شهدَ ملتقى “خبز ونت” في هذا العام إقبالاً كثيفاً فاقَ توقّعاتنا! انضمَّ أكثر من 800 مُشارِك ومُشارِكة إلى هذا اللقاء الذي تحوَّلَ إلى ما يمكن اعتباره واحداً من أكبر الملتقيات حول حقوق الإنسان في المنطقة الناطقة بالعربية.
في أكثر من 100 جلسة ضمن 19 مسار عمل، تناولنا أبرز التحدّيات التي تُهدِّد حقوقنا وحرّياتنا في الفضاء الرقميّ. وبحثنا في سُبُل التعاون للدفاع عن هذه الحقوق والحرّيات وفُرَص التضامن في المنطقة الناطقة بالعربية وبلاد الاغتراب.
في النسخة الخامسة من ملتقى “خبز ونت”، جدَّدْنا التواصل مع الكثير من أصدقائنا وشركائنا بعد عامَيْن من الاجتماع والتنظيم والمناصرة عبر الإنترنت. وشكَّلَت رؤية بعضنا البعض والمناقشات الشخصية التي دارَت بيننا مُتنفّساً طالَ انتظاره، وخصوصاً بعد الوباء العالمي الذي قيَّدَ حركتنا وعملنا على الأرض.
بالإضافة إلى القيود التي فرضتها الجائحة، واجَه المُشارِكون والمُشارِكات من بلدان المنطقة قيوداً من نوعٍ آخر فرضتها عليهم الأنظمة الاستبدادية في دُوَلهم التي تُطبِّق تدابير تأديبية ضدّ كلّ مَنْ يُمارِس حقّه في حرّية الرأي والتعبير. رأينا كيف تواطأت الدول على مرّ السنين مع شركات التواصل الاجتماعي لفرض الرقابة والتلاعب بالخطاب المحلّي عبر الإنترنت في بلدانها. تعاونت الحكومات مع جهات خاصّة لتطوير تقنيات تطفُّلية من أجل التجسُّس على النشطاء والصحفيين/ات وملاحقتهم/نّ. شهدنا الكثير من حالات قطع الإنترنت، وكذلك محاولات إغراق منصّات التواصل الاجتماعي بالمعلومات المغلوطة والروبوتات التي تُجاهِر بولائها لهذه الأنظمة.
اجتمعنا في ملتقى “خبز ونت” مع صحافيين/ات ومُدافِعين/ات عن حقوق الإنسان ومنظّمات وكثيرين غيرهم/ن ممّن يعملون معاً لتعزيز حقوق الإنسان وكل ما يربطها بالتكنولوجيا ومعالجة هذه القضايا بالرغم من التهديدات المتزايدة. وجدنا مساحةً للتضامن ومهّدنا الطريق لجهود مشتركة تهدف إلى دعم الحقوق والحرّيات الرقمية في المنطقة. وتعرَّفَ المنظّمات والأفراد على أعمال بعضهم بالإضافة إلى تجديد الروابط القديمة.
وفي هذه المناسبة، قالَ محمّد نجم، المدير التنفيذي لمنظّمة “سمكس”: “هذه هي المرّة الأولى التي نلتقي فيها شخصياً في “خبز ونت” منذ عام 2019، ومن الواضح أنَّ الملتقى قد تطوَّرَ من حيث العدد وأيضاً من حيث عمق المواضيع التي تُناقَش فيه”. وأضاف: “أنا متفائل بأنَّ شبكات الحقوق الرقمية في منطقتنا ستستمرّ في النموّ رغم التحدّيات”.
ما يُميِّز ملتقى “خبز ونت” فعلياً هم الناس الذين ينتمون إليه. على مدار ثلاثة أيّام، أُتيحت الفرصة للمُشارِكين والمُشارِكات لمعرفة المزيد عن الكوادر التي تعمل خلف الكواليس: التقينا وتناولنا الأطعمة والمشروبات معاً، وشاهدنا فيلم “المعارض” (The Dissident)، وضحكنا (وبكينا) في عرض “الدراغ”، وودّعنا بعضنا البعض في الحفل الختامي.
مسابقتان ضمن فعاليات “خبز ونت”. أجرينا مسابقة للشباب والشابات المهتمّين بالكتابة عن قضايا الحقوق الرقمية، ومسابقة أخرى للكُتّاب المهتمّين بتصوُّر مستقبل بديل لوجودنا الرقميّ. الكُتّاب الثلاثة الذين وقعَ الاختيار عليهم هم: ساشا ربعمد، وإبراهيم جوهري، ووديع حدّاد. أمّا المواضيع فشملت مسألة تسخير التكنولوجيا لنقل المعرفة حول الطبيعة إلى الأجيال القادمة، ودمج التصويت الإلزامي عبر الهواتف الذكية، واستخدام التكنولوجيا (seeding technology) للبحث عن أفراد الأسرة والعثور عليهم.
أبرز الجلسات وأهمّ النتائج
سياسة البيانات
بحَثْنا في الآثار المترتّبة على استضافة مراكز البيانات في إسرائيل والبلدان التي تعتمد نظاماً سُلطوياً مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة. وأشارَ الزميل الباحث أكسل إيك في إحدى الجلسات إلى أنَّ “البيانات تخضع لقانون البلد المُضيف جغرافياً. وصحيحٌ أنَّ البلدان التي تُقام فيها مراكز البيانات لديها قوانين لحماية البيانات الشخصية، إلّا أنَّ هذه القوانين تستخدم لغةً غامضة، وتحتوي على ثغرات واستثناءات للحالات المتعلّقة بـ”السلطات العامّة”، و’الأمن القومي‘ و’السُّمعة‘”. وفي جلسة أخرى، عرضَت عفاف عبروقي من “سمكس”، وجيسيكا دير من “تصنيف الحقوق الرقمية” (Ranking Digital Rights)، النتائج التي توصَّلَ إليها تقريرٌ جديد أعدّته منظّمة “سمكس” باستخدام منهجية “تصنيف الحقوق الرقمية” لتقييم سياسات الخصوصية والأمن في تطبيق “هيّا”، التطبيق الإلزامي الذي يجب على المُشجِّعين تنزيله واستخدامه لدخول قطر والملاعب خلال مباريات كأس العالم 2022. تُعَدّ سياسة الخصوصية التي يعتمدها هذا التطبيق مصدر قلق بسبب غياب الشفافية من حيث طريقة جمع المعلومات المتعلّقة بملايين المُستخدِمين، ومعالجتها ومشاركتها والاحتفاظ بها، وهي لا تفي بمعايير “تصنيف الحقوق الرقمية”.
قطع الإنترنت
في عدد من الجلسات التي تناولت موضوع الوصول إلى الإنترنت، كشفَ المتحدّثون كيف لجأت الدول إلى قطع الإنترنت بلا حسيب أو رقيب مُتذرِّعةً بمبرّرات مختلفة. في الأردن مثلاً، زعمت الحكومة أنَّ هذا الإجراء يهدف إلى الحدّ من الغشّ أثناء الامتحانات الرسمية. وفي السودان، كانت الحجّة “حماية الأمن القومي” و”الحدّ من التدخُّل الأجنبي”. في الواقع، تزامنت هذه التدابير مع حالات من الاضطراب السياسي، كما هو الحال في إيران اليوم، حيث يُقطَع الإنترنت عمداً لإحباط جهود التنظيم الجماهيري وعزل المواطنين لمنعهم من الوصول إلى جمهور دولي وإخفاء الانتهاكات والجرائم التي ترتكبها الدولة. يؤدّي الاتّصال غير الموثوق بالإنترنت إلى خفض النشاط الاقتصادي وإبطاء عجلة الابتكار والاستثمارات، الأمر الذي يؤثّر سلباً على اقتصادات الدول. كما أنَّ قطع الإنترنت يُعيق مساعي التحوُّل الرقمي ويُقوّض حرّية التعبير والحقّ في التواصل والوصول إلى المعلومات.
العنف الإلكتروني القائم على الإنترنت
تناولت المناقشات أيضاً تزايُد العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي عبر الإنترنت في منطقتنا، بما في ذلك التنمُّر عبر الإنترنت، والتحرُّش عبر الإنترنت، ونشر المعلومات الشخصية الخاصّة عبر الإنترنت، ومشاركة المحتوى الإباحي عبر الإنترنت من دون موافقة الشخص المعنيّ بهدف الانتقام، والمطاردة عبر الإنترنت، والتشهير. تُعتبَر استجابات الحكومات وشركات التكنولوجيا في مواجهة هذه التهديدات بطيئة جداً أو معدومة. وفي إطار المواضيع التي تتقاطع بين التكنولوجيا والصحّة العامّة، عقدنا جلسات حول الرقابة على المحتوى المتعلّق بالصحّة والحقوق الجنسية والإنجابية في المنطقة. كما قدَّمت منظّمة “المادّة 19″ (ARTICLE 19) و”هيومن رايتس ووتش” أبحاثهما الجارية حول أشكال القمع الرقميّ ضدّ المجتمعات الكويرية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
إدارة المحتوى
أُتيحت الفرصة للمُشارِكين والمُشارِكات للانضمام إلى حلقة نقاش مع عضو مجلس الإشراف خالد منصور والاطّلاع على آليات تحديد المحتوى الذي يجب إزالته وإعادته ولماذا. تطرّقت جلسات مجلس الإشراف إلى بعض التحدّيات المتعلّقة بإشكالية إدارة المحتوى على الصعيد العالمي، وخصوصاً التحدّيات التي تواجه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وبالرغم من ذلك، “تبقى شركات وسائل التواصل الاجتماعي غائبة إلى حدّ كبير ولا تُحرِّك ساكناً حيال قضايا إدارة المحتوى التي يُثيرها الناشطون في مجال الحقوق الرقمية على مستوى المنطقة”، بحسب ضيا كيالي من قسم المناصرة في منظّمة “نيمونيك” (Mnemonic)، وهي منظّمة غير ربحية تُعنى بتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم الدولية باستخدام الأدلّة الرقمية: “ممثّلو الشركات لا يُشارِكون أبداً في المؤتمرات الإقليمية، ولا يعرفون شيئاً عن واقع الحقوق الرقمية”.
الاستبداد الرقمي
كيف يمكننا تقديم دعم أفضل للنضال من أجل حرّية الناشطين/ات المسجونين في البلدان الناطقة بالعربية؟ فالعدد الكبير من الناشطين الذين يُحاسَبون بسبب أنشطتهم السلمية والمشروعة في مجال حقوق الإنسان هي فعلاً مشكلة مزمنة في المنطقة. وكما عبّرت مروة فطافطة من “أكسس ناو” (AccessNow): “ثمّة الكثير من الأشخاص الذي سُجِنوا لأنَّهم عبّروا عن رأيهم عبر الإنترنت، وليس لدينا القدرة على مساعدتهم جميعاً. هناك بعض الحالات الرمزية مثل علاء عبد الفتّاح حيث إنَّ #الحرّية لعلاء تعني المُطالَبة بالحرّية لهم جميعاً”. واقترحت راشيل كاي من “آيفكس” إطاراً مُنقَّحاً للمناصرة الفعّالة يتضمّن إقامة علاقات تعاون حقيقية، وتعزيز الأجندات السياسية والمؤسّسية من خلال العمل مع الآليات المحلّية والإقليمية والدولية، وتخصيص الوقت الكافي للاختبار والتعلُّم والتقييم معاً، وتشجيع الرعاية والاختبار العلمي في نهجنا.
مسار ملتقى “خبز ونت” على مدار خمس سنوات
2018
نكاد لا نُصدِّق التقدُّم الذي أحرزناه منذ أوّل ملتقى لـ”خبز ونت”. عندما التقينا قبل خمس سنوات، لم نكن أكثر من 200 شخص؛ واليوم، ازدادت أُسرتنا بأربعة أضعاف. في عام 2018، نفتخر بأنَّنا عقدنا 35 حلقة نقاش – معظمها باللغة العربية – حيث تناولنا مواضيع متنوّعة مثل السياسة في السياقات الصعبة، والشبكات والمجتمعات، وإنتاج الثقافة والمعرفة، واللغة والأقلمة.
2019
في العام التالي، تزامنَ ملتقى “خبز ونت” مع تظاهرات تشرين الأوّل/أكتوبر التي عمّت لبنان سنة 2019 التي تلاها تغيَّرات جذرية في البلد. نُظِّمت تحرُّكات احتجاجية حاشدة وبرزَت معها روح الثورة في إطارٍ من التضامن على الصعيد الوطني. وبالرغم من أنَّ الطبقة الحاكمة نفسها التي انتُقِدَت واستُهدِفَت في عام 2019 ما زالت في السلطة اليوم، إلّا أنَّ الانتفاضات فتحت مجالاً جديداً للوعي الاجتماعي الثوري. وانعكسَ ذلك في محادثاتنا حول الحقوق الرقمية، وخصوصاً حرّية التعبير والأمن الرقمي والتعبئة والمناصرة عبر الإنترنت أثناء فترات الاضطراب السياسي والتغيير الاجتماعي. عقدنا جلسات “خبز ونت” في المكان المخصّص، كما انتقل بعضها إلى الساحات العامّة حيث وتمحورت نقاشاتُنا حول إنشاء شبكات من التضامن في مختلف البلدان الناطقة بالعربية التي كانت تشهد تحوُّلات جذرية مماثلة.
2020-2021
خلال السنتَيْن التي انتشرَ فيهما وباء كورونا، عقدنا ملتقى “خبز ونت” عبر الإنترنت مع بثّ مباشر للجلسات لأوّل مرة. وكانت فرصةً لتوسيع نطاق هذا الملتقى ودعوة أصوات جديدة للانضمام إلينا، مع السماح بإمكانية وصول أكبر للأشخاص الذين لم يتمكّنوا من المشاركة معنا شخصياً في السنوات السابقة. تركّزت أبرز النقاشات حول التكيُّف مع الواقع الجديد للوجود الرقمي. تحدّثنا عن التهديدات المتزايدة لخصوصية البيانات وأمانها، وتحديداً مع تطبيقات تتبُّع المصابين بكورونا ومنصّات تسجيل عمليات التطعيم وجوازات السفر الإلكترونية الخاصّة باللقاح. وتناولنا موضوع الرقمنة – التي تسارعت وتيرتُها بسبب تفشّي الوباء – وكيف غيّرت تماماً أساليب التعبير والتواصل والحوكمة.