بلحظات، يمكنك أن تظهر/ي في عالم “مارفل” أو على كوكب المرّيخ أو في مقطع فيديو، بنقرات بسيطة على إحدى تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي باتت متاحة للعموم. ولكن بأيّ ثمن؟
انتشرت في الآونة الأخيرة تطبيقات تعمل على الذكاء الاصطناعي على الويب، حيث تتيحها الشركات المطوِّرة للعموم من أجل اختبار قدرات الذكاء الاصطناعي من كتابة النصوص إلى تعديل الصور وصولاً إلى كتابة أكواد برمجية. ولعلّ تطبيقات تعديل الصور ومقاطع الفيديو من خلال مواقع تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي شهدت الانتشار الأوسع، إذ تخوّل المستخدمين/ات دمج صورهم/ن الشخصيّة بخلفيّات أو أجساد أو مواصفات محددة يطلبها، باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي مثل “ومبو” (WOMBO.ai) و”هوتبوت” (Hotpot.ai)، و”لينسا” (Lensa).
من أبرز هذه التطبيقات تطبيق “لينسا” (Lensa) -الذي أنتجته شركة “بريسما لاب” (Prisma lab) الأميركية والتي تتخذ من مدينة كاليفورنيا مقراً لها- المتوفّر على متجري “بلاي ستور” و”أبل”، ليقدّم خدمة دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي بصور المستخدمين/ات وتحويلها إلى لوحات تصويريّة رقميّة ذات مواضيع مختلفة، كالخيال العلمي والفضاء وثقافة الـ”بوب” وغيرها.
خدمة (غير) مجانية
فور دخولك إلى التطبيق، يُعرض عليه الاشتراك بقيمة 35.99 دولار أميركيّ لمدة سنة كاملة، مقابل خدمة تحويل الصور وبعض أدوات التعديل الأخرى. يقدّم التطبيق أيضاً خيار تجربة التطبيق لمدة أسبوع مجاناً. بعد اختيار أحد الاحتمالين، يتعيّن عليك تحديد بين 10 و20 صورة شخصيّة، بزوايا وتعابير وجهٍ مختلفة، لنقلها إلى التطبيق، إضافة إلى تحديد الجنس. بعدها، تعالج “لينسا” الصور باستخدام خوارزميات مقدمة من الواجهة البرمجية “ترو ديبث” (TrueDepth API) التي تنتجها شركة “آبل”.
يستخدم تطبيق “لينسا” ما يُعرف بالانتشار المستقرّ (Stable Diffusion) والتعلم العميق (Deep learning). ومثل جميع خوارزميات الذكاء الاصطناعي، فإن كل نموذج يُنتَج برمجياَ يحتاج إلى “تدريب” بمساعدة مجموعة من البيانات، ليصبح قادراً على تحويل البيانات التي يقدّمها المستخدم/ة، كالمواد البصريّة، إلى صورة فنيّة، تماماً كما يفعل تطبيق “لينسا”.
تكتسب هذه الصور شعبيّة لأنها تقدم منتجاً يعجز المستخدم العادي عن إنتاجها بنفسه، ولا تتطلّب أي مهارات عالية. إلا أنها، وبتجميعها لهذا العدد الهائل من المواد البصريّة الشخصية، تثير الشكوك حول أمانها لناحية خصوصيّة المستخدمين/ات وضمان حماية بياناتهم/ن.
تعدّ تلك البيانات ضروريّة ليتمكّن التطبيق من إنشاء الصورة الدقيقة التي ينتظرها المستخدم/ة. وتكمن المشكلة في البيانات التي تُشارك مع “لينسا” ومثيلاتها. لماذا؟ لأن هذه البيانات، أو الصور بالأحرى،
يستخدمها القيّمون على التطبيق لتدريب نموذج ذكاء إصطناعي خاصٍ بهم. بمعنى آخر، تتحوًل الصور الشخصية إلى مادة تغذّي مشاريع الشركة وأرباحها، وفقاً للفريق التقني في “سمكس”.
يقول الخبير بالأمن السيبراني، راغب غندور، لـ”سمكس” إنّ “البيانات وخصائص الوجه التي تُجمع عن طريق هذه التطبيقات يمكن استخدامها لتطوير تكنولوجيا المراقبة، فتصبح قادرة على كشف الأفراد وتحديد هويّاتهم/ن، مما يسهّل ملاحقتهم/ن ومراقبتهم/ن”. ويضيف أنّ “هذه البيانات يمكن أن تُباع وتُتداول مع كيانات أخرى لتُستخدم في التجسس على المستخدمين/ات”.
بعد مراجعات كثيرة على الصعيد العالمي، حدّثت الشركة قبل أيام سياسة الخصوصية بهدف “توفير درجة أعلى من الوضوح لعملائنا، لا سيما عندما يتعلق الأمر باستخدام وفهم اللغة والمصطلحات القانونية” ، وفقًا للمتحدثة باسم الشركة، آنا جرين. كما أشارت إلى أن الإصدار الأخير يوضح عدم استخدام أي بيانات شخصية لتدريب منتجات” بريسما لابز” للذكاء الاصطناعي، تماماً على عكس ما نصّت عليه سياسة الخصوصية في السابق.
سياسة خصوصيّة متناقضة
يسود سياسة الخصوصية الخاصة بـ”لينسا” شيء من الغموض وعدم الوضوح. تُعالج “لينسا” الصور التي تُحمّل من خلال الخوارزميات التي توفرها الواجهة البرمجية “ترو ديبث” (TrueDepth API) من إنتاج شركة “آبل”. وعليه، يُخزّن وجهك في قاعدة بيانات شركة “آبل”، وفقاً لغندور.
يلي تلك الخطوة استخراج كافة خصائص الوجه: الوضعيّة، إلامَ ينظر، طوبولوجيا الصورة (أي عناصر الصورة)، وغيرها من البيانات التحليليّة التي تميّز الوجه. تؤكّد “لينسا” على أنها لا تملك حق الوصول إلى الصور، غير أنّها تشير إلى أنها قادرة على الوصول إلى المعلومات “مجهولة المصدر”، من دون الاستطراد بالشرح.
تملك “لينسا” حقوق أي عمل فني رقمي ينتجه التطبيق باستخدام الصور الشخصية، وفق شروط وأحكام الشركة التي تنصّ على أن للمستخدمين/ات الحق بالاحتفاظ “بجميع الحقوق المتعلقة بالمحتوى الخاص بهم/ن”. ومع ذلك، تعطي الشركة الحق لنفسها في شروط الاستخدام بامتلاك “ترخيصٍ دائم، وقابلٍ للإلغاء، وغير حصري، من دون أيّ حقوق محفوظة، وعالمي، ومدفوع بالكامل، وقابل للنقل، ويمكن منحه لطرف ثالث من دون إذن المالك الأساسي لعنوان “بروتوكول الإنترنت” (IP)، لاستخدام الصور وإعادة إنتاجها وتعديلها وتكييفها وترجمتها وإنشاء أعمال مستوحاة منها”.
قد يظنّ البعض أن كل تلك الملاحظات لا تدعو للقلق. لكن الحقيقة هي أن تطبيق “لينسا” ليس إلا واحداً من عشرات أو مئات المواقع والتطبيقات التي تجعل من بيانات وجوه المستخدمين/ات ملكاً للإنترنت. ينشر ملايين المستخدمين/ات بالفعل صورهم/ن على مختلف المنصات والمواقع، ما يجعلها موجودة أصلاً على الإنترنت. ما المشكلة إذا؟ المشكلة هي أن “لينسا” وأخواتها تعمل على دراسة خصائص الوجوه التي تعتبر معلومة بيومتريّة، يتفرّد بها الفرد عن غيره، تماماً كبصمة الإصبع، لتستخدمها في تطوير خوازمياتها، بحسب غندور.
علاوة على ذلك، تملك كل من “لينسا” و”آبل” و”غوغل” و”أمازون”، الذين يتشاركون استخدام برمجيّة ARKit التي تساعد على استخدام الواقع المعزز للتعرف بسرعة على حجم الأجسام في العالم الواقعي، القدرة على الوصول إلى هذه البيانات وخصائص وجه كل مستخدم/ة أدخل/ت صوره/ا إلى التطبيق. يشير تطبيق “لينسا” إلى أنه “يجمع ويخزن بيانات الوجه الخاصة بك بغرض معالجتها عبر الإنترنت”. ويضيف “نشارك أيضاً بيانات الوجه وننقلها من أجهزة المستخدم إلى موفري السحابة لدينا (منصة سحابة “غوغل” وخدمات شبكة أمازون) لنفس الغرض. وفي هذه الحالة، تصبح الصور متاحة لنا على أنها مجهولة المصدر (نحصل على معلومات حول وضعيتك وتوجّهك وطوبولوجيا الصورة و/أو إطار مقطع الفيديو)”.
تقول مسؤولة فريق السياسات في “سمكس”، ماريان رحمة، إنّ “هذا التعتيم على التفاصيل المتعلّقة بحفظ بيانات المستخدمين/ات، إضافة إلى التناقضات التي تشوب سياسية الخصوصية الخاصة بـ’لينسا‘، يجعلون من لينسا تطبيقاً لا يؤتمن على بياناتنا الشخصية، لا سيما البيومتريّة منها”.
أمرٌ آخر يجعل من هذا النوع أكثر خطورة، بحسب غندور، وهو أن البيانات البيومتريّة لا تتغيّر، لأنك ببساطة لا تستطيع/ين تغيير وجهك. لذلك، إذا تم تسريب معلوماتك البيومتريّة، لن تستطيع/ي فعل شيء حيال الأمر ما لم تخضع/ي لعمليات جراحيّة تحدث تغييراً جذرياً في وجهك.
تنصّ سياسة “لينسا”، في أقسام متعددة من سياسة الخصوصية الخاصة بها، على أنها تحذف جميع الصور التي تستقبلها بعد أن يتسلّم المستخدم/ة المادة التي ينتظرها. إلا أنها تشير أيضاً إلى أنها تخزّن البيانات الشخصية إلى أن يُحذف الحساب المعني بها. علاوة على ذلك، لا يحذف التطبيق الحسابات بشكل فوريّ كما هو الحال مع التطبيقات الأخرى؛ بل يحتاج المستخدم/ة إلى التواصل مع “لينسا” عبر البريد الإلكتروني، وهو إجراء قد يربك المستخدمين/ات وقد يستغرق 90 يوماً على الأكثر.
أعمال فنّية “مسروقة”
مع انتشار الصور المعدّلة رقمياً عبر تطبيق “لينسا”، ظهرت منشورات وتغريدات وتقارير لفنّانين تدين “سرقة التطبيق لأعمال بشريّة”. وقد لوحظ أن “بقايا” توقيعات بعض الفنانين لا تزال مرئية في بعض الصور. ويعود ذلك إلى اعتماد التطبيق لنموذج الانتشار المستقرّ مفتوح المصدر.
يخلق هذا النقاش إشكاليّة حول ما إذا كان الفنّانون قادرين على التأقلم مع التصوير الرقمي الذي يرتكز على الذكاء الرقمي، وإنتاج محتوى مشترك يعتمد على قدرات إنسانية وتكنولوجية. بحسب عدد من الفنانين، يستحيل حدوثه، لأن العلاقة بين الطرفين “طفيليّة”، باعتبار أن تقنيات الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن تعمل إلا بالاعتماد على منتج بشريّ، ومن دونه سوف تكون إما عاجزة عن العمل، أو ستنتج محتوى مشوّها.
يصف الرسام التصويري نهاد علم الدين هذا الواقع المستجدّ بالـ”مستفزّ”، مشيراً إلى أن أي عمل فنّي من هذا النوع يستغرق وقتاً ومجهوداً كبيرين، فيما يستطيع التطبيق إنجاز هذه المهمة خلال وقت لا يُذكر، وبكلفة منخفضة، بسبب قدرته على نسخ وسرقة المنتج البشريّ”. ويضيف لـ”سمكس” أنّ الخدمة التي تقدّمها هذه التطبيقات تشكّل “تهديداً لعمل الفنانين/ات باختلاف تخصصاتهم/ن، وتسرق المستخدمين/ات مرتين: الأولى هي عندما تسرق أعمال الفنانين، والثانية عندما تتقاضى المال لقاءها”.
“على الرغم من خطورة الموقف، أعتقد أن هذه التطبيقات ستبقى عاجزة عن منافسة المهارات الإنسانية، بسبب عدم قدرة الذكاء الاصطناعي على الربط بين عدة أفكار لإنتاج مادة بصريّة ناجحة”، يضيف علم الدين.
لم يجد الفنّانون أمامهم إلا المطالبة بقوانين تنظّم الأدوات والتطبيقات الفنيّة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، لحماية أعمالهم ومنع الشركات من استخدام المحتوى المنتج من قبل أفراد لتغذية وتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي الخاصة بها.
في ظلّ إغراق هذه البرمجيّات للمساحات الرقميّة، وتنوّع أساليب الشركات العملاقة للتستّر على الشوائب التي تملأ سياساتها المتعلّقة بحقوق المستخدمين/ات الرقميّة، هل تكون قوانين حماية البيانات الشخصية كافية لحماية خصوصيّة الأفراد ومعلوماتهم/ن؟