لاحظنا، على مرّ السنين، كيف يظهر التحيّز بين الجنسَين في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM) من خلال النقص في البيانات الدقيقة عن النساء في نتائج الأبحاث والدراسات. على سبيل المثال، وفقاً لـ”فيريتي ناو” (Verity Now)، وهي مجموعة مقرّها في الولايات المتحدة تسعى إلى تحقيق المساواة في سلامة المركبات، إنّ النساء أكثر عرضةً للإصابة في حوادث المركبات بنسبة 73% مقارنةً بالرجال لأنّ اختبارات سلامة السيارات تُنفَّذ على دمى تحاكي الرجال.
وبما أنّ البيانات تكمن في صميم التكنولوجيا، فإنّ الفجوة بين الجنسَين في البيانات تنعكس في التكنولوجيا أيضاً. وقد حذّر التقرير العالمي للفجوة بين الجنسَين للعام 2018 من احتمال نشوء فجوات جنسانية جديدة في التكنولوجيا المتقدّمة كتقنيات الذكاء الاصطناعي مثلاً.
بحسب إحصاءات “المنتدى الاقتصادي العالمي” الواردة في التقرير العالمي للفجوة بين الجنسَين، والتي تقيس الوضع الحالي للمساواة بين الجنسَين وتطورّها عبر أربعة أبعاد (المشاركة والفرص الاقتصادية، والتحصيل العلمي، والصحة والبقاء، والتمكين السياسي)، جاء لبنان في المرتبة 136 من أصل 149 بلداً من حيث الفجوة بين الجنسَين في المشاركة والفرص الاقتصادية في 2018، ما يعني أنّ لبنان لا يزال متأخراً عن غيره في مسألة المساواة بين الجنسَين.
وفي ما يتعلّق بالتحصيل العلمي، يشير مؤشر التكافؤ بين الجنسَين في نسبة التحاق الفتيات والفتيان بالمدرسة في لبنان في 2020 إلى أنّ عدد الفتيات في الصفوف الابتدائية يساوي عدد الفتيان فيها، كما كان الحال في عام 2019 أيضاً. وتجاوز عدد الفتيات عدد الفتيان قليلاً في المرحلة الإعدادية، بينما كان عدد الفتيات أقل قليلاً من الفتيان في المرحلة الثانوية. وتشير هذه الأعداد إلى أنّ النساء يتمتّعن بفرص متساوية نسبياً في التعليم. وعلى الصعيد العالمي، يتفوّق الرجال على النساء في الرياضيات، ولكن في لبنان، يتساوى النساء والرجال في الأداء في الرياضيات في المرحلة الثانوية، وذلك وفقاً للتقرير العربي لفجوة النوع الاجتماعي 2020.
مع ذلك، يسجّل لبنان تقلّباتٍ في أداء النساء ونسب مشاركتهن في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات. فبلغ متوسط تسجيل النساء في دراسات العلوم في الجامعات اللبنانية حوالى 54% في 2018، مع العلم أنّ 25% منهن فقط سجّلن في شهادات الهندسة. بالإضافة إلى ذلك، شهدت مجموعات الهندسة في الجامعات اللبنانية ظاهرة “الخروج من مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات“، والتي تنطوي على حيازة النساء شهادات عالية في هذه المجالات، ثم الانتقال إلى مساراتٍ مهنية مقبولة أكثر اجتماعياً للنساء، مثل الخدمات التعليمية.
وفقاً لتقرير نشرته الوكالة الأميركية للتنمية الدولية عام 2017، تنجم التقلبات في مشاركة النساء في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات في لبنان عن التأثير القوي للأعراف الاجتماعية التي يفرضها الوالدان والأقران الذكور. وقد ذكر الكثير من الطلاب الذكور والنساء والمدرّسين أنّ ضغوطات الأعراف الاجتماعية تؤثر على خيارات الطلاب المتعلقة بتخصصاتهم/ن ومهنهم/ن.
في لبنان، يولي الأمهات والآباء أهمية كبيرة لتعليم أطفالهم، ويعتبرون العلم أداة مهمة تتيح لأولادهم، ولا سيما الفتيات، تأمين مستقبل مستقل. في الوقت نفسه، وبحسب تقرير الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، يؤدّي الوالدان دوراً حاسماً في نشر الأعراف الثقافية التي تؤثر على خيارات الأبناء والبنات من حيث التخصص والمهن (مراجعة الجدول أدناه).
الجدول 10: الإجابات المتعلقة باختصاصات الطلاب وخياراتهم المهنية | ||||||
العوامل المؤثرة في اختصاص الطلاب وخياراتهم المهنية | مناقشات مجموعات التركيز المختلَطة بين الجنسَين (n=22) | مناقشات مجموعات التركيز من نوع اجتماعي واحد | مقابلات المخبرين الرئيسيين مع الطاقم التعليمي | |||
الذكور | النساء | الذكور (n=3) | النساء (n=3) | الذكور (n=5) | النساء (n=5) | |
المشاركون الذين ذكروا أنّ الأعراف الاجتماعية تؤثر على الخيارات | 5 | 9 | 2 | 2 | 2 | 8 |
المشاركون الذين ذكروا أنّ الوالدَين يشجعان بناتهما على اتباع مسار نسائي نمطي | 2 | 10 | 0 | 2 | 1 | 3 |
المشاركون الذين ذكروا أنّ الوالدَين يشجعان أبنائهما على اتباع مسار ذكوري نمطي | 6 | 0 | 3 | 0 | 1 | 5 |
بشكل عام، ناقشت الطالبات كيف يشجّع الأمّهات والآباء بناتهم على التخصّص في المهن النمطية للنساء، مثل العلوم الإنسانية، والعلوم الاجتماعية، والتخصّصات الصحية. وعلى نحو مماثل، ذكر الطلاب الذكور أنّ الأمهات والآباء يشجّعونهم على التخصّص في المهن النمطية للذكور، مثل العلوم التطبيقية، كالهندسة، والإلكترونيات، والاقتصاد. وتجدر الإشارة إلى أنّ النساء الشابات أبلغن عن اهتمامهن بكل مجالات التخصّص، من الطب والتعليم إلى العمالة الماهرة والقوات المسلّحة.
أما بالنسبة إلى تأثير الأقران الذكور على الخيارات المهنية، يسلّط التقرير الضوء أيضاً على نظرة بعض الطلاب وأفراد المجتمع إلى دور المرأة على أنّه يقترن بالعائلة، وبكونها مدبرة منزل ومقدّمة رعاية وأم، ونظرتهم إلى دور الرجل كرأس العائلة والمعيل، فتنعكس هاتين النظرتَين في مجال العمل أيضاً.
أجرى فريقنا مقابلتين مع امرأتين لبنانيتين تعملان في المجال التكنولوجي في لبنان، وذكرتا أنّ الأعراف الاجتماعية تشكّل إحدى أكبر العراقيل التي تواجهانها في مجالهما.
شرحت دانا شمالي، التي تقود فريق التطوير في شركة “ستيتشز استديو” (Stitches Studios) المعنية بتطوير الويب والنمذجة ثلاثية الأبعاد، لـ”سمكس” أنّ الضغوطات الأهم في عملها تنتج ليس من دورها كقائدة فريق، بل من حقيقة أنّ فريقها يتألف من خمسة ذكور يقلّلون من تقدير أهليتها وكفاءتها في توجيههم نحو التطور، ودائماً ما كان يتم التشكيك في آرائها واقتراحاتها، على عكس ما يحصل مع القيادات من الرجال. وعلاوةً على ذلك، يصفها فريقها عادةً بأنّها “متسلّطة”، مقارنةً بالقائد الرجل الآخر في الفريق الذي يوصف بأنّه “حازم”.
أخبرت إيناس الحافي، وهي مستشارة تكنولوجيا التعليم ومدرِّبة في مجال المعرفة الرقمية والبرمجة، منظمة “سمكس بأنّه: “في أيامنا الحالية، ازداد قبول النساء في مجال التكنولوجيا، غير أنّ التحديات والأفكار النمطية لا تزال قائمة، كما أنّ النظرة السائدة إزاء النساء في التكنولوجيا لا تزال تتأثر بالأعراف الثقافية والأدوار التقليدية، وبخاصة في المناصب العليا وفي فِرَق قيادة المؤتمرات والفعاليات، التي غالباً ما يتولّاها الرجال”.
ذكرت كل من دانا وإيناس أنّ مجال التكنولوجيا يُعتبَر عادةً عالي التقنية ويتطلّب مستوًى عالياً من الذكاء لا يعتقد المجتمع أنّ النساء قادرة عليه، ولكن لا بدّ من الالتفات إلى أنّ المواقف والتصورّات يمكن أن تتغيّر مع الوقت، والجهود الهادفة إلى تعزيز التنوّع، والمساواة، كما أنّ الاحتواء في مكان العمل يمكن أن يساهم في تحقيق تحوّلات إيجابية في النظرة السائدة إزاء دَور النساء في التكنولوجيا. وفي هذا السياق، تؤدي النسوية دوراً رئيسياً في الجهود المستثمَرة في هذا التحوّل.
في حين أنّ المنطقة لا تزال بعيدة عن تقليص الفجوة بين الجنسَين في التكنولوجيا، إلّا أنّ بعض النساء يأخذن الأمور على عاتقهن في تسريع التغيير ومواجهة المفاهيم الخاطئة المنتشرة على نطاق واسع. ويتجلّى ذلك من خلال ازدياد عدد النساء في المنظومة التكنولوجية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
في مقالة عن بيئة الشركات الناشئة، ذكرت ماي الحبشي أنّ حوالى 34% من روّاد الأعمال هم من النساء، ما يفوق النسبة المسجَّلة في وادي السيليكون، وفقاً لمنظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة.
وفي السعودية وحدها، بلغت نسبة مشاركة النساء في التكنولوجيا 28% في الربع الثالث من عام 2021، وتخطّت بذللك متوسّط المعدّل الأوروبي الذي بلغ 17.5% خلال الفترة نفسها، وذلك وفقاً لـ “Endeavor Insight”. على الرغم من ذلك، لا تزال النساء غير ممثّلة بشكل كافٍ في مجال التكنولوجيا في الشرق الأوسط، إذ تشكّل النساء 24.6% من القوى العالمة، ما يمثّل إحدى أدنى النِسَب في العالم وفقاً لتقرير أعدّته “ماكينزي” (McKinsey).
أخيراً، وبينما نقف على مفترق طرقٍ جديد، من الواضح أنّ التكنولوجيا سوف تواصل دورَها الدائم في تغيير أنماط عيشنا والمشهد العالمي المستقبليّ. وفي الوقت نفسه، تزداد أهمية مهارات الإنسان في تكميل دور التكنولوجيا وضمان تطورّها بطريقة تلبي احتياجات الجميع، ما يجعل دور النساء في هذا المجال حاسماً، وبخاصة مع النقص في المهارات فيه.