نُشرت هذه المقالة أولاً على موقع “جلوبال فويسز”
لم يكن محمد آيت أمغار، من إقليم أزيلال في المغرب، يتقن إلا لغته الأمازيغية الأم. في عام 1982، عندما كان في الثامنة من عمره، شعر بالغثيان داخل الفصل، فسأله المعلم مستهزئاً بالدارجة “واش واكل النخالة”؟ وهي طعاماً شائعاً للماشية. أساء محمد فهم السؤال بسبب محدودية لغته العربية، فأجاب ببراءة “نعم”. أصبح هذا الموقف مصدر تنمر عليه من زملائه في المدرسة. شارك محمد الأصوات العالمية أثر الحادثة عليه:
“كثيراً ما يتعرض الناطقون بالأمازيغية لمواقف يغلب عليها طابع التنمر خصوصًا عند احتكاكهم بتجمعات ناطقة باللغة العربية، مما يسبب نفورهم من لغتهم الأم وتهربهم من استعمالها”.
انقطعت صلة الكثير من الأمازيغ الأصليين في شمال إفريقيا بلغتهم الأم نطقاً وفهماً. يعود تهميش الأمازيغية إلى عوامل تاريخية، وثقافية، واجتماعية متعددة، بدءاً من الهيمنة الفينيقية، والاحتلال الروماني، وصولاً إلى الفتح الإسلامي، والاستعمار الفرنسي.
اعتُبرَت اللغات الوافدة مثل الفرنسية والعربية لغات رسمية، في نفس الوقت الذي أدت فيه عوامل اجتماعية واقتصادية حديثة إلى تهميش اللغة والثقافة الأمازيغية؛ حيث أصبح استخدام العربية أو الفرنسية في المعاملات الرسمية، والتفاعلات الاجتماعية والمهنية أمراً أساسياً، فيما تقلص دور الأمازيغية في الحياة العامة، وتضاءل توفر المعلومات والخدمات بها. مع الوقت، تحولت الأمازيغية من لغة معيشية إلى قضية هوية وطنية بالنسبة للأمازيغ.
يعود تاريخ اللغة الأمازيغية إلى آلاف السنين، وتتميز بتنوعها وتعدد لهجاتها.
لا توجد دراسات دقيقة حول عدد الناطقين بالأمازيغية نظرا لحساسية الموضوع؛ لكن وفقاً للمنشور المرجعي “إثنولوج” فإن أكبر كتلة من المتحدثين بالأمازيغية توجد في المغرب، بعدد 13.8 مليون متكلم، بالاعتماد على إحصاءات 2017، تليها الجزائر بعدد 8.8 مليون متكلم في سنة 2020، ثم فرنسا بعدد 1.5 مليون متكلم حسب إحصائيات نفس المصدر لسنة 2022. اعتُمدَت الأمازيغية رسمياً في الجزائر في عام 2016 وفي المغرب في عام 2011، مما مثل محطات حاسمة في المحافظة عليها كلغة وتراث ثقافي.
تأثير غياب الأمن اللغوي في المغرب على المشاركة المدنية
اللغة أداة قوية تعكس الهوية الثقافية والانتماء الاجتماعي للشعوب، كما تلعب دوراً حاسماً في الحصول على المعلومات وتبادلها. أبرز الدكتور عبد الله بوزنداك، خبير علم اللغة الاجتماعي، وتدريس وديداكتيك اللغة الأمازيغية في المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، قلة إدماج الأمازيغية في المجتمع المغربي في حوار مع الأصوات العالمية:
“الوصول إلى المعلومة هو حق طبيعي من حقوق الناطقين بالأمازيغية في جميع ربوع الوطن. نصت جميع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان على ذلك. لكن للأسف هذا غير متوفر في أغلب الإدارات والمصالح العمومية، رغم أنه لا يتطلب ميزانيات كبيرة”.
يواجه متحدثو الأمازيغية فقط صعوبات في الاندماج والمشاركة المدنية، بسبب ضيق ثقافتهم وضعف استفادتهم من الخدمات العامة والمعلومات الذي يرجع إلى غياب لغتهم الأم في الحياة العامة. نسبة إلى الدكتور عبد الله بوزنداك:
من الطبيعي أن يكون لحرمان أي مجموعة بشرية من حقوقها الثقافية تأثيراً سلبياً على سلوكها؛ فغياب الأمن اللغوي قد يؤدي إلى مقاطعة المؤسسات بشكل مباشر؛ مثل مقاطعة الحركة الأمازيغية للانتخابات طيلة فترة ما قبل سنة 2011، أو من خلال العزوف عن المشاركة السياسية بشكل عام، والذي يعبر عن عدم الرضى.
سنة 2007 قامت مجموعة كبيرة من الجمعيات الأمازيغية، والشبكة الأمازيغية من أجل المواطنة، والحزب الديمقراطي الأمازيغي بمقاطعة الانتخابات البرلمانية بسبب “عدم الاعتراف بالهوية الأمازيغية واللغة الأمازيغية في الدستور، بالإضافة إلى تهميش الدولة المستمر لقضايا الأمازيغ”.
بدأ النقاش حول القضية والحقوق الأمازيغية في المغرب في ستينيات القرن الماضي عبر مجموعة من الجمعيات، لكن استجابة الدولة الرسمية تأخرت حتى القرن 21؛ بدأت سيرورة المكتسبات بعد خطاب أجدير التاريخي في 17 تشرين الثاني/ أكتوبر2001، حين أكد الملك محمد السادس على أن الأمازيغية ملك لكل المغاربة بدون استثناء وكونها مكون أساسي للثقافة المغربية، وأن النهوض بالأمازيغية مسؤولية وطنية تشمل جميع المغاربة. جاء اعتماد الأمازيغية الرسمي في يوليو/تموز 2011، بعد احتجاجات الربيع العربي في المغرب للمطالبة بمجموعة من الإصلاحات الديمقراطية.
التحديات في الوصول إلى المعلومات والخدمات
قطع المغرب أشواطاً لإنصاف الأمازيغية بوضع ترسانة قانونية تدعم تطورها، لكن الإشكال يكمن في ازدواجية الحكومة في إدماج اللغة وعدم التزامها بتعهداتها، حيث تتخبط الأمازيغية في العشوائية وقلة الدعم الرسمي كلغة رسمية، وتمكينها في كافة المجالات كالتعليم، والصحة، والقضاء، والإدارات العمومية.
على المستوى الفردي، يواجه الأمازيغ صعوبات في التواصل مع المؤسسات الحكومية، بسبب نقص المعلومات والخدمات بالأمازيغية؛ يؤدي هذا الحد من مشاركتهم في الميادين العامة، حيث يواجهون صعوبات في فهم القوانين والمعاملات الحكومية، مما يساهم في تهميشهم، وتقييد اندماجهم في التجمعات الأكثر تحضراً وتطوراً. هذه العوائق لا تزول إلا بإتقان اللغة العربية أو الفرنسية.
تؤثر العوائق اللغوية سلبا على فرص العمل للناطقين بالأمازيغية، حيث يشترط إتقان الفرنسية للعمل في الوظائف العمومية والخاصة بالوقت الذي يفتقر النظام الرسمي لوجود إطار لتوفير الخدمات والمعلومات باللغة الأمازيغية، مما يزيد من معدلات البطالة والفقر بين الأمازيغ، ويدفعهم لممارسة أعمال هامشية في قطاع الفلاحة والبناء.
النضال من أجل تكافؤ الفرص
رغم دخول الأمازيغية للتعليم الابتدائي سنة 2003، إلا أن معدل إدماجها لا يزال ضعيفاً جدا في 2023. وفقا لتصريح وزير التربية الوطنية، سعيد أمزازي، عدد التلاميذ المستفيدين من دروس اللغة الأمازيغية لا يتجاوز 500 ألف تلميذ من إجمالي 7 ملايين تلميذ سنوياً، ولم يتجاوز عدد مدرسي اللغة الأمازيغية 9000 مدرس منذ عام 2003. يجدر بالذكر أن اللغة الأمازيغية لم تدخل الإعدادي والثانوي أبدا منذ ترسيمها، ويقتصر الوقت المخصص لها على 3 ساعات أسبوعياً.
تتوجه وزارة التربية الوطنية إلى تعميم اللغة الأمازيغية في الدراسة في 2030، لكن الحركة الأمازيغية ترى أن المبادرة لا تشكل خارطة طريق واضحة للنهوض بتدريس الأمازيغية.
القضاء بدوره ليس أفضل حالاً، يضطر المتقاضون إلى تعلم اللغة الدارجة لمتابعة قضاياهم في المحاكم في المغرب. تكثر القصص في العائلات الأمازيغية حول تجاربهم في المحاكم، خصوصا كبار السن الذين يتحدثون الامازيغية فقط.
في حوار مع الأصوات العالمية، تحدث عثمان عن تعرض جده، سي حساين، من إقليم أزيلال للحكم الغيابي في قضية نزاع حول الأرض في نهاية القرن الماضي، بالرغم من وجوده في المحكمة، لأنه لم يفهم ما يروج داخل المحكمة، بسبب عدم فهمه للدارجة. نسبة إلى عثمان:
“هذه العبارة الدارجة مفادها: هل أنت أمازيغي، ألا تتكلم العربية”.
تؤكد تقارير الأمم المتحدة أن عدد الناطقين باللغة الأمازيغية في تناقص مهول في المغرب، وأن بعض اللغات قد انقرضت فعلا من المغرب في السنوات الأخيرة مثل أمازيغية آيت روادي بمنطقة أزيلال، وهناك لهجات أخرى شارفت على الانقراض كلغة واحات فكيك بالشرق، حيث لا يتجاوز عدد الناطقين بها بضعة آلاف.
تطور إيجابي في وضع الأمازيغ في المغرب
ساهم “Web 2.0″ في إحداث ثورة في توفير المعلومات باللغة الأمازيغية، وخاصة بين الشباب، الذين تمكنوا من التواصل بلغتهم عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، والقنوات الرقمية مثل اليوتيوب. مما ساهم بزيادة الوعي الهوياتي في المغرب على جل المستويات، بما فيها المؤسسات الرسمية، والتجمعات الحزبية، محققاً سلسلةً من المكتسبات.
مع ذلك، هناك تفاوت بين المجتمع المدني الأمازيغي والقطاع الرسمي على الإنترنت، حيث تظهر الأمازيغية في القطاع العام على الإنترنت بنفس الحال في الواقع. لا يتجاوز عدد المواقع الإلكترونية الرسمية باللغة الأمازيغية عدداً محدوداً وتتميز برداءة محتوياتها، وركاكة لغتها، والعديد من الأخطاء الإملائية، مما يقلل من شعبيتها بين الأمازيغ. على سبيل المثال، يتوفر موقع رئيس الحكومة باللغة العربية، والفرنسية، والأمازيغية، لكن المحتوى بالأمازيغية لم يُحدَّث منذ سنوات، على الرغم من أهمية التواصل مع المواطنين. الموقع الرسمي الوحيد الذي يوفر موارد ذات جودة هو المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية.
برزت مبادرات فردية وجماعية لتعزيز وجود اللغة والثقافة الأمازيغية على الإنترنت، تتميز معظمها بموارد ذات جودة وشعبية كبيرة؛ مثل ويكيبيديا باللغة الأمازيغية التي صدرت سنة 2021، والذي يديره ما يقارب 800 متطوع بنسب متفاوتة، ومواقع قواميس ذات طابع جهوي، ومواقع إخبارية خاصة، ومكتبات إلكترونية، بالإضافة إلى الموارد الترفيهية، التي يصل متابعيها لآلاف المتابعين.
على الرغم من تحقيق المغرب تقدماً في المصالحة الداخلية من خلال تعديل القوانين لتلبية مطالب الحركة الأمازيغية، إلا أن التحدي يتمثل في تنفيذ هذه الإصلاحات على أرض الواقع. من المهم احترام حقوق الأمازيغ بالحصول على الخدمات والمعلومات بلغتهم الأم، والعمل على المساواة والعدالة اللغوية مما يعزز إدماجهم اجتماعيا، ومنح الناطقين بالأمازيغية الفرصة للتعبير عن ثقافتهم وهويتهم بكل حرية.
يشعر محمد آيت أمغار بتحسّنٍ واضح في حقوق الأمازيغ في المغرب منذ الحادثة التي وقعت عندما كان في الثامنة من عمره.
“إنّ وضعية الأمازيغية في المغرب قد تغير كثيراً. فقد أصبحت اللغة الأمازيغية لغة رسمية في المغرب، وأصبحت مادة مدرسة وحضورها يزداد تدريجياً في الحياة العامة رغم الصعوبات التي لا تزال تواجهها فيما يتعلق بإدماج اللغة”.