أُدرج ملف إطلاق خدمات “ستارلينك” في لبنان على رأس لائحة الأولويات، ومع بدء عهد وزير الاتصالات الحالي شارل الحاج، وسط غيابٍ للشفافية، وعدم التزامٍ بالأصول القانونية، ودون أخذ موضوع حماية البيانات والسيادة الرقمية بعين الاعتبار.
مروحةُ من اللقاءات مع المسؤولين اللبنانيين أجراها المدير العالمي لترخيص خدمات شركة ستارلينك وتطويرها، سام ترنر، لاستكمال الإجراءات القانونية للتسجيل في لبنان، ويأمل الوزير الحاج أن يُعرض الملف بعدها على مجلس الوزراء ليتّخذ القرار النهائي بشأن ستارلينك خلال مهلة أقصاها حزيران/يونيو الجاري.
وكان ملف “ستارلينك” في لبنان طُرح منذ سنوات، وتحديداً مع بدء الحرب في تشرين الأول/أكتوبر 2023، من قبل وزير الاتصالات اللبنانيّ السابق جوني القرم، إذ رأى فيه المنقذ الأوّل في حال انقطعت الاتصالات والإنترنت جرّاء العدوان الإسرائيلي.
“ستارلينك” هي خدمة إنترنت عبر الأقمار الصناعية أطلقتها شركة سبيس إكس (SpaceX) التي أسّسها إيلون ماسك، وتهدف إلى توفير اتّصال بإنترنت عالي السرعة إلى المناطق النائية والمعزولة في العالم، حيث يصعب توفّر الإنترنت التقليدي بالألياف البصرية أو الشبكات الخليويّة.
وفي ذلك الوقت، أبدت لجنة الاتصالات البرلمانيّة تحفّظاً كبيراً على المقترح، أما الأجهزة الأمنية، فمنعت دخول أجهزة ستارلينك “لقدرتها على التفلّت من الرقابة واستحواذها على “داتا المواطنين”، إذ سيتّصل كلّ مشترك بالأقمار الصناعية مباشرة دون المرور عبر المزود الرئيسي للإنترنت في لبنان، أي “أوجيرو”.
قانونيّة الترخيص والتشغيل
يمكن تفنيد الاعتراض على إدخال “ستارلينك” إلى لبنان بثلاث نقاط أساسية، أوّلها كيفيّة حصول الشركة على ترخيص، والآلية القانونية التي يجب أن تتمّ حصراً عن طريق الهيئة الناظمة لقطاع الاتصالات، والتي لم تتشكّل بعد. ثانياً، موضوع السيادة الرقميّة في ظلّ التعامل مع شركة إنترنت عبر الأقمار الصناعية. وأخيراً، حصريّة الشراكة مع “ستارلينك” دون فتح باب المنافسة أمام شركاتٍ أخرى، وهو ما يصرّ عليه الوزير الحاج.
يحذّر النائب وعضو لجنة الإتصالات في لبنان ياسين ياسين، في مقابلةٍ مع “سمكس”، من التفريط بالسيادة الرقمية، فاستقدام الإنترنت الدولي إلى لبنان سواء عبر الكابلات البحرية أو الأقمار الصناعية يعدّ من الصلاحيات الحصرية للدولة اللبنانية استناداً للمرسوم الاشتراعي رقم 126 /1959 وقراراتٍ حكومية لاحقة، ومراسيم تنظيمية أبرزها المرسوم رقم 9288/1996 الذي يعهد الى الدولة اللبنانية، ممثلة بوزارة الاتصالات وأوجيرو، تأمين السعات الدولية.
ويوضح أنّ “أيّ استقدام مباشر للسعات خارج هذه القنوات يعتبر مخالفة قانونيّة واضحة ما لم يصدر قانونٌ خاص بذلك، وبالتالي لا يمكن لأي شركة خاصة أن تستورد الانترنت الدولي مباشرة دون اتفاقٍ قانوني وتنظيمي صريح مع الدولة”. ويعرب ياسين عن “رفض منح التراخيص خارج الإطار القانوني لأنّ الترددات مرفق عام لا يجوز تخصيصه أو استغلاله دون ترخيصٍ صادر عن الهيئة الناظمة المنصوص عليها في القانون 431 الصادر في العام 2002، والتي تحدّد أن ادارة وتوزيع الطيف الترددي هي من صلاحية الهيئة الناظمة حصراً”.
والمطلوب اليوم، وفقاً لياسين، هو وضع شروطٍ واضحة وشفّافة تشمل إنشاء شركة محلية تمتلك فيها الدولة حصة سيادية تبلغ 40% على الأقل، ونيل الدولة نسبةً من الإيرادات السنوية، وتوظيف لبنانيين بنسبة لا تقلّ عن 70% خلال 5 سنوات، وتغطية المناطق المحرومة والربط الإجباري بالشبكة الوطنية، ومنع الاحتكار وضمان المنافسة، والخضوع لمراقبة تقنيّة وأمنيّة دوريّة.
من جهتها، لا تزال لجنة الاتصالات النيابية مرتابة من ملف “ستارلينك”. وفي جلستها الأخيرة، أكّد رئيس اللجنة النائب إبراهيم الموسوي الحاجة إلى “أعلى مستويات الكفاءة لأجهزة الإتصالات، ولكن مع ضابطتين رئيسيتين، الأولى تخصّ الموضوع الأمني والتأكّد من أنّ الخدمة لن تتسبّب بأي خروقات أمنيّة، وثانيها له علاقة بالمردود الاقتصادي، والعائدات التي ستعود بها ستارلينك على الدولة”.
شركات الإنترنت تعترض
أثارت قنبلة “ستارلينك” حفيظة الشركات التي تقدم خدمات الإنترنت المعروفة بالـ ISPs، اذ وقعت 7 شركات، وهي Inconet، Transmog، Terranet، Broadband، CableOne، Gedarcom، Globalcom، على رسالة اعتراض استقدام الشركة، إلى كلّ من رئاسة الجمهورية، ومجلس الوزراء، ولجنة الاتصالات النيابية، طلبوا فيها تنظيم دخول “ستارلينك” إلى سوق الإنترنت بشكلٍ مدروس وتدريجيّ.
يتخوّف أًصحاب هذه الشركات من قدرات ستارلينك التنافسية التي ستؤثّر سلباً على مداخيل شركات الاتصالات الأساسية في لبنان، أي “أوجيرو” و”ألفا” و”تاتش”، على حدّ قولهم، مما سيؤدّي إلى تراجع الإيرادات، وحرمان الشركات من 25% من زبائنها، لا سيما المؤسسات والشركات الخاصة، لتنخفض مداخليها بنسبة 27%، ما يعني حكماً انخفاض الدخل المحقق للدولة.
ومن هنا يدعو ياسين، “إلى التريّث قبل اتخاذ أي قرار وفتح المجال أمام شركات عالمية أخرى لضمان تنافسيّةٍ حقيقية ومردوداً أعلى للدولة، وهذا ما يمتنع وزير الإتصالات عن القيام به”.
في قطاعٍ حيوي كقطاع الاتصالات والانترنت، لا تنفع سياسة الهروب إلى الأمام. فبدلاً من القفز فوق المشاكل البنيويّة، لا بدّ من العودة إلى منطق التنظيم والشفافية والمصلحة الوطنية. ويختم ياسين حديثه لـ”سمكس” قائلاً إنّه “لا يمكن السماح لأي شركة ببيع خدمات الانترنت عبر الأقمار الصناعية في سوقٍ يعاني من فوضى تنظيميّة، وتعدّيات، وتراجعٍ في البنية الأرضية الوطنية. يجب تصحيح الوضع القائم وتوسيع الشبكات الشرعية وتنظيم السوق بما يضمن المنافسة العادلة”.
كلفة “ستارلينك”
لا يمكن للأفراد الاستفادة من خدمات ستارلينك نظراً لكلفتها الماليّة المرتفعة، إذ يتراوح سعر معدّاتها الأساسية بين 350 و500 دولاراً أميركياً، وهو مبلغ يُدفع لمرّة واحدة عند شراء الصحن اللاقط مع جهاز توزيع الإنترنت في المنزل. وبعد ذلك، يدفع المشترك العادي مبلغاً يتراوح بين 42 و56 دولاراً أميركياً مقابل الاشتراك الشهري للمنازل. أمّا الشركات الراغبة بالاشتراك مع “ستارلينك”، فتدفع مبالغ إضافية.
تبلغ قيمة الاشتراك الشهري بسعة 500 Gb نحو 111 دولاراً شهرياً، وهذه تكلفة كبيرة لا يمكن للمواطنين/ات الإستفادة من جودة الإنترنت أو تأمينها في المناطق النائية.
من جهةٍ أخرى، تكمن المشكلة الكبرى في موضوع “ستارلينك” في احتمال انتهاكها للسيادة الرقمية. في حديثٍ مع “سمكس”، يشير خبيرٌ في قطاع الإتصالات (فضّل عدم الكشف عن اسمه) إلى أنّه وفقاً لقانون الاتصالات، يحظر خروج داتا المواطنين من البلاد، واستخدام أو تخزين دولةٍ أخرى لها. ولكن، نظراً إلى أنّ داتا ستارلينك تُرسل إلى الأقمار الصناعية، ومن ثم إلى سرفرات الشركة الأمّ، نسأل هنا: إلى أين ستذهب هذه الداتا؟ نحن لا نعلم كيف سيتمّ تشغيلها في لبنان، أو أو إذا ما كان سيتمّ ذلك في دولٍ مجاورة كقطر”.
تغيب الشفافية عن الحفاوة التي يقوم بها وزير الإتصالات وبعض الوسائل الإعلامية، التي تعدّ “ستارلينك” حلاً سحرياً لمعالجة مشكلة الإنترنت في لبنان. وبحسب الخبير، “من المفترض، معرفة الرأي العام بالموضوع، وما هي طبيعة الترخيص ومدته، وحصة الدولة من إيرادات ستارلينك، وما هي استثمارات الأخيرة في لبنان، وغيرها من الأسئلة”.
المحافظة على الإقتصاد الوطني للإتصالات
حتى الآن، ما زالت حصّة الدولة من الصفقة غير معلومة، ولكنّ الحصة الأكبر ستعود للشركة الأمّ. يعلّق الخبير على ذلك قائلاً إنّ “خدمات ستارلينك ستطلق للشركات نظراً لكلفتها المرتفعة، ولن تكون متوفرة للمواطنين والمناطق النائية. لذلك، يجب إعادة النظر وضمان الحفاظ على الإقتصاد الوطني الذي يعتمد على قطاع الاتصالات بشكل كبير. ونسأل هنا، لماذا لا تقوم الشركات المشغلة للقطاع بتقديم عروضٍ تحفيزية للشركات الكبرى، والعمل على الوصول إلى المناطق النائية، وإطلاق خطة توسيع الفايبر أوبتك؟”
وفي ردٍّ على سؤالٍ يتعلق بتأثر الشركات المشغلة لقطاع الإتصالات بإدخال ستارلينك إلى لبنان، يؤكّد الخبير أنّ “تأثر الشركات هو دليل على ضعفها، وسوء خدماتها، وحاجتها إلى إعادة النظر بخططها واستثماراتها”.”تجارياً، يُرحّب بجميع الشركات التي تقدّم خدمة جيدة للبلاد، لكن بعيداً عن الاحتكار. نتحدّث هنا عن تضارب المصالح الذي يقف وزير الإتصالات شارل الحاج مسؤولاً عنه، كونه يملك، أو كان يملك، أسهماً في شركتي إنترنت “وايفز” (Connect) و”كونكت” (Waves)، اللتين تساهمان بتوزيع خدمات ستارلينك، والدليل على ذلك هو أنّهما لم توقعا على رسالة اعتراض شركات الإنترنت الخاصة على دخول ستارلينك السوق اللبناني.
وقد حاولت “سمكس” التواصل مع وزير الإتصالات للإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالشفافية، وآليّة الترخيص، وحصرية الشركة، والسيادة الرقميّة، إلا أننا لم نلقَ أيّ إجابات.
الصورة الرئيسية من AFP.