إلى جانب تحويل المدن التي تتركّز فيها العمليات العسكريّة إلى مناطق خطرة تّهدّد سلامة المقيمين/ات فيها، حرص أطراف النزاع في السودان على جعل ظروف المدنيين/ات أكثر صعوبة من خلال قطع الإنترنت والاتصالات عنهم/ن. ففي شباط/فبراير الماضي، سيطرت قوات الدعم السريع على مناطق تواجد مزودي خدمة الإنترنت، وقطعت الاتصالات في مدينة الخرطوم وبعض مناطق غرب البلاد التي تسيطر عليها بشكلٍ كلّي تقريباً.
يستمرّ النزاع المسلّح الذي بدأ في السودان في نيسان/أبريل 2023 بين القوّات المسلّحة السودانية وقوات الدعم السريع، متسبباً بخسائر بشريّة واقتصاديّة هائلة.
وحتى تاريخ كتابة هذا المقال، ما زالت تعاني بعض المناطق من عدم توفّر شبكة الانترنت المحلية، وتعتمد اعتماداً كلياً على أجهزة “ستارلينك”. تقع هذه المناطق غرب البلاد، وتتضمّن بعض أجزاء العاصمة، بالإضافة إلى مدينة مدني بولاية الجزيرة، وتخضع جميعها لسيطرة قوّات الدعم السريع.
أمّا بالنسبة لبقيّة المناطق والولايات، فتتوفّر فيها شبكتا الاتصالات والإنترنت بشكلٍ طبيعيّ على الرغم من ضعفها في بعض الأحيان.
بداية دخول “ستارلينك” إلى السودان
مع بداية شباط/فبراير الماضي، دخل السودانيون/ات في عزلةٍ عن العالم بسبب انقطاع شبكة الاتصالات والانترنت في السودان، بعد أن أمرت قوات الدعم السريع شركتي الاتصالات “سوداني” و”إم تي إن” للاتصالات بقطع خدمات الاتصال والإنترنت عن 36 مليون مشترك في البلاد، لعدم تمكن شركة “سوداتل” للاتصالات، التي تمتلك الحكومة السودانية ومستثمرون من دول مجلس التعاون الخليجي وغيرهم حصصاً فيها، من صيانة كيبل شبكة الألياف الضوئية لدارفور (الخاضعة لسيطرتها) بسبب الحرب.
بصورةٍ عامّة، تقدّم شركات “زين” الكويتيّة، و”إم تي إن” الجنوب أفريقيّة، و”سوداني” السودانيّة، خدمات الاتصال والإنترنت للهواتف المحمولة في السودان. وبحسب رأي مهندسين في مجال الاتصالات، يتعدّى خطر هذا الواقع مجرّد انقطاع الاتصالات والإنترنت عند حدوثه ليؤثّر على التطبيقات البنكيّة، مشيراً إلى أنّ إغلاق الخوادم الرئيسية بصورةٍ عشوائية أو تخريبها يصعّب عملية إعادة التشغيل وربما يتسبب في انقطاع السودان عن العالم تماماً لفترة طويلة.
خلال تلك الفترة، لجأ بعض السودانيين/ات في الخرطوم والجزيرة ودارفور إلى استخدام خدمة “ستارلينك” للاتصال بشبكة الإنترنت، بعد أسابيع من الانقطاع الكلّي عن العالم، قبل أن تبدأ خدمات شبكات الهاتف المحمول التقليديّة بالعمل تدريجياً في مناطق متفرّقة من البلاد.
وصلت أجهزة “ستارلينك” إلى أيدي قوّات الدعم السريع منذ بضعة أشهر، وأصبحت تقدّم الخدمة للمواطنين مقابل 3 آلاف جنيه سوداني على الأقلّ للساعة الواحدة (ما يعادل 1 دولار أميركي)، وهو ليس مبلغاً مقبولاً بالنسبة إلى المواطنين الرازحين تحت وطأة الحرب، ويجعل من الإنترنت سلعة يقتصر استخدامها على المقتدرين مادياً.
كشف تقريرٌ نشرته “وول ستريت جورنال” أنّ قوات الدعم السريع تحصّلت على “ستارلينك” عن طريق السوق السوداء بالإمارات، على الرغم من اتصال السلطات السودانية بـ”سبيس اكس”، الشركة المالية لـ”ستارلينك” لتطلب منها تنظيم استخدام “ستارلينك”، إلا أنّ الشركة “لم تستجب للطلب مطلقاً”. جاء ذلك بعد تصريحات وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن التي أعلن فيها ارتكاب قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها جرائم حرب وحمّلها مسؤولية التطهير العرقي في دارفور.
صُمّمت “ستارلينك” في الأساس بهدف توفير الوصول إلى الإنترنت في المناطق المحرومة التي لا يوفرها نظام خدمة الإنترنت التقليدي، أي أنّها خدمة إنترنت قائمة على الأقمار الصناعية، أنشأتها شركة “سبيس إكس” (SpcaeX) التابعة لمالك منصّة “إكس”، الملياردير الأميركي إيلون ماسك.
يتكوّن نظام ستارلينك من آلاف الأقمار الصناعية الموضوعة في مدارٍ أرضيّ منخفض، يتمّ ربطها ببعضها البعض لإنشاء شبكةٍ متداخلة قادرة على توفير وصول عالي السرعة إلى الإنترنت. وتعمل من خلال توصيل المستخدمين بالأقمار الصناعية عبر طبقٍ هوائيّ يتمّ توصيله بجهاز التوجيه و”المودم” الخاصين بالمستخدم، والتي بدورها تكون متّصلة بالإنترنت.
تأثّر الحياة اليوميّة بقطع الإنترنت
أثار قطع الإنترنت موجة قلقٍ كبيرة بين المواطنين/ات الذين باتوا غير قادرين على التواصل فيما بينهم/ن أو مع العالم الخارجي.
في مقابلةٍ مع “سمكس”، قال عمر، وهو مواطنٌ سودانيّ مقيم في ولاية الجزيرة، إنّه لم يتمكّن من التواصل مع شقيقه المغترب في إحدى دول الخليج منذ انقطاع شبكات الاتصالات والانترنت في مطلع شباط/فبراير الماضي. وأضاف أنّ شقيقه لم يعرف شيئاً عن عائلته بسبب عدم قدرته على التواصل معهم/ن بأيّ شكل.
علاوة على ذلك، خسر عمر عمله كمترجمٍ عن بعد مع شركة خارج البلاد بسبب انقطاع الإنترنت وعدم قدرته على الالتزام بدوامه وتسليم المواد المطلوبة منه.
يقيّد قطع الإنترنت قدرة الناس على التواصل والتعبير الذاتي، ويمنع الوصول إلى المعلومات الأساسية خاصة أثناء حالات الطوارئ والأزمات. كما يشكّل انتهاكاً للحقّ الأساسي في حرّية التعبير المنصوص عليه في المادّة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاصّ بالحقوق المدنية والسياسية. ويدين المجتمع الدولي إجراءات قطع الإنترنت على نطاق واسع، على غرار ما جاء في قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتّحدة رقم 47/16 الذي يدين “استخدام إجراءات قطع الإنترنت لمنع أو تعطيل الوصول إلى المعلومات أو نشرها بشكل مقصود وتعسّفي”.
لا يقتصر الضرر على الجانب الإنسانيّ والمهنيّ فحسب، بل يتسبّب أيضاً بتوقّف العمليات الماليّة والبنكيّة التي تعتبر شريان حياةٍ حقيقي داخل مناطق الحرب، في ظلّ شحّ السيولة وخروج معظم البنوك وماكينات الصرف الآلي عن الخدمة، خاصّة في العاصمة الخرطوم ومدن ومناطق وسط السودان.
إضافة إلى ذلك، يعتمد بعض السودانيين/ات المتواجدين في مناطق الحرب على الحوالات الماليّة التي يرسلها إليهم/ن الأقارب والأهل. ومع توقّف ماكينات الصرف، بات هذا الأمر غير ممكن. هذا ما جرى مع محمّد، الذي عجز عن إرسال المال لأسرته الموجودة في منطقة نزاع طوال فترة انقطاع الإنترنت، وفقاً لما قاله لـ”سمكس”، مشيراً إلى أنّ والده المريض يعتمد عليه للحصول على المال لشراء العلاج والغذاء الضروريين له.
بالحديث عن الغذاء، وبعد فقدان الناس لوظائفهم جرّاء الحرب، أعتمد الكثيرون/ات على المطبخ المركزي “التكية السودانية” للحصول على وجبات الطعام اليوميّة. وتمثّل ا”التكيّة” واحدة من أبرز مظاهر الترابط الاجتماعي في البلاد، وظيفتها تقديم وجبات الطعام اليومية للعائلات الأشد فقراً وسدّ رمق آلاف المحتاجين في العاصمة السودانية الخرطوم خلال الأزمات.
هذا المطبخ المركزي تأثر بانقطاع الإنترنت، إذ عرقل انقطاع الاتصالات والانترنت على التحويلات البنكية التي يرسلها أفرادٌ وجهاتٌ عامة وخاصة من داخل وخارج البلاد لدعم المطبخ المركزي. أدّى ذلك إلى حرمان عائلاتٍ كاملة من الوجبات الغذائية الأساسية التي يعتمدون عليها، ومن بينها عائلة المواطن السوداني أحمد المقيم وأسرته في منطقة شمبات، بحسب ما قاله لـ”سمكس”.
من جهة أخرى، لا يغيب موضوع الخدمات الطبيّة عن الواجهة لحساسيته وشدّة المعاناة التي يمرّ بها العاملون فيه. بحسب مؤمن ود زينب، وهو أحد المتطوّعين في جمع التبرعات لمستشفى النو في منطقة أم درمان، يعتمد المستشفى على التبرعات التي تُجمع بواسطة السودانيين عن طريق التطبيقات البنكيّة، وتوقف الشبكة يهدّد عمل المستشفى. وأضاف: “إنّ قطع الشبكة يؤثر على لجان الطوارئ التي تقدم الخدمات والمساعدات الصحية والإنسانية للعالقين في مناطق القتال في الخرطوم، و يتسبب قطع الإنترنت في عرقلة توصيل الأدوية المنقذة للحياة وأغذية الأطفال والعناصر المهمة التي تستخدمها النساء للمحافظة على صحتهم الإنجابية والبدنية”.
معاناة الوصول إلى “ستارلينك”
يضطرّ طالب خدمة “ستارلينك” إلى الخروج من منزله قاصداً أماكن توفّرها، التي تقع في مناطق نزاعٍ غير آمنة داخل الأحياء. وفي ظلّ انعدام الأمن، تعتبر هذه مجازفةً كبيرة قد يتعرّض صاحبها إلى خطر السرقة أو الاعتداء أو النهب أو القتل حتى.
تعرّضت زينب، وهي شابة سودانيّة مقيمة في إحدى مناطق النزاع، إلى السرقة بينما كانت في طريقها إلى مقهى يوفّر خدمة “ستارلينك”، للاطمئنان على صحّة والدها المريض والمقيم في خارج البلاد. وأكّدت زينب في حديثها مع “سمكس” أنّ “معظم الفتيات يتعرضن لمختلف أنواع المضايقات والمخاطر في طريقهم إلى أماكن توفّر الخدمة”.
عبّر كثيرون/ات عن ترحيبهم/ن باستمرار عمل خدمة “ستارلينك” في السودان، بعد أن هدّد ماسك بإيقافها ابتداء من 30 نيسان/أبريل بسبب “انتهاك شروط الاستخدام”.
وكانت قد دعت 94 منظمة إنسانية الملياردير الأميركي إلى عدم إيقاف الخدمة، محذّرة من أنّ الإقدام على هذه الخطوة سيكون بمثابة “عقابٍ جماعي” لملايين السودانيين/ات.
حتى الآن، ما زالت الخدمة مستمرّة في معظم ولايات السودان، إلا أنّ هناك قلقاً من احتمال توقّفها في أيّ لحظة. ولكن، في ظلّ العوائق والصعوبات التي ترافق استخدام “ستارلينك”، هل بات عادياً الاكتفاء بتأمين شبكة إنترنت ضعيفة في بعض الولايات، في ظلّ غياب خدمات الإنترنت الأساسية التي يجب أن تؤمّن لجميع المواطنين/ات بالتساوي عن طريق مزوّدي الخدمة وشركات الاتصالات؟
الصورة الرئيسية من AFP.