“لم أستخدم هاتفي الشخصي طوال فترة إقامتي في قطر، بل استخدمت هاتف العمل فحسب”. وأضافت: “ مُنعت من التصوير مرّةً واحدة خارج أحد الملاعب حيث كان بعض الرجال يصلّون، فوضع أحد رجال الأمن يده أمام عدسة الكاميرا مشيراً إلى أنّ التصوير ممنوع”.
تختصر الصحافية الإسبانية أنتيا أندري، والمبعوثة الخاصّة لإذاعة “راديو ناسيونال” (Radio Nacional) لتغطية مباريات كأس العالم في قطر تجربتها بهذه العبارات، كاشفة عن واقع بدا أقسى بالرغم من محاولات الحكومة القطرية رسم صورة مُشرِقة عن البلاد.
فخلال بطولة كأس العالم لكرة القدم لعام 2022 سافر إلى قطر صحافيون وصحافيات من الأقطار الأربعة لتغطية هذا الحدث الرياضي الضخم، برغم القيود المفروضة على حريّة الصحافة، مثل طلب إجبار الصحافيين والصحافيات على الاستحصال على تصاريح وتقييد التغطية خارج الملاعب.
وفي حالة أخرى، يشير الصحافي الإسباني من صحيفة “إل بريوديكو” (El Periódico)، خوان دومينيش، إلى أنّه “طُلب منّا عدم استخدام خدمة الإنترنت المتنقّلة أو أجهزة الاتصال عبر الأقمار الصناعية في قاعات المؤتمرات الصحافية وفي المناطق المجاورة للملعب] …[ وذلك لتفادي التشويش على البث بحسب قولهم، لكنّ الهدف من ذلك قد يكون تجنّب الاتصالات غير المراقَبة”. والجدير بالذكر أنّ الصحافيين غالباً ما يستخدمون هذه الأدوات لضمان الاتصال غير المنقطع ولتأمين البث للمؤسسات الإعلامية التي يعملون لأجلها.
ومع ذلك، يقول دومينيش إنّ “الاتصالات ممتازة، وكانت بطولة كأس العالم بشكلٍ عام منظّمة جيداً، لا بل أعتقد أنّ هذه النسخة من البطولة هي الأفضل من بين البطولات الخمس التي غطيتها، إذ اتّسمت بالكثير من التسهيلات والأموال المستثمرة التي تصل إلى حدّ البذخ”.
نظام مقيّد وغير دقيق لمنح التصاريح الإعلاميّة
اختلفت تغطية كأس العالم في قطر عن تغطية البطولات السابقة في دول أخرى، فبالإضافة إلى المخاطر المرتبطة بخصوصيّة المستخدمين الناجمة عن تطبيق “هيّا”، تعيّن على كل صحافي وصحافية أو مؤسّسة إعلامية الحصول على تصريح يتضمّن شروطاً تُقيّد حريّة الصحافة. وبقبول هذه الشروط، مُنع الصحافيون والصحافيات من التقاط صور أو مقاطع فيديو “لأماكن سكنية وشركات خاصة ومناطق صناعية” أو داخل “مؤسّسات حكومية وتعليمية وصحية ودور عبادة”. وعبر تقديم طلب الحصول على تصريح، اضطرّ الصحافيون والصحافيات أيضاً إلى قبول بعض القيود الغامضة، مثل “احترام خصوصية الأفراد” أو “الامتثال للقوانين القطرية”.
تقول منظمة “مراسلون بلا حدود” في هذا السياق إنّ “تغطية كأس العالم لا تقتصر على الأحداث الواقعة على أرض الملعب، بل تشمل ما يحدث في المدرجات وفي المدينة ككلّ والجوّ العام وسياق الأحداث. وبالتالي، يتطلّب ذلك هامشاً من الحريّة يخشى الكثير من الصحافيين أن يُحرموا منها في قطر”.
وتؤكّد رئيسة قسم الاتصالات والحملات في “الاتحاد الدولي للصحفيين”، باميلا مورينيير، أنّه “منذ بداية البطولة، شهدنا بعض الحوادث التي تستهدف الصحافة، منها تقارير عن احتجاز صحافيين لفترة وجيزة أو منعهم من التصوير أو مصادرة أجهزتهم. تُعتبر هذه الحوادث كلّها أعمال ترهيب واضحة”.
يرتبط الكثير من هذه الحوادث التي أشار إليها “الاتحاد الدولي للصحفيين” بدعم مجتمع الميم. فعلى سبيل المثال، احتُجِز الصحافي الأميركي المستقلّ غرانت وال لفترةٍ وجيزةٍ لارتدائه قميصاً بألوان قوس القزح في ملعب أحمد بن علي، وتجدر الإشارة إلى أنّه توفّي فجأةً خلال بطولة كأس العالم. كذلك، تعرّض الصحافي البرازيلي فيكتور بيريرا للمضايقة على يد عناصر من الشرطة اعتقدوا أنّ علم ولاية “بيرنامبوكو” هو علم قوس القزح الخاص بمجتمع الميم.
إضافةً إلى ذلك، يُعتبر حظر تصوير الممتلكات الخاصّة من القضايا المثيرة للجدل، لا سيما في بلدٍ يصعب فيه التمييز بين الأماكن العامة والخاصة.
مرتع لمراقبة الصحافيين والصحافيات
يعتبر جاستن شيلاد، أحد كبار الباحثين المعنيّين بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في “لجنة حماية الصحفيين”، أنّ “المشكلة في عمليّة منح التصاريح هي أنّ القيود واسعة النطاق لدرجة أنها تقيّد فعلياً عمل الصحافيين وتحصره في رقعةٍ صغيرةٍ من البلاد ]…[ كذلك، تُعتبر التصنيفات عامّةً جداً، وغالباً ما تُفسَّر ماهية التعدّي على الممتلكات الخاصة استنسابياً”.
ولكن “من شبه المستحيل تمييز الخط الفاصل بين الملكية العامة والملكيّة الخاصة في قطر، فالأماكن كلّها تعتبر ملكاً للحكومة بشكل من الأشكال”، كما يقول مدير برنامج الصحافة والاتصالات الاستراتيجية في جامعة “نورث وسترن” في قطر، كريغ لاماي، في حديثٍ مع “سمكس”.
ترتبط حوادث عدّة من تلك التي ذكرها “الاتحاد الدولي للصحافيين” خلال تغطية بطولة كأس العالم بالتمييز بين الملكية العامة والخاصة، مع الإشارة إلى أنّها مشكلة متكرّرة تواجه الصحافيين والصحافيات في قطر. على سبيل المثال، في 15 تشرين الثاني/نوفمبر، قاطع مسؤولون أمنيّون بثّاً مباشراً لفريق من قناة TV2 الدنماركية في مكانٍ عام في الدوحة. وتكرّر هذا السيناريو مع الصحافي الأرجنتيني خواكين ألفاريز وأعضاء فريقه الذين مُنعوا من البثّ مباشرةً من المجمع التجاري والسكني “قرية بروة” في ضواحي الدوحة. كذلك، وقعت حادثةٌ مماثلةٌ مع باس شارواشتر، مراسل صحيفة NU.nl الهولندية، الذي أٌجبر على حذف صور حراس الأمن خارج ملعب الثمامة خلال افتتاح البطولة.
وكشف تحقيق أجراه “مكتب الصحافة الاستقصائية” وصحيفة “صنداي تايمز” أنّ قطر استأجرت مُقرصِنين لاعتراض حسابات البريد الإلكتروني وغيرها من وسائل الاتصال الخاصة بصحافيين وصحافيات ينتقدون قطر، مما يُعتبَر انتهاكاً فاضحاً لحريّة الصحافة وتدابير الحماية الرقمية الخاصّة بالصحافيين والصحافيات ومصادرهم. كذلك، نشر “الاتحاد الدولي للصحفيين” سبع توصيات لتعزيز سلامة الصحافيين أثناء تغطيتهم الميدانية، تشمل تأمين وسيلة اتصال مع السفارات أو القنصليات وشرح كيفيّة إعداد نسخ احتياطية من المواد الحساسة، لا سيما في حال اشتبه الصحافيون والصحافيات في أنّهم يتعرضون للمراقبة عن طريق تطبيق “هيّا” أو تطبيق “احتراز” لتتبّع فيروس كورونا.
“أمثلة كثيرة على الاختراق شهدناها في السنوات الماضية، وفقاً لجاستن شيلاد من “لجنة حماية الصحفيين”، والذي يضيف أنّ “قدرة الصحافيين على حماية مصادرهم تُعزِّز العمل الصحافي الحرّ، وأيّ محاولة لتهديد هذه الحماية تقوِّض عمل الصحافيين الحرّ في محاسبة أصحاب الثروة والنفوذ”. هذه القيود لم تُفرَض على بطولة كأس العالم فحسب، بل هي انعكاس لسجلّ قطر الحافل في تقييد الحريّات الصحافية.
قطر: دولة غير حرّة
وفقاً لـ”مؤشّر حرية الصحافة العالمي” لعام 2022 الصادر عن منظمة “مراسلون بلا حدود”، تُعتبر قطر دولةً غير حرّة وتحتلّ المرتبة 119 من أصل 180 دولة. ولكن حتى اليوم، لم يُقتل أو يُسجن أي صحافي بسبب قيامه بعمله، وبطبيعة الحال لا يثبت هذا الأمر أنّ الوضع جيّدٌ في ما يتعلّق بحرية الصحافة، بل يُظهر أنّ الرقابة الذاتية تُمارَس في البلاد بشكلٍ كبيرٍ.
يرى جاستن شيلاد من “لجنة حماية الصحفيين” أنّ “على الصحافيين عموماً ممارسة درجة عالية من الرقابة الذاتية، لأنهم عرضة للمراقبة ولمخاطر برمجيات التجسُّس، كما أنّهم يحظون بفرصٍ محدودة للغاية لإعداد مواد نقديّة حول القضايا المحلية”. ويضيف أنّ “مخاوف جدّية تساور لجنة حماية الصحفيين بشأن استخدام برمجيّات التجسُّس وتكنولوجيا المراقبة ضد الصحافيين واختراق حساباتهم الشخصية، سواء خلال البطولة في قطر أو بشكلٍ عام. فالمخاطر التي يتعرّض لها الصحافيون والصحافيات والتهديدات التي تلحق بحريّة الصحافة جسيمة”.
تجرّم تشريعات عدّة نشر “الشائعات” و”الأخبار الكاذبة” وتفرض غرامات باهظة وأحكاماً بالسجن على المُخالفين، ومن هذه التشريعات قانون المطبوعات والنشر لعام 1979، وقانون مكافحة الجرائم الإلكترونية لعام 2014، وقانون العقوبات المعدّل للعام 2020. ومع ذلك، “لا تحدّد التشريعات ما يمكن اعتباره إشاعة أو أخباراً كاذبة، ما يترك هامشاً واسعاً جداً للتفسيرات”، كما تقول باميلا مورينيير من “الاتحاد الدولي للصحفيين”، مضيفةً أنّ هذا السبب لاستخدام “تلك التشريعات كرادع يُرغم الصحافيين على ممارسة الرقابة الذاتية”.
يؤكّد كريغ لاماي، الذي يحظى بـ14 عامًا من الخبرة في التعليم في مجال الصحافة، أنّ “قطر تستحقّ أن تُصنّف على أنّها دولة غير حرّة، خصوصاً أنّ قوانين الإعلام فيها لم تتحسّن مع مرور السنين، لا بل ازدادت سوءاً”. على سبيل المثال، إذا كنتَ صحافياً أو إذا نشرتَ خبراً يتناول الحكومة، “يجب عليك أن تحصل على ردّ من مكتب الاتصال الحكومي وفي حال لم تتلقَّ أي ردّ ليس من المفترض أن تنشر الخبر؛ وفي حال عمدتَ إلى نشره يمكن أن يطلبوا منك حذفه”، يشرح لاماي.
يقرّر الصحافيون والصحافيات عدم التطرّق لقضايا معيّنة لتجنّب الخلافات مع السلطة، ويضيف لاماي: “على سبيل المثال، لطالما أراد بعض الطلاب تغطية أخبار حول قضايا مجتمع الميم، إلا أنّ هذه المسألة مثيرة للجدل. ولو قاموا بتغطية مثل هذه الأخبار، لوقعنا في مأزق. لذلك، أنا شخصياً قلت لطلّابي إنّه ليس من الممكن نشر خبر كهذا”.
استخدام الرياضة للتغطية على انتهاكات حقوق الإنسان
في ضوء تلك الانتقادات، تُطرَح تساؤلات حول صوابيّة اختيار قطر لاستضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم. تعليقاً على هذه المسألة، يقول الصحافي الإسباني خوان دومينيش إنّه “لم يكن من المفترض اختيار قطر لدوافع سياسيّة، إلا أنّ هذا القرار تتّخذه نخب لا تولي الكثير من الأهمّية لحقوق الإنسان. كذلك، لم يكن من المفترض أن تستضيف إسبانيا كأس العالم في العام 1982 ولا الأرجنتين في العام 1978، عندما كان البلدان خاضعَيْن لحكم ديكتاتوري عسكري”.
ويضيف ألفونسو باولوز، مدير فرع منظمة “مراسلون بلا حدود” في إسبانيا، أنّه “في ظلّ تنظيم الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين، واستضافة المملكة العربية السعودية لكأس السوبر الإسباني، واستضافة قطر لكأس العالم لكرة القدم، حان الوقت لوسائل الإعلام والصحافيين للتفكير في كيفية تغطية الأحداث في البلدان التي يقبع فيها زملاؤهم في السجن، أو يتعرّضون للاعتداءات الجسديّة أو سوء المعاملة”.
ينبغي لـ”الاتحاد الدولي لكرة القدم” (الفيفا)، باعتباره منظمة عالمية تتمتّع بالقدرة على التأثير على الجماهير، أن يدعو إلى الالتزام بالقيم التي تحترم حقوق الإنسان وتحميها، بدلاً من دعم دول تنتهك الحقوق الأساسية مثل قطر وغيرها. في هذا السياق، يؤكّد جاستن شيلاد أنّه “إذا أراد الاتحاد أن يصبح سلطة جدّية تسعى إلى تحقيق الخير في العالم وأن يساهم في تحسين حالة حقوق الإنسان وحرية الصحافة في قطر والعالم، يجب أن يعقد مناقشات مع المجتمع المدني المحلّي في البلدان المضيفة المحتملة والالتزام بتحسين سجلّ الدولة المتعلّق بالحقوق عند اختيار البلد المضيف للبطولات العالمية”.
ومن جهة ثانية، تقول الصحافية الإسبانية أنتيا أندري: “إذا شعرت الحكومة بالقلق من انتقادك لها، فهذا يعني أنّها تخفي أمراً معيّناً”، مضيفة أنّه “لا يمكننا الوثوق بما قرأناه ولم نشاهده، ولكن لا يمكننا الوثوق أيضاً بما شهدناه خلال بطولة كأس العالم هذه، فلا أعتقد أنّنا رأينا الواقع كما هو”.
مع أنّ بطولة كأس العالم سمحت لقطر بالتغطية على واقعها الحقيقي من خلال الترحيب بمشجّعين ومشجّعات وصحافيين وصحافيات من جميع أنحاء العالم، لفت هذا الحدث العالمي أيضاً الانتباه إلى انتهاكات حقوق الإنسان في البلاد، وأفسح المجال أمام التنديد بأوضاع كانت مخفية للعالم في السابق، كسوء معاملة العمال الوافدين على سبيل المثال.
أما الآن، فالسؤال الأهمّ يتعلّق بالمستقبل: هل سيُسمَح لدولة أخرى تحظى بسجلّ طويل من انتهاك حقوق الإنسان باستضافة حدث رياضي ضخم كهذا؟ وهل ستتوقّف تغطية الأوضاع الإنسانية في قطر بعد تلاشي الاهتمام الإعلامي؟