كانت الرسالة موجّهة باللغة الإنكليزيّة، لا العربيّة.
معاناة في الوصول إلى الإنترنت حتى قبل بدء الحرب
لم تكن قدرة سكان قطاع غزة على الوصول إلى الإنترنت جيدة حتى قبل بدء الحرب، إذ لطالما اعتمدوا على الإنترنت الثابت الأرضي (أي شبكات “واي فاي” المحلية) في وقت يمنع الاحتلال قطاع غزة من تطوير شبكات الجيل الثاني (2G) إلى الجيل الثالث (3G).
في حديثٍ مع “سمكس”، يقول مستشار جمعية مجتمع الإنترنت في الشرق الأوسط حنّا قريطم إنّ “الإنترنت عبر الهاتف المحمول غير موجود تقريباً ضمن خدمات الشبكات الفلسطينيّة في غزّة، إذ يُمنع العمل بغير تقنيّة شبكات الجيل الثاني للاتصالات (2G)، ولا تتوفّر شبكات الجيل الثالث (3G) إلا في مناطق الضفة الغربيّة”. بحسب قريطم، كان السكان قادرين على الوصول إلى الإنترنت عبر ميزة “تجوال البيانات” (Data roaming) وإيصالها بالشبكات الإسرائيليّة تحديداً، باستخدام شريحة الاتصال (Sim cards) مثل “إي سيم” (eSIM)، وهي عبارة عن شريحة رقمية قياسية تتيح تنشيط باقة خلوية من شركة الاتصالات بدون الحاجة لاستخدام شريحة SIM فعلية. ويتوجّب أن تكون هذه الخطوط، التي يعدّ استخدامها محدوداً جداً وليس منتشراً في قطاع غزّة، أن تكون مسجّلة في الخارج، يضيف قريطم.
نقص في المعدّات وتضارب في الروايات
يؤكّد قريطم أنّه وفضلاً عن تضرّر الكوابل التي كانت تمدّ القطاع بالإنترنت من جراء القصف، ما تسبّب بقطع الإنترنت عن السكان، “شكّل انقطاع الكهرباء مشكلةً بسبب عدم إمكانية تزويد الخوادم والمحوّلات بحاجتها من الطاقة الكهربائية لتوفير خدمة الإنترنت”.
لا تتوفّر كوابل بحريّة تصل إلى غزّة، يضيف قريطم لـ”سمكس”، وبالتالي فإنّ “القطاع يعتمد بشكلٍ كامل على الكوابل الأرضيّة، وعلى خدمة “مايكويف” (Michwave)، وهي مزوّد يعمل بتقنيّة “فايبر” التي تعمل على نقل البيانات باستخدام الضوء بدلاً من الكهرباء، ويعمل على توفير خدمة إنترنت أسرع مقارنة بسائر المزودين، ويمكن إيجادها في بعض المناطق في غزّة.
وكان وزير الاتصالات الفلسطيني قال في تصريحاتٍ لوسائل إعلام عالمية إنّ “تل أبيب عمدت إلى تعطيل خدمة الاتصالات والإنترنت عن قطاع غزة بشكل يدوي من قبل الإدارة الإسرائيلية”، ما يعني أنّ هناك تضارباً بين الرواية الرسميّة ورواية “بالتل”.
هذا السياق تراه المراقبة والخبيرة في مجال أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، نور نعيم، في حديث مع “سمكس”، “يرسم فرضيّة حول إمكانية تورّط شركة الاتصالات الفلسطينية ’بالتل‘ وشركة ’جوّال‘ للاتصالات في قطع الشبكة”.
في مقابلةٍ مع “سمكس”، تلفت نعيم إلى أنّ “قطع كافة خطوط الاتصالات في الوقت نفسه يتطلّب ضرب وحدة الفوترة، ولو حصل ذلك بالفعل، فكيف يمكن عودة الشبكة وتشغيل الاتصالات من دون أيّ فواتير؟”.
تتجمّع خطوط الاتصالات في وحدة فوترة واحدة، والهدف من ذلك أن تتمكّن الشركة من التدقيق بدقائق الاتصال وإصدار الفواتير، بحسب نعيم، التي تضيف أنّ هذه هي الوحدة، ومركزها رام الله، الوحيدة اللي فيها قابساً يمكن إطفاؤه وإعادة تشغيله.
“ضرب ‘إسرائيل’ لوحدة الفوترة سيتسبّب بضررٍ ماديّ كبير لها، لأنها لذلك ستصبح عاجزة عن التدقيق بمصاريف الإنترنت والاتصالات وجني الأرباح”، تضيف نعيم.
شبكة 2G: تدنٍّ في الجودة ومخاطر سيبرانيّة
تمكّن شبكات الجيل الثاني الوحيدة المتوفرة في غزة المستخدمين/ات من إجراء واستقبال الاتصالات والرسائل القصيرة (SMS) فقط. وبما أنّها لم تصمّم أساسا لتتضمّن خدمات إنترنت الهاتف السريعة، لا تتعدّى سرعتها 9.6 كيلوبتس في الثانية، ما يجعلها غير قابلة للاستخدام في منصات الفيديو وغيرها من التطبيقات وعناوين الويب التي تتطلّب خدمة إنترنت “جيدة”، بحسب معلومات الفريق التقني في “سمكس”.
علاوة على ما سبق، لا تدعم شبكات الجيل الثاني التطبيقات متعدّدة الوسائط (Multimedia services)، ما يجعل استخدام كافة التطبيقات الحديثة التي تقدم محتوى متعدّد الوسائط عبرها شبه مستحيل. كما تعاني الشبكة، التي لم تعد متوفّرة في العديد من المناطق حول العالم، من انقطاعات مستمرّة، ما يؤدّي على توقّف الاتصالات فجأة وحدوث تشويشٍ وتداخلٍ في الخطوط بشكل مستمرّ.
تنطوي شبكات الجيل الثاني أيضاً على مخاطر تهدّد أمن المستخدمين/ات، كما يؤكّد الفريق التقني في “سمكس”، منها أنّ خوارزميّات التشفير الخاصة بالشبكة ضعيفة، ولعلّ خوارزميّة التشفير A5/1 الخاصة بالشبكة نموذجٌ بارز على ذلك، فهي عرضة للهجمات السيبرانية التي تمكّن المهاجمين من الدخول على خط الاتصالات وتفكيك تشفيرها بسهولة.
إضافة إلى ذلك، وبما أنّ خدمة 2G صُمّمت لإجراء واستقبال الاتصالات والرسائل القصيرة، ليس التواصل عبر بيانات الهاتف مشفّراً، ما يجعلها غير آمنةٍ ومعرّضة للاختراق والتلاعب بسهولة. ويستطيع المهاجمون كذلك، من خلال تطبيق بعض تقنيّات القرصنة، الوصول إلى الموقع الجغرافي لحامل الجهاز الذي يعمل على شبكة 2G، إذ لا توفّر هذه الأخيرة حماية ضدّ هذا النوع من الهجمات، بحسب الفريق.
ليست هذه المرة الأولى التي يلجأ فيها الاحتلال إلى استهداف قطاع الاتصالات في غزّة. عام 2008، قصفت القوات الإسرائيلية أبراج الاتصالات وتوزيع الانترنت مع بدء الاجتياح البري لغزة، كما عمدت جرافات اسرائيلية عام 2011 إلى قطع مجموعة أسلاك على عمق 8 إلى 20 متراً تحت الأرض تعمل على تزويد أبراج البث في غزة، وفي عام 2014، أعيق إصلاح البنية الرقمية المدمّرة في غزة عبر منع إدخال المعدات من معابر القطاع الحدودية.
علاوة على ذلك، في 10 أيار/مايو 2021، شنّ الجيش الإسرائيلي غارات جوّية وحشيّة استهدفت البنى التحتية الأساسية في مختلف أنحاء قطاع غزّة، وطال القصف البنى التحتية للإنترنت ومزوّدي خدمات الإنترنت المحليّين ووكالات إعلام دولية، ما أثّر في القدرة على الوصول إلى الشبكة لدى 12 مزوّد خدمة إنترنت محلياً.
لم تكن خدمات الاتصالات والإنترنت في غزّة يوماً جيّدة، لا قبل الحرب الحالية ولا بعدها، في حين تتعمّد حكومة الاحتلال خنق الفلسطينيين/ات وإخفاء أصواتهم/ن للتغطية على الجرائم التي ترتكبها ومنع السكّان من حقّ بديهيّ وأساسيّ.