بعد عامٍ في الخارج، عاد خالد، وهو مغتربٌ لبنانيّ، إلى وطنه ليكتشف أنّ رقم هاتفه الذي يملكه منذ 20 عاماً، والمرتبط بهويته الشخصية والرقمية، قد أصبح ملك شخص آخر دون علمه أو موافقته. ولم يكتفِ المالك الجديد باستخدام الرقم فحسب، بل وصل أيضاً إلى حساب خالد على “واتساب”، ما شكّل انتهاكاً فاضحاً لحقه الأساسي في الخصوصية.
وعلى الرغم من محاولاته العديدة لاستعادة رقمه من شركة “تاتش” (Touch)، وهي واحدة من شركتي الاتصالات المملوكتين للدولة في لبنان، لم تُقابل مطالبه سوى باللامبالاة.
في مقابلة مع “سمكس، قال خالد إنّ “هذا انتهاكٌ للخصوصية، واحتيالٌ صريح. عندما تواصلت مع شركة “تاتش”، قالوا لي إنّهم لا يستطيعون مساعدتي إذا لم أدفع فاتورتي قبل انتهاء فترة السماح، وأنّه عليّ أن أتحدّث شخصيًاً مع مالك الرقم الجديد لكي أشتريه منه”.
لم يعد اليوم رقم الهاتف الشخصي مجرّد وسيلة للتواصل، بل أصبح بوابةً إلى الخدمات المصرفية وتطبيقات المراسلة والتواصل الاجتماعي وإجراءات التحقّق بخطوتين. وبسبب فاتورة واحدة فائتة، وفترة سماحٍ قصيرة، قد تختفي تلك الهوية الرقمية تماماً. يُعاد تخصيص الرقم، لكنّ البصمة الرقمية تبقى، ويُترك المستخدم مكشوفاً.
سوء إدارة فاضح لأرقام الهواتف
يواجه لبنان أزمةً في إدارة أرقام الهواتف المحمولة، فبادئات الأرقام الأكثر استخداماً مثل 03 و70 و71 على وشك النفاد، لكنّ البادئات الأحدث مثل 78 و79 و81 لا تزال غير مستخدمة إلى حدٍّ كبير. وبدلاً من تطوير إستراتيجيةٍ حديثة لتخصيص الأرقام، تقوم شركتا الاتصالات “ألفا” و”تاتش” بإعادة استخدام الأرقام غير النشطة، وغالباً خلال فترةٍ زمنية قصيرة.
تنشأ هذه الحاجة الضخمة في السوق من نمو قاعدة المستخدمين بشكلٍ كبير، إلى جانب النقصٍ الشديد في بطاقات السيم المتوفّرة. ويُعزى الفشل في تطبيق حلولٍ فعّالة إلى سوء الإدارة المنتشر، والفساد المتفشي، والافتقار الجوهري للحوكمة داخل قطاع الاتصالات.
يقول خبير الاتصالات وسيم منصور في حديثٍ لـ”سمكس” إنّ “هذه ندرة مصطنعة. فالمشكلة ليست في عدد أرقام الهاتف، بل في غياب خطّة حديثة وشفّافة وقابلة للتوسّع في ما يتعلق بتخصيص الأرقام”.
مشكلة فترة السماح
تواصلت “سمكس” مع خدمة الدعم في شركتَي “تاتش” و”ألفا” للاستفسار عن مدة فترة السماح، وجاء الرد المشترك: “10 أيام للخطوط اللاحقة الدفع و5 أيام للخطوط المسبقة الدفع”. وما يثير القلق أكثر هو تصريحهم بأن “لا شيء مضمون بعد انتهاء فترة السماح”.
وأكّد فريق الدعم في “تاتش” أنّ شريحة سيم تُطرح للبيع في السوق بعد 30 يوماً من انتهاء فترة السماح لخطوط الدفع المسبق، وبعد 90 يوماً للخطوط اللاحقة الدفع، علماً أنّ حوالي 94٪ من مشتركي الهاتف المحمول في لبنان يستخدمون خطوطاً مسبقة الدفع.
أمّا فريق الدعم في “ألفا”، فأعلم “سمكس” أنّ بعد فترة السماح وفترة انتظار مدّتها 30 يوماً، لا ضمان لاسترجاع الرقم. ووضّح مصدر آخر من داخل الشركة “أنّ نظاماً رقمياً يختار الأرقام عشوائياً لإعادة تدويرها وإطلاقها مجدداً في السوق”.
تؤدّي هذه السياسة المقلقة إلى آثار خطيرة على خصوصية المستخدمين، لأنّ إعادة تخصيص الرقم يعرّض الأفراد إلى خطر وصول مستخدمين آخرين إلى تطبيقات المراسلة، واعتراض المكالمات، وسرقة الهوية، وحتى محاولات لاختراق المصادقة الثنائية المرتبطة بالرقم.
في معظم الدول، يحصل المستخدم على مهلةٍ إضافية بعد انتهاء فترة السماح تصل إلى 90 يوماً أو أكثر، لضمان عدم المساس بالخصوصية والأمان. أمّا في لبنان، فيبدو أنّ السياسة الحالية تنقل المسؤولية من الشركتين وسوء الإدارة فيهما إلى المستخدمين.
حلول بسيطة بانتظار التنفيذ
تشمل بادئات أرقام الهواتف المحمولة اللبنانية المُسجَّلة رسمياً لدى الاتحاد الدولي للاتصالات 3 و70 و71 و76 و78 و79 و81، يليها ستة أرقام. وأثناء مراجعتنا لخطة الترقيم الوطنية (NNP) للبنان لدى الاتحاد، تبيّن لنا أنّ الحالة اللبنانية تُعتبر فريدة مقارنةً بدول أخرى مثل الإمارات، حيث تتوفّر أيضاً شركتان فقط لتشغيل الهواتف المحمولة.
يعود هذا التعدّد في البادئات، بحسب خبير الاتصالات وسيم منصور، إلى نقصٍ جذري في الأرقام المتوفّرة.
فيشرح منصور أنّ “العديد من الدول وسّعت قدرة الترقيم لديها بدون التأثير على المستخدمين. ويتمثّل أحد أبسط الحلول في إلغاء الرقم التمهيدي القديم ‘0’ وإعادة هيكلة بادئات الهواتف المحمولة وفقاً لذلك”. وتُعرف البادئات التمهيدية على أنّها رقم يُستخدم عند الاتصال من منطقة إلى أخرى داخل نفس الدولة.
على سبيل المثال، بدلاً من الرقم 03-123456 يصبح الرقم 31-123456، ما يفتح المجال أمام ملايين التركيبات الجديدة بدون تغيير جوهر الرقم الخاص بالمستخدم.
“هذا الحل وحده يمكن أن يزيد الأرقام المتاحة لكل بادئة تسع مرات”، يضيف منصور. “ويبقي الرقم المكوّن من ستة أرقام كما هو”. إذاً، لماذا لم يُطبّق هذا الحلّ بعد؟
خسارة شخصية تلمّح إلى خطر وطني
تُعد الهيئة المنظمة للاتصالات في لبنان (TRA)، التي أُنشئت بموجب قانون الاتصالات رقم 431 في عام 2002، الجهة المسؤولة قانوناً عن إدارة موارد الترقيم وحماية المصلحة العامة.
مع ذلك، فإنّ الهيئة غير نشطة عملياً، ووزارة الاتصالات استحوذت على جميع صلاحياتها. تُتخذ قرارات الترقيم خلف أبوابٍ مغلقة، ودون شفافية، ولا سجل عام، ولا خارطة طريقٍ للسياسات، رغم أنّ القانون يُحمّل الهيئة المنظمة المستقلة هذه المسؤولية.
“هذا فشلٌ في الحوكمة بقدر ما هو فشلٌ تقني”، يشدّد منصور.
بينما يحاول لبنان الترويج لنفسه كمركزٍ للابتكار الرقمي والإصلاح، يواجه تناقضاً أساسياً: لا يمكنه ضمان حق السكان في الاحتفاظ بأرقام هواتفهم، وهذا أساس الهوية الرقمية.
لبنان بعيدٌ جداً أيضاً عن تطبيق خدمة نقل رقم الهاتف، وهي حق أساسي في معظم الأسواق الحديثة للاتصالات. وهذا يعني أنّ المستخدمين مضطرون للتخلي عن أرقامهم إذا أرادوا الانتقال من مشغّلٍ إلى آخر، ما يُضعف تحكّمهم في بياناتهم ويُقوّض “المنافسة العادلة”.
تؤثّر هذه الأزمة على العديد من الأشخاص، مثل خالد، إذ تطال بشكل خاص أبناء الجاليات الذين يعودون في فصل الصيف، وروّاد الأعمال الذين يسجّلون خطوطاً لشركاتهم الناشئة، أو المقيمين الذين تعذّر عليهم تعبئة خطوطهم مؤقتاً بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة.
يحذّر منصور قائلاً: “هذه الممارسات تُقوّض الثقة، والأمان، والسيادة الرقمية. وإذا لم نتحرّك الآن، فسيتم إقصاء لبنان عن الاقتصاد الرقمي العالمي، ليس بسبب عقوباتٍ خارجية أو نقصٍ في الكفاءات، بل بسبب رفضه الداخلي لمواكبة الحداثة”.
الصورة الرئيسية من AFP.