بعد أكثر من نصف قرن من القمع في ظلّ نظام الأسد، وجد السوريّون أنفسهم في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 أمام مشهدٍ جديدٍ مليء بالفرص والتحديات، على أرض الواقع وعلى الإنترنت. وإذ صدحت الهتافات الاحتفاليّة في الساحات الرئيسية للمدن السوريّة، انتشر أيضاً خطاب الكراهية وكمٌّ من المعلومات المضلّلة على وسائل التواصل، ما أدّى إلى وقوع عدة أحداث عنيفة في مختلف أنحاء البلد.
رزح المجتمع السوري، المتعدّد الثقافات والإثنيات والأديان، تحت حكمٍ ديكتاتوري طوال أكثر من خمسة عقود، كما عانى من حربٍ أهليّة استمرّت 14 عاماً تقريباً ومزّقت النسيج الاجتماعي والسياسي للبلاد، ووضعت المجموعات المختلفة في مواجهة بعضها البعض. واليوم، أصبح المجتمع السوري هشّاً وممزّقاً بعد الحرب، وهو عرضة للتأثّر بشدّة بحملات المعلومات المضلّلة وخطاب الكراهية.
بحسب زهير الشمالي، وهو باحث سوري في مجال المعلومات المضلّلة، تركّز حملات التضليل بشكل أساسي على الطائفية، والانقسامات المجتمعيّة، وتهديد السلم الأهلي، ومحاولة تقويض تماسك المجتمع السوري. في كانون الأول/ديسمبر 2024، انتشر فيديو حرق شجرة عيد الميلاد كالنار في الهشيم على وسائل التواصل الاجتماعي خلال موسم الأعياد في سوريا، ما فاقم التوتّرات الدينية في البلد، الموروثة من فترة حكم نظام الأسد الطائفي. وفي حادثة مشابهة، أدّت إعادة نشر مقطع فيديو قديم لهجوم على مقامٍ علوي في حلب إلى احتجاجات واضطرابات مدنيّة في دمشق وحمص وحماة ومنطقة الساحل السوري.
ردّاً على ذلك، أطلق عدّة ممثلين عن العائلات الروحية حملات تضامن عبر الإنترنت في مختلف أنحاء البلد، تدعو إلى المغفرة وضبط النفس لنزع فتيل التوتّرات وإيجاد أرضيّة مشتركة للحوار والتعاون. فعلى سبيل المثال، تحدّث المفوّض الرسمي للكنيسة الأرثوذكسية اليونانية إلى سوريا، الأب سبيريدون طنوس، إلى قناة “الحرّة”، مشدّداً على ضرورة ضبط النفس بعد أن أصلحت شجرة عيد الميلاد بعد ساعات قليلة وحوسب الجناة.
برزت ثلاثة أنواع مختلفة من حملات خطاب الكراهية تهدف إلى إثارة النعرات في المجتمع المنقسم أساساً ومفاقمة التوتّرات الطائفية خلال موسم الأعياد. فما هي أنواع المعلومات المضلّلة التي انتشرت في سوريا خلال شهر كانون الأول/ديسمبر؟
إعادة استخدام المحتوى القديم
تؤدي إعادة نشر المحتوى التحريضي على الإنترنت في توقيت حسّاس ومتعمّد إلى إشعال التوتّرات الطائفية، ما يشكّل تهديداً كبيراً. ويشمل المحتوى القديم الذي يُعاد نشره من خلال تكتيك التضليل هذا، الانتهاكات الحديثة ضدّ الأقليات، ومشاركة محتوى يذكّر السوريّين بالجرائم التي ارتكبها نظام الأسد بذريعة حماية الأقليات.
من بين الأمثلة الأكثر إثارة للجدل خلال موسم الأعياد، مقطع فيديو متداول عن هجومٍ على مقام علوي، أثار احتجاجات واسعة النطاق واشتباكات مع قوات الحكومة المؤقتة ممثلةً بوحدات العمليات العسكرية التابعة لها. وعلى الرغم من أنّ هذه الحادثة وقعت في 30 تشرين الثاني/نوفمبر، عندما استولت “هيئة تحرير الشام” على حلب، إلا أنّ الفيديو انتشر على نطاق واسع في 25 كانون الأول/ديسمبر، وخاصة بعد انتشار فيديو حرق شجرة عيد الميلاد على نطاق واسع، ما تسبّب باندلاع احتجاجات في مدنٍ متعدّدة.
لا تزال إعادة نشر مقاطع الفيديو القديمة لإعادة إشعال التوترات والاضطرابات الطائفية ممارسة سائدة. فيتداول بعض المؤثرين على منصّة “إكس” أجزاءً من مقاطع فيديو قديمة تحتوي على خطابات مشحونة عاطفياً وتدعو إلى حمل السلاح رداً على حرق شجرة عيد الميلاد.
وتعيد حسابات أخرى لديها عددٌ كبير من المتابعين تدوير محتوى قديم يوثق الفظائع التي ارتكبها نظام الأسد، سعياً لإثارة مشاعر الأسى والحزن بدلاً من الخوف، لتبرير العنف الحالي ضد الأقليات في سوريا الجديدة. وتصوّر منشورات أخرى الأقليات على أنها مسؤولة عن جرائم نظام الأسد وتزعم أنّ الانتقام الطائفي هو هدف مشروع للعدالة في سوريا.
تشكّل هاتان السرديتان، أي إثارة الخوف ومشاعر الانتقام، مخاطر شديدة على عملية التحوّل الاجتماعي والسياسي الهش، وتقوض الآمال في مستقبل سلميّ وشامل للجميع في سوريا.
حملات التضليل الموجّهة
تستغلّ حملات التضليل خوف الأقليات في سوريا من التمييز المنهجي والتطهير العرقي. وتزعم بعض الرسائل الموجّهة أنّ الأقليات تستعدّ لحرب أهلية. كذلك، تعمد شبكةٌ من الحسابات إلى إعادة تأطير الجرائم من الوسائل الإخبارية المحلية للادعاء بأنّ حرباً أهلية قد اندلعت بين الفصائل المختلفة، ما يفاقم المخاوف والانقسامات والاضطرابات.
تُعدّ حسابات مثل “Syrian Activists” و”Syrian Girl” و”La Liberté” و”Mohammed Al-Jajeh” إشكالية، كونها تنشر خطاب الكراهية والمعلومات المضلّلة. وبالرغم من أنّ أصحاب هذه الحسابات يدّعون أنهم مراقبون مستقلون لوسائل الإعلام، فإن المحتوى الذي ينشرونه قد يسبّب المزيد من التوترات، ويهدّد الانتقال السلمي من خلال الزعم بأن الحرب الأهلية بدأت في سوريا ما بعد الأسد.
على سبيل المثال، يستغلّ هذا الحساب، تماماً مثل النظام السابق، مخاوف الأقلّيات، ويتلاعب بالأخبار المحلّية ليرسم مشهداً من العنف والتمييز المنهجي ضدّ الأقليات. ومن خلال التلاعب بالأخبار والأحداث المحلية، يبتكر هؤلاء سرديّة ترسم مشهداً من التمييز المنهجي والعنف، لا بل من الجهود المنسّقة للتطهير العرقي ضد هذه الجماعات. كما تعمل المنشورات التي تستهدف المجتمع الإسماعيلي على تضخيم الحوادث الإجرامية الفرديّة، وتؤطّرها كدليل على خطة أوسع نطاقا لتهميش الجماعة وإبادتها.
تدّعي السردية الرئيسية المشتركة بين هذه الحسابات أنّ حرباً أهلية ستندلع. وعبر استغلال مشاعر الخوف، تشرّع هذه السرديّات حمل السلاح وارتكاب أعمال العنف بدوافع دينية، وهو ما يعيق الجهود الرامية إلى تحقيق الوحدة الوطنية والمصالحة.
يزعم محمد الجاجة، الذي يدّعي بأنه مراقب لوسائل الإعلام في حين يستغلّ محتواه هواجس العلويّين المتجذّرة التي زرعها النظام السابق، في أحد منشوراته الأخيرة، أنّ هناك محاولة إبادة جماعية ضد العلويّين في سوريا. ويستخدم هذا الحساب النص نفسه عدة مرات ويربطه بكل حدث عنيف آخر في البلد تقريباً لتضخيم السرديّة التي تدّعي وجود حملات تستهدف الأقليات.
وما يزيد الوضع سوءاً هو أنّ الكثير من الحسابات التي تزعم أنها مؤيّدة للثورة، مثل “La Liberté“، تستخدم السرديّة الخطيرة نفسها عن حرب أهلية وشيكة، ولكن من منظور معاكس. وتتحدث هذه السرديات عن حوادث إجرامية أو اشتباكات تورّطت فيها السلطات الجديدة، وتصوّر العلويّين أو غيرهم من الأقليات كمتآمرين رئيسيّين في التسبُّب بأعمال العنف بدعم من إيران، كما تزعم.
تضيف هذه السردية مستوى آخر من التوتّر الطائفي، إذ تصوِّر أعضاء الأقليات على أنهم عملاء للخارج أو وكلاء في مخطّط كبير لزعزعة استقرار البلاد بشكل أكبر. يؤدي هذا التأطير إلى زيادة الانقسام، كما أنّه يفاقم مشكلة انعدام الثقة بين الفصائل المختلفة.
تنسج هذه الرسائل الموجّهة مجتمعةً سرديّة عامة عن حرب أهلية حتمية لتعبئة فصائل مختلفة من المجتمع السوري لخدمة أجندتها. واللافت أنّ النظام استخدم هذا التكتيك نفسه طوال عقود من الزمن لتبرير حكمه الطائفي والوحشي للبلاد.
حملات انتحال الشخصية
تستغلّ حملات انتحال الشخصية أسماء الفصائل والمجموعات الرسمية وهويّاتها لنشر معلومات مضللة، مدّعيةً أنها مصدر موثوق للأخبار والمعلومات. وتتظاهر هذه الحملات بأنها مصادر مشروعة، وتروِّج لمحتوى غير موثوق وتحريضيّ في الغالب لتعميق انعدام الثقة في بيئة المعلومات السورية غير المستقرّة أساساً.
تشمل الأمثلة عن حملات انتحال الشخصية صفحات “فيسبوك” التي تحاكي الحسابات الرسمية، وفيديو مزيّف لشخصية عسكرية انتشر على نطاق واسع، ووسائل إخبارية روسية مزيّفة.
وظهرت أكثر من عشر صفحات مختلفة على “فيسبوك” تحت اسم “إدارة العمليات العسكرية” التابعة لـ”هيئة تحرير الشام”، وهي سلطة الأمر الواقع الحالية التي تدير عملية الانتقال في سوريا وتنظمها.
من الصعب جداً على المستخدم/ة معرفة أيّ من هذه الصفحات هي الصفحة الرسمية، خاصّة أنّ هذه الصفحة مسؤولة عن مشاركة أحدث الأنظمة والتحديثات المتعلقة بالانتقال القانوني في البلاد.
بعد بحث سريع، تبيّن أنّ إحدى الصفحات التي تدّعي أنّها الصفحة الرسمية لـ”إدارة العمليات العسكرية” استُخدمت سابقاً كمنصّة إلكترونية لحزب البعث التابع للنظام السابق. تحاكي هذه الصفحة النبرة نفسها وتنشر الصور نفسها كما الصفحات الرسمية الرئيسية، وتضمّ أكثر من 47 ألف متابع، ويمكنها استخدام صورتها الجديدة لنشر جميع أنواع المعلومات المضلّلة حول الأنظمة الجديدة في البلاد.
كذلك، انتحلت بعض الحسابات صفة شخصيات عسكرية، إذ ظهر في أحد مقاطع الفيديو رجلٌ يرتدي زياً عسكرياً يدعي أنه تابع لـ”هيئة تحرير الشام” ويلقي خطاباً مليئاً بعبارات الكراهية والتهديدات تجاه عددٍ من الأقليات في سوريا. وقد أثبتت “هيئة تحرير الشام” لاحقاً أنّ هذا الفيديو مزيّف، وعلى الرغم من إظهار عدم صحّة الفيديو بسرعة، إلا أنه انتشر على نطاق واسع وساهم في ترويع العلويّين، ما أدى إلى تفاقم الهواجس القائمة.
تشمل الأمثلة الأخرى حساباتٍ تنتحل صفة وسائل إخبارية روسية، وتنشر محتوى يزعم أنّ فصائل داخل المجتمع السوري تخطّط لإبادة العلويين، وخاصة في منطقة الساحل السوري.
بحسب أحد المنسّقين المجتمعيّين السوريّين في مدينة اللاذقية الساحلية، الذي فضل عدم الكشف عن هويته، فإن الناس في مدينته “يصدّقون كلّ ما يرونه على هواتفهم” في غياب مصدرٍ موثوق للمعلومات.
يمكن لأيّ شخص أن يقع ضحيّة حملات التضليل، ما يسلّط الضوء على مسؤولية منصات التواصل الاجتماعي في التحقق من المعلومات وإزالة المحتوى الخطير. غير أنّ التغييرات الأخيرة في السياسات أدّت في كثير من الأحيان إلى مفاقمة المشكلة. فعلى سبيل المثال، أدت سياسة منصّة “إكس” الرامية إلى تحقيق الدخل من الشارة الزرقاء وتقييد الوصول إلى واجهة برمجة التطبيقات، عن غير قصد، إلى تسهيل اكتساب الحسابات المضلّلة للمصداقية، وجعلت من الصعب على الباحثين/ات تتبع أنشطة تلك الحسابات. في الواقع، تحمل غالبية حسابات المؤثرين الذين ينشرون معلومات مضلّلة المذكورة في هذا المقال الشارة الزرقاء التي تشير إلى أنه جرى التحقّق من الحساب.
تفشّت موجة من حملات التضليل في سوريا ما بعد الأسد، مستغلّةً هشاشة المجتمع والانقسامات السائدة. فمن إعادة نشر المحتوى القديم بشكل مدروس إلى السرديات الموجّهة التي تستغل مخاوف الأقليات، وحملات انتحال الهوية التي تفاقم عدم الثقة في بيئة المعلومات الرقمية، قد تؤدي هذه التكتيكات مجتمعةً إلى عرقلة التحوّل السلمي في سوريا.
تلعب منظمات مراقبة وسائل الإعلام المستقلة دوراً محورياً في مواجهة هذه التهديدات، إذ يمكن لمثل هذه المنظمات تزويد السوريّين بمعلومات موثوقة، وفضح السرديات الضارة، والمساعدة في إعادة بناء الثقة في الخطاب العام.
الصورة الرئيسية من AFP.