استدعت الشرطة التونسية مصمّمة الأزياء مريم البريبري في 8 تشرين الأول/أكتوبر الماضي بعد مشاركاتها في المظاهرات. لم تستغرب الأمر، فهي ليست المرّة الأولى التي تُستدعى فيها بسبب نشاطها الحقوقي، غير أنّ الاستدعاء هذه المرّة كانت بسبب تعليق على فيديو يظهر شرطياً يعتدي على شاب في مدينة نابل (شمال شرق تونس).
بعد يومين من مشاركتها الفيديو، تلقت بريبري اتصالاً من شخص قدّم نفسه على أنّه من الشرطة العدلية، وطلب منها المجيء إلى منطقة الشرطة من أجل استجوابها، لكنّها رفضت.
تقول بريبري لـ”سمكس” إنّها تجاهلت المكالمة “لأنّ الاستدعاء لم يكن قانونياً، والشرطيّ المذكور هدّدني”. بعد يوم واحد، اكتشفَتْ أنّ النيابة العمومية قد وضعتها محلّ التفتيش بتهمة الإساءة إلى الغير عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفق قانون مجلة الاتصالات، وأنّ الشرطي الذي استدعاها سابقاً ينتمي إلى شرطة النجدة، “وهو سلك لا علاقة له بالاستجواب أو البحث”، كما تقول. في النهاية، قرّرت النيابة العمومية إبقاء بريبري في حالة سراح في انتظار جلسة حُدِّدَت في شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، قبل أن تُؤجَّل بسبب إضراب القضاة في المحاكم.
تشهد تونس تظاهرات حاشدة انطلقت منذ بداية شهر كانون الثاني/يناير، أياما قبل ذكرى عشر سنوات على اندلاع الثورة، ووسط تململ من الوضع الاقتصادي خصوصاً بعد الإقفال بسبب فيروس كورونا. وقد وصلت المظاهرات إلى ذروتها في آخر شهر كانون الثاني/يناير احتجاجاً على انتهاكات الشرطة، وتواصلت إلى مطلع شهر شباط/فبراير في ذكرى اغتيال السياسي البارز شكري بلعيد.
لم تكن قضية بريبري الوحيدة من نوعها، إذ يبدو أنّ الأمر أصبح نمطاً تعتمده الأجهزة الأمنية التونسية. الشاب بلال فيتوحي تلقّى تهديدات بسبب منشور على صفحته (حذفه بعد استدعائه) انتقد فيه اعتداء أمنيين على فتاة وتشهيرهم بها ونشر صورها على صفحات النقابات الأمنية، وهي نقابات تأسست في العام 2011 للدفاع عن حقوق الأمنيين قبل أن تبسط نفوذها في وزارة الداخلية.
يقول فيتوحي لـ”سمكس” إنّه تلقّى اتصالاً من شخص قدّم نفسه على أنّه أمنيّ من الشرطة العدلية، طالباً منه الحضور إلى منطقة الأمن من أجل استجوابه. “لكنّني رفضتُ لأنّ طريقة استدعائي غير قانونية، واستشرتُ محامين نصحوني بعدم الذهاب بما أنّني لم أتلقَّ استدعاء رسمياً”، حسبما يشرح، مضيفاً أنّ محاميه لم يجد أيّ ملفٍّ باسمه في منطقة الأمن.
في الغالب يحاكم نشطاء بموجب “مجلة الاتصالات“، وهي القانون المنظّم لمجال الاتصالات، بتهم الإساءة إلى الغير عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وتنتهي مجمل هذه قضايا بعدم سماع الدعوى أي اللحكم بالبراءة. أمرٌ مشابه لما حصل في قضية الناشط أحمد غرام، الذي اعتُقل في 17 كانون الثاني/يناير 2021 بتهمة “العصيان” بسبب منشور على “فيسبوك” يدعم فيها الاحتجاجات الأخيرة التي تشهدها تونس، قبل أن يصدر في حقه حكم قضائيّ بعدم سماع الدعوى ويُطلق سراحه في 28 من الشهر نفسه.
ولكنّ قضية سجن النشطاء بسبب منشوراتهم على وسائل التواصل ليس جديدة في تونس.
أستاذ الرياضيات عبد الفتاح سعيّد، لم يتخيّل أنّ إبداء رأيه بخصوص عملية سوسة الإرهابية ستتسبّب في سجنه لمدة سنة في العام 2015 وبغرامة مالية تبلغ ألفي دينار. وجاء هذا الحكم بعد تشكيكه في الرواية الرسمية لتفاصيل العملية الإرهابية في منشور على “فيسبوك”.
لم يكن سعيّد الوحيد الذي سجن بسبب تشكيكه برواية وزارة الداخلية بخصوص عملية إرهابية بعد الثورة. فبسبب منشور عن عملية أخرى، وهي “عملية المنيهلة الأمنية” في العام 2018، “سُجن المدوّن الصحبي العمري لسنة ونصف بسبب تشكيكه في تفاصيل العملية، بعد دعوى تقدم بها وزير الداخلية”، وفقاً للسياسي سمير بن عمر، وهو محامي سعيّد.
محاولات لقوننة الرقابة
منذ العام 2015، تحاول الأجهزة الأمنية التونسية تمرير مشروع قانون عدد 2015/25 يتعلق “بزجر الاعتداء على القوات المسلحة” في البرلمان بهدف تعزيز حمايتهم، لكنّه واجه رفضاً كبيراً من منظمات حقوقية بسبب تضييقات صريحة على حرية التعبير والإعلام.
تضمّن مشروع القانون فصولاً تنص على تضييق النفاذ إلى المعلومات أو نشر معلومات أمنية ومعاقبة كل من يخالف ذلك بالسجن. في الفصول الرابع والخامس والسادس يعرّف مشروع القانون أسرار الأمن الوطني على أنّها “المعلومات غير المتاحة للجميع” وينصّ على السجن لعشر سنوات لكلّ من يطلع عليها أو ينشرها. والفصل السابع من النسخة الأولى لمشروع قانون “زجر الاعتداءات على الأمنيين” يجرّم التصوير داخل المنشآت الأمنية والعسكرية من دون ترخيص، مع عقوبة بالسجن تصل إلى عامين. أمّا الفصل الثاني عشر من تلك النسخة فينصّ على أنّه “يعاقب لمدّة عامين وبخطية قدرها عشرة ألاف دينار كلّ من تعمد تحقير القوات المسلحة”.
عُدّل مشروع القانون في العام 2017، لكنّ نسخته الثانية لم تنل رضا المجتمع المدني، ولاقى الفصل الحادي عشر اعتراضات شديدة، وهو فصل ينصّ على عقوبة بالسجن تصل إلى ثلاثة أعوام “لكل من يمسّ كرامة قوات الأمن الداخلي والديوانة وسمعتهم ويحطم معنوياتهم في أيّ محمل من المحامل”. بسبب ضغوط من نشطاء حقوقيين ومن منظمات المجتمع المدني، يوم 12 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي أجّل مجلس النواب التصويت إلى موعد لم يحدده، ولكنّ تحّرك الأمنيين قضائياً ضد نشطاء على “فيسبوك” بسبب آرائهم استمرّ.
يؤكّد نائب “حزب التيار الديمقراطي” في مجلس النواب، زياد غناي، لـ”سمكس”، أنّه “يجب تنظيم هذه العلاقات الافتراضية بالارتكاز على أسس مثل حرية التعبير والحق في حماية المعطيات الشخصية والكرامة وغيرها”. أصبحت وسائل التواصل وموقع “فيسبوك” الذي يستخدمه أكثر من 7 ملايين تونسي مساحةً افتراضية موازية للتعبير عن الأزمات التي يعيشها المجتمع ومناقشتها. ولذلك، يعتبر غناي أنّ “حرية التعبير على الفضاء الرقمي الذي يشهد علاقات متشعّبة بين المستخدمين أنفسهم وبينهم وبين الدولة مسألة معقدة”.
من جهة ثانية، يستنكر المحامي بسام الطريفي، نائب رئيس “الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان” في تصريح لـ”سمكس” ما أسماه “محاولات الأمنيين للحدّ من حرية التعبير على ’فيسبوك‘ عن طريق مقاضاة النشطاء”. ولهذا يحذّر الطريفي من “إقحام السلطة القضائية في هذا النمط” ويدعو النيابة العمومية إلى “عدم التجاوب مع الأمنيين في مثل هذه القضايا”.
لا يبدو أنّ الأجهزة الأمنية أو النيابة العمومية ستتوقّفان عن استدعاء النشطاء ومحاكمتهم/ن بسبب منشورات على وسائل التواصل، وذلك وفقاً لما أظهرته تجارب سابقة. ففي عام 2013 حاول المجتمع المدني وضع ميثاق شرف ضمن مشروع مع “اليونسكو” يحترم حق الصحافيين في النفاذ إلى المعلومة ويضمن حريتهم في التعبير، غير أنّ “هذا الميثاق لم يُفعّل”، وفقاً لرئيس مركز تونس لحرية الصحافة، محمود الذوادي.
تنتظر مصممة الأزياء مريم البريبري تاريخ جلستها القادمة وهي تعلم أنّ الحكم عليها سيكون مرتهناً لموقفها من الاحتجاجات ومشاركتها فيها، ولكنّها لا تزال تردّد على صفحتها من دون خوف “طريق المقاومة ينجّي”.
الصورة الرئيسية من حساب Gwenael Piaser على “فليكر”.