تبدو ساندرين عطالله، المتخصصة في الطب والعلاج المرتبط بالصحة الجنسية والإنجابية والحقوق المتعلقة بهما، كأنها تعيش حياتين: واحدة على الشاشة وأخرى خارجها. وإن كان هذا حال كثيرين اليوم، إلا أن خصوصيتها تكمن في كونها جعلت من العالم الرقمي مساحة لطرح أكثر المواضيع حساسية في مجتمعاتنا. لا تلتفّ على الكلمات ولا تستخدم مصطلحاتٍ مبطّنة: “لا أغيّر المصطلحات أبداً. أرفض أن أمارس رقابة على نفسي أو على التثقيف المتعلق بالصحة الجنسية والإنجابية. إذا استبدلنا كلمات مثل بظر أو مهبل، نكون بذلك نعيد إنتاج نفس التابوهات التي نحاول كسرها”.
هذا الوضوح التي قرّرت عطاالله انتهاجه يضعها في مواجهة مستمرة مع المنصات وخوارزمياتها. في حديثٍ طويلٍ أجرته مع “سمكس”، تقول ساندرين إنّ “المنصات تضع التثقيف في خانة واحدة مع المحتوى الإباحي. وتسمح الخوارزميات أحياناً بالمحتوى الإباحي لأنه يدرّ نسب مشاهدة عالية ويخدم مصلحة المنصة في إبقاء الناس أطول وقت ممكن. أما المحتوى التثقيفي، فغالباً ما يُعتبر عبئاً ما لم يكن إعلانياً أو مدفوعاً”.
عام 2021، أُغلق حساب عطاالله على “تيك توك عربية” بشكلٍ مفاجئ بعد حملة تبليغات جماعية. وتستعيد التجربة بقولها: “بصراحة، أنا لا أحبّ تيك توك ولم أكن أنوي فتح حساب. لكن الوكالة التي كنت أعمل معها طلبت من جميع العاملين معها فتح حسابات، ففعلت. وبعد إغلاق الحساب المفاجئ، تواصل معي أحد مسؤولي المنصة مباشرةً وأكد أنهم يريدون تشجيع المحتوى التثقيفي. عاد الحساب خلال أقل من 24 ساعة، لكن التجربة علّمتني مدى هشاشة هذه السياسات، وأظهرت في المقابل حجم الدعم الشعبي”.
لا تتوقّف القيود عند هذا الحد، فالكثير من الفيديوهات تختفي فجأة أو تتراجع نسبة مشاهداتها بلا سبب واضح. بحسب عطاالله، “هذا دليلٌ على تقييدٍ غير معلن، أي ما يُسمّى بالحظر المظلّل (shadow banning)، وهو شكلٌ من أشكال الرقابة الصامتة”، وتضيف: “البلاغات الجماعية خطيرة جداً، لأنها قد تؤدي إلى إغلاق الحساب فوراً حتى لو لم يكن هناك أي مخالفة. في حالة “ميتا”، الأمر أكثر تعقيداً وقسوة هو كونها تسمح بالمحتوى الجنسي الصريح لأنه يصرف الأنظار عن القضايا السياسية، وتمنع في الوقت نفسه التثقيف المتعلق بالصحة الجنسية والإنجابية”.
في هذا السياق، أظهرت دراسة أعدّتها منظّمة “سمكس” بعنوان “من المشاركة إلى الصمت” عام 2024، أنّ منصّات التواصل الاجتماعي، تعاملت بصرامة غير مبرّرة مع محتوى ساندرين عطالله، رغم طابعه العلمي والتوعوي.
وبحسب تقرير “حرية الإنترنت” (Freedom on the Net) لعام 2023، تعاني حرية التعبير عبر الإنترنت من قمعٍ شديد، ولا سيما في مواضيع محدّدة منها الصحة الجنسية و حقوق المرأة. يفرض هذا الواقع قمعاً رقمياً على الناشطين/ات والصحافيين/ات في هذا المجال، ويجعلهم/ن عرضةً لمضايقاتٍ مسمرّة بسبب عملهم/ن.
علاوة على ذلك، خلصت النتائج إلى أنّ المحتوى المرتبط بالصحة الجنسية والإنجابية غالباً ما يُصنّف تلقائياً ضمن خانة “المحتوى الجنسي أو غير الملائم”، ما يؤدّي إلى حذف منشورات تعليميّة، أو تقييدها، أو رفض الإعلانات الخاصة بها. وبيّنت الدراسة أنّ المواد التوعوية والطبية، التي ينشرها مختصّون موثوقون ومؤهّلون، تُعامَل بالطريقة نفسها التي يُعامَل بها المحتوى الإباحي.
على سبيل المثال، ولم تسلم من هذه الصعوبات منصّة “متلي متلك”، التي أنشأتها عطالله بالتعاون مع الطبيبة غاييل أبو غنام لتكون مساحة رقميّة لمناقشة قضايا الصحة الجنسية والإنجابية للنساء، من هذه الصعوبات. فالإعلانات المدفوعة تُرفض مراراً بسبب المصطلحات الطبية المباشرة. لكنها تؤكّد: “اخترنا الوضوح منذ البداية، لأنّ رسالتنا لا يمكن أن تصل إذا التففنا على الكلمات أو تلاعبنا باللغة”.
رغم كثرة التحدّيات التي تفرضها الشركات المالكة لوسائل التواصل والجمهور أحياناً، ترى عطالله في إطلالاتها على هذه المنصّات امتدادً لعملها داخل العيادة، ووسيلة للوصول إلى جمهور عربي واسع يعاني من غياب المعرفة الأساسية حول الجسد والصحة الإنجابية. فأمورٌ تعدّ ضمن ألف باء التربية الجنسيّة، مثل التشنج المهبلي، والعلاقات غير الآمنة، والتحرّش، لا بدّ من الحديث عنها لأنّ تغييبها يحرم الأفراد من ممارسة حقوقهم ويعرّضهم للخطر.
في ختام مقابلتها مع “سمكس”، تشدّد عطالله على أنّ الأثر بالنسبة لها يُقاس من خلال النتائج التي تحقّقها منصة “متلي متلك”، فيما يبقى الحضور الرقمي معركة يوميّة مع المنصات: “لا أريد أن ألعب هذه اللعبة السخيفة مع الخوارزميات. أصرّ على أن تبقى لغتي علميّة وصريحة، لأنّ التوعية في مجال الصحة والحقوق الجنسية والإنجابية هي ضرورة وحق، ومهما كانت التعليقات السلبيّة حادّة أو مهينة، تبقى خارج دائرة اهتمامي”.
على الرغم من قسوة لعبة الخوارزميات، وتكرار خطاب الكراهية، والابتزاز الذي تمارسه سياسات الإشراف على المحتوى بحق الخبراء والأكاديميين/ات الموثوقين، تمثّل ساندرين عطاالله نموذجاً ناجحاً لمقاومة قمع الشركات العملاقة. كانت مقاطع الفيديو التي تنشرها عطاالله في بادئ الأمر عملاً طُلب منها إنجازه، إلا أنّها تحوّلت لاحقاً إلى رسالة تغذّيها حاجة الجمهور وضرورة التوعية.
نذكّركم أنّ “منصّة دعم السلامة الرقميّة” في “سمكس” جاهزة دائماً لتقدّم لكم/ن الدعم في حال تعرّضكم/ن لأيّ نوعٍ من العنف الرقمي. يستطيع فريقنا تقديم نصائح وإرشادات ستساعدكم/ن على تعزيز أمنكم/ن الرقمي، بالإضافة إلى التواصل مع منصّات التواصل لحذف المحتوى المسيء وأرشفته.
*يمكنكم/ن التواصل مع منصّة دعم السلامة الرقميّة في حال تعرّضتم/ن لأيّ نوعٍ من العنف الرقمي، وذلك عبر:
-واتساب أو سيغنال: 0096181633133 (رسالة نصية أو صوتية)
-البريد الإلكتروني: helpdesk@smex.org
كونوا بأمان!