عندما تعرّضت ريهام لنوبة قولون عصبي قاسية لم تستطع الاتصال بالإسعاف أو حتى بصديقتها لطلب المساعدة، بسبب انقطاع شبكتي الإنترنت والاتصالات.
“كنت وحدي، وأغمي عليّ من شدة الألم. استيقظت بعد ساعةٍ كاملة على اتصالٍ من أمّي، فطلبت منها الاتصال بصديقتي لتأتي إلى المنزل وتأخذني إلى المستشفى”، تقول ريها في حديثٍ لـ”سمكس”.
فيما يزداد التوجه عالمياً إلى تحسين خدمات الإنترنت من حيث الجودة والسرعة ودوام التوفّر، مازالت سورية تمارس سياسة حجب الإنترنت والاتصالات خلال امتحانات شهادتي الثانوية والتعليم الأساسي بكل فروعها. وتقطع السلطات الاتصالات منذ 26 أيار/مايو الماضي من الساعة 8 حتى 9:30 صباحاً، وتحجب الإنترنت لثلاثة ساعاتٍ على الأقلّ وفقاً لبرنامجٍ محدّد، “استجابة لطلب وزارة التربية […] من أجل تحقيق العدالة والنزاهة في سير العملية الامتحانية للشهادة الثانوية والإعدادية بمختلف فروعها للدورة الأولى لعام 2024″.
تبدو هذه مفارقةً غير منطقيّة، بالنظر إلى استراتيجية الحكومة السورية الحالية التي أطلقت بموجبها وزارة الاتصالات العديد من الخدمات الإلكترونية، في ما اعتبرته خطوة تمهيديّة للتحول الرقمي المرتقب للجمهورية السورية عام 2030. أضف إلى ذلك أيضاً، وعد وزير التربية عام 2021 دارم طباع، بعدم قطع الإنترنت خلال فترات الامتحانات، والذي لم تلتزم به الحكومة أصلاً.
أضرار قد تصل حدّ الموت
على الرغم من كثرة الأصوات المعارضة لقرار قطع الإنترنت السنوي في سوريا، لم تُعر السلطات اهتماماً لحجم الضرر الناتج عن قرارها هذا، والذي يهدّد جميع قطاعات البلاد الحيويّة، والعمليات المصرفيّة، وتوفّر الخدمات الطبّية، مما يهدّد حياة وسلامة المواطنين/ات.
في 6 حزيران/يونيو الجاري، وبالتزامن مع فترة الامتحانات، تسبّب حجب شبكة الاتصالات والإنترنت بوفاة أم مع أطفالها الثلاثة بحريق في منطقة الديماس بريف دمشق، ورقود زوجها في العناية المشددة، بعد أن عجزت الأسرة عن التواصل مع أحدٍ وطلب المساعدة عقب نشوب حريقٍ في منزلهم. وتعليقاً على الحادثة، قال رئيس بلدية قرى الأسد، مازن عون، بأنّ “سبب انقطاع الاتصالات الخليوية صباحاً بسبب الامتحانات ساهم بتأخير إعلام سيارات الإطفاء، ما اضطرّنا لاستخدام صهريج البلدية عوضاً عن ذلك، لكننا كنا بحاجة إلى المزيد من السيارات بسبب عجزنا عن السيطرة على الحريق”.
للعاملين عن بُعد حصّة يسيرة من الضرر الناجم عن قطع الإنترنت، لاسيما فيما يتعلق بمواقع الأخبار العاجلة التي تتطلّب استجابة سريعة.
تقول ريم، وهي مدقّقة لغويّة تعمل عن بُعد مع موقعٍ إلكتروني مقرّه ألمانيا، في حديثٍ لـ”سمكس”: “تستوجب طبيعة عملي بقائي على استعداد تام لتدقيق الشريط الإخباري والأخبار اليومية المستجدّة. كنت قد شرحت لمديري ‘الاستراتيجية’ التي يتم إتباعها هنا (في سوريا) لمنع الغش، ما دفعه إلى توكيل زميلٍ لي في بلدٍ آخر هذه المهمّة، وتولّيت أنا مهمة تدقيق المواد غير الطارئة”.
حذرت مفوضيّة الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان، في تقرير أصدرته في حزيران/يونيو 2022، من آثار حجب الإنترنت المأساوية على أرض الواقع، والتي تمسّ بحياة الناس وحقوق الإنسان.
وأضافت المفوضيّة في تقريرها أنّه”وحتّى عندما تعترف السلطات بأنها أمرت بالتعطيل، فهي غالباً ما تشير في تبريراتها إلى صون السلامة العامة، أو احتواء التحريض على التمييز والأعمال العدائية والعنف، أو مكافحة المعلومات المضللة. ومع ذلك، يصف التقرير كيف تؤدي عمليات الحجب في الكثير من الأحيان إلى العكس تمامًا، ما يزيد من الخوف والارتباك ويؤجج مخاطر الانقسام والنزاع”.
تزامنت فترة قطع الإنترنت والاتصالات مع فترة اختبار عمل جانسيت في وظيفتها الجديدة كمترجمة تعمل عن بُعد. وقد أثّّر سلباً على تقييمها تأخرها في الردّ وإتمام المهام، بعد أن أكّدت قدرتها على العمل في ظلّ التحديات اللوجستيّة الطفيفة.
في حديثٍ مع “سمكس”، تقول جانسيت: “تم قبولي في عمل الترجمة عن بعد مع إحدى المجلات البريطانية، إلا أنّ لتوقيت لم يكن لصالحي، إذ تزامن كلّ هذا مع فترة حجب الإنترنت. وكنت قد أكّدت قدرتي على تسليم المواد في الموعد المحدد وأنني سأسعى على تذليل العقبات، لكنني حصلت على التقييم الثالث وتفوّق عليّ آخرون مقيمون في دولٍ أخرى”.
“شرحت موقفي للمدير الذي تفهّم باعتباره مطلعاً على أحوال الشأن السوري، غير أنّ الراتب انخفض بسبب عدم قدرتي على الاتزام بمواعيد التسليم المتفق”، تكمل جانسيت.
يُعدّ الاتّصال ضعيفاً أصلاً في سوريا. وسبق أن ردّت السلطات على الاحتجاجات من خلال خنق الوصول إلى الإنترنت. ويزداد الوضع سوءاً بسبب الحرب المستمرّة في سوريا والأضرار التي لحقت بالبنية التحتيّة التي لا تزال تؤدّي إلى تعطيل خدمات الاتّصالات، لا سيّما في المناطق الريفيّة؛ ما يصعّب توفير الاتّصال، ويدفع بشركاتٍ مثل مجموعة “أم.تي.أن” (MTN) إلى الخروج من السوق السوريّة.
ليس حلاً للغش
يؤثّر قطع الإنترنت على المجتمع تأثيراً كبيراً ومتنوّعاً. فمن الناحية العملية، يحرم الناس من حقوقهم، مثل حرّية التعبير والحصول على المعلومات، والحقّ في التعليم والحقّ في العمل. ومن ناحية أخرى، يؤدّي إلى تزعزع ثقة الناس في خدمة الإنترنت لا سيما وأنّ الإنترنت غير الموثوق يثير علامات استفهام حول مركزيته.
من جهتها، ترى جمانة، وهي معلمة في القسم الثانوي، بأنّ الحجب إجراءٌ فاشل وغير مجدٍ لن يحدّ من الغش : “حتى في حالات الحرب، لا يجوز قطع الإنترنت والاتصالات، فما بالك بفترات الامتحانات؟ بإمكانهم ممارسة التفتيش الصارم للطلاب مثلاً. هناك أساليب عديدة ما زالت متاحة لتسريب الأسئلة ولا يجدي قطع الإنترنت نفعاً معها. لا علاقة لهذه الخطوة بنزاهة الامتحانات، فهي انتهاكٌ واضح لحقوق الإنسان”.
وقد حذّر خبراء اقتصاديون سوريون بالفعل في أوقات سابقة من أنّ لقطع الإنترنت آثاراً خطيرة، خصوصاً “مع تضرر القطاع المصرفي خلال ساعات القطع، بسبب توقف عمليات الإيداع والسحب المرتبطة بالإنترنت”، بحسب المحلل الاقتصادي عمار يوسف، الذي يضيف في حديث صحافي في العام 2021 أنّ “حالة الاحتياجات الاضطرارية سواء في الإطفاء، الإسعاف، الحوادث، جميعها تتأثر بقطع الاتصالات والإنترنت”.
ونوّه يوسف إلى أنّ القطع يؤدي أيضاً إلى اختفاء تواصل البلاد مع كل دول العالم وخروجها من المنظومة العالمية في لحظة من اللحظات، وأنّها تسبّب حالة من الضيق عند المواطن والمؤسسات الحكومية، وتُعطل سير المعاملات صباحاً، وتتسبب بشلّ قطاعات الدولة والشركات الخاصة.
خسائر فادحة بسبب قطع الإنترنت
قد تنكر السلطات حقيقة وحجم الضرر الذي ينتج عن قرارات قطع الإنترنت السنويّة، بذريعة أنّ مؤسساتها مرتبطة ببعضها من خلال بشبكة داخلية عبر خادم مركزي، بحسب المحلل الاقتصادي السوري عابد فضيلة، في مقابلة مع “سمكس”.
لناحية الأرقام، يؤكّد فضيلة لـ”سمكس” أنّ الخسائر المالية الناتجة عن قطع الاتصالات والإنترنت تصل إلى 80 مليار ليرة سورية في العام الواحد (أكثر من 6 ملايين دولار أميركي)، علماً أنّ متوسّط الناتج المحلي الإجمالي السنوي هو 9 مليارات دولار أميركي، إذا اعتبرنا أنّ أيام العمل الفعلية السنوية هي 313 يوما في السنة، وأنّ متوسط طول وقت قطع الاتصالات هو ساعة ونصف للاتصالات وساعتين للإنترنت (مع أنّها تتعدّى هذه المدّة).
وبالفعل، يدّق خبراء الاقتصاد السوريّون/ات ناقوس الخطر، مشيرين على وجه الخصوص إلى أنّ إجراءات القطع تمنع الوصول إلى الخدمات المصرفيّة، محذّرين من الضرر الكبير الذي قد يصيب القطاع المصرفيّ بسبب قطع الاتّصال.
أثبتت التجارب عدم فعاليّة قطع الإنترنت في أثناء الامتحانات إلى حدٍّ كبير، لا بل أكّدت أنّ إجراءات القطع تقوّض الاقتصاد السوري، وتلحق الضرر بكافّة الشركات التي تعتمد في عملها على اتّصالٍ مستقرٍّ بالإنترنت، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر. ولذلك تداعياتٌ سلبيّة للغاية، فمع حلول منتصف العام 2023، تخطّت نسبة السوريّين/ات الذين يعيشون تحت خطّ الفقر 90%، وبات نصف السكّان غير قادرين/ات على الحصول على غذاءٍ جيّد أو تحمّل تكلفته، كما وصل عدد الأشخاص الذين يحتاجون إلى مساعداتٍ إنسانيّة إلى ما لا يقلّ عن 15 مليون شخص.
الصورة الرئيسية من أ ف ب.