في نهاية عام 2020، أوقفت السلطات الأردنية الصحافي جمال حداد لأيام، وحُوّل الصحافي إلى محكمة أمن الدولة، على خلفية مقال تساءل فيه عن “تلقّي مسؤولين لطعم كورونا سرّاً من دون تصريح رسمي، وعن الوقت الذي يحين فيه دور الشعب في تلقّي اللقاح”. وبعد أيام، في 29 كانون الأول/ديسمبر، قرّرت محكمة أمن الدولة في الأردن إخلاء سبيل حداد، بكفالة من نقيب الصحافيين راكان السعايدة.
شهدت فترة اعتقال حداد تضامناً معه من الصحافيين والنشطاء ومنظمات حقوق الإنسان، وتصدّر وسم #لا لحبس_الصحفيين ووسم #الصحافة_ليست_جريمة مواقع التواصل الاجتماعي في الأردن.
لم تكن تلك الواقعة هي الأولى من نوعها فقد أوقفت السلطات الأردنية في شهر آب/أغسطس الماضي الفنان عماد حجاج، رئيس رابطة رسامي الكاريكاتير الأردنيين، لأيام بسبب نشر رسومات كاريكاتيرية ينتقد فيها بعض الزعماء العرب تعليقاً على التطبيع مع الكيان الصهيوني. أثار هذا الأمر تساؤلات حول حرية الرأي والتعبير في الأردن، خصوصاً وأنّ الدستور الأردني يكفل في المادة 15 منه حرية الرأي والتعبير، و”حرية الصحافة والطباعة والنشر ووسائل الإعلام ضمن حدود القانون”؛ وفي المادة 7، يعتبر الدستور الأردني أنّ “كلّ اعتداء على الحقوق والحريات العامة أو حرمة الحياة الخاصة للأردنيين جريمة يعاقب عليها القانون”.
جاءت حملة الاعتقالات في وقتٍ يشهد فيه الأردن تراجعاً في مجال الحرّيات خصوصاً بعد انتشار وباء كورونا المستجدّ. وقد حملت عملية التضييق “طابعاً قانونياً” مع “قانون الدفاع رقم 13 لسنة 1992” في الأردن الذي أُعيد العمل به بمرسوم ملكيّ في 17 آذار/مارس الماضي بسبب تفشّي فيروس كورونا. يمنح القانون رئيس الوزراء سلطات واسعة لتقييد الحقوق الأساسية، ويعاقب بموجب “أمر الدفاع رقم 8” تداول أي أخبار “تثير الهلع” حول الوباء في وسائل الإعلام أو على الإنترنت بعقوبة تصل إلى السَّجن لمدة ثلاث سنوات.
وفي سياق متّصل، رصد تقرير “تحت الحظر” الذي أصدره “مركز حماية وحرية الصحفيين” الأردني في شهر حزيران/يونيو 2020، أكثر من 17 انتهاكاً بحقّ الصحافيين في الأردن خلال فترة انتشار جائحة كوفيد-19، حيث تعرّض البعض للتوقيف بزعم نشر أخبار كاذبة أو التعدّي بالضرب أو للاعتداء اللفظي.
قوانين فضفاضة…
في حين يكفل الدستور الأردني حرية الرأي والتعبير، إلّا أنّ “المادة 11 من ’قانون الجرائم الإلكترونية‘ تُستخدم كمسوّغ قانونيّ لاستباحة الحق الدستوري في حرية الرأي والتعبير”، حسبما يقول عيسى محاسنة من “الجمعية الأردنية للمصدر المفتوح” لـ”سمكس”. تُستغلّ هذه المادة من أجل تقييد حرية أصحاب الرأي والصحفيين، “الأمر الذي يخالف بصورة مباشرة قانون المطبوعات والنشر المنظّم للعمل الصحفي والذي ينص على عدم حرمان الصحفي من أداء عمله أو التدخّل فيه، أو تعرضه للتوقيف بسبب عمله الصحفي”.
يبيّن محاسنه أنّ هناك ازدواجية وانتقائية في تنفيذ القانون، وقد تجلّى ذلك في قضية اعتقال الصحفي حداد. “التساؤل الذي طرحه حداد في مقالته كان مطروحاً على منصّات التواصل الاجتماعي وعلى بعض وسائل الإعلام ، إلّا أنّ أحداً لم يتعرّض للتوقيف سواه”. ويدلّ ذلك وفقاً لمحاسنه على أنّ “القوانين فضفاضة وحماّلة أوجه، وتقدّم صلاحيات كثيرة للمدعي العام الذي يقرّر بدوره متى ومَن يُطبَّق عليه قانون الجرائم الإلكترونية”.
…وقضايا لا تُغلق
مُعظم قضايا الرأي والتعبير في الأردن لم يصدر بها أحكام قضائية نهائية، كما يؤكّد محاسنه. فبعد تحويل القضايا إلى المدّعي العام، يُوقَف المدّعى عليه لغايات التحقيق، وتبقى القضية منظورة تحت القضاء لحين صدورحكم بسقوط القضية أو بتنازل الشخص المتضرّر، من دون أن يصدر حكم بالبراءة إلّا في قضايا محدودة.
بالإضافة إلى ذلك، يُستخدم ما يُعرف بـ”الحق العام” في قضايا القدح والذمّ كأنّها قضايا جنائية، على حدّ تعبير محاسنة، الذي يؤكّد أنّ “قضايا القدح والذمّ تكون عادةً بين شخصين ولا علاقة للحق العام بذلك، والعقوبة تكون بالتعويض وليس بالحبس كما هو الحال في الأردن”.
كل هذه الاعتبارات والممارسات تؤدّي إلى إغلاق الباب أمام الصحفي الذي يريد رفع قضية تعويض أو ردّ اعتبار، وصولاً إلى ممارسة نوعٍ من الرقابة الذاتية.
يقول حجاج لـ”سمكس” إنّ حكماً صدر بإسقاط الدعوى ضدّه وأنّ القضية في المراحل الأخيرة. يرفض الفنّان المعروف برسومه الساخرة “التعّسف في استخدام السلطة أو تكميم الأفواه، معتبراً أنّ ذلك يؤثّر على الرسّامين ويدفعهم للتعبير عن آرائهم بالترميز بدلاً من الوضوح خوفاً من تعرّضهم للمساءلة القانونية”. وعلى صعيد شخصي، يوضح حجاج أنّه يحاول في رسوماته “استغلال مساحة التعبير المتاحة قدر الإمكان”، ويعتمد أسلوب التلميح عوضاً عن التصريح “مخاطباً ذكاء القارئ”، وفقما يقول.
منصّة “مُحال” لرصد قضايا حرية التعبير على الويب
لتسليط الضوء على قضايا الرأي والتعبير في الأردن، بدأت “سمكس” و”الجمعية الأردنية للمصدر المفتوح” بتوثيق هذه القضايا عبر مرصد حرية التعبير على الويب “مُحال” (Muhal.org)، وهي قاعدة بيانات كانت أطلقتها “سمكس” في لبنان قبل عامين.
بدأت “مُحال” برصد قضايا التعبير على الويب في الأردن في عام 2020، وذلك بهدف زيادة مستوى الوعي حيال هذه القضايا بين منظمات المجتمع المدني وأصحاب الرأي والصحفيين في الأردن، وكذلك لتسهيل البحث في هذه القضايا على الباحثين والصحافيين.
يُعتبر توثيق هذه الحالات إحدى السبل التي يستخدمها النشطاء من أجل ضمان حرية التعبير في الأردن. ولكن ثمّة الكثير من الأمور التي ينبغي فعلها على مختلف الصعد، بحسب محاسنه، مثل إعادة النظر بالقوانين المقيدة لحرية الرأي والتعبير، وتحويل هذه القضايا إلى محاكم مدنية، وتقليل استخدام المواد القانونية التي تشير إلى القدح والذم والتشهير، وإعادة النظر بالقوانين التي تعطي صلاحيات للحاكم الإداري أو المدعي العام وتعديل جميع القوانين المقيدة لحرية الرأي والتعبير.
قوانين الطوارئ لا ينبغي أن تقيّد الحرّيات
في ظلّ تطبيق قوانين الطوارئ وغياب المعلومة الرسمية الشفافة، تؤدّي هذه القوانين في الأردن إلى “تقييد حرية الصحافة التي تعتبر مصدراً مهمّاً للمعلومات، خصوصاً حول الوباء ومستجدّاته وكيفية تعامل السلطات معه ومع صحّة الناس. فمن حقّ الصحافي أن ينشر ومن حقّ الناس أن تعرف”، كما تقول المحامية نور الإمام لـ”سمكس”.
من جهة ثانية، يعتبر الدكتور صخر الخصاونة، أستاذ التشريعات وأخلاق الإعلام في “معهد الإعلام الأردني”، أنّ الحرية تعني إزالة جميع العوائق أمام الرغبات الشخصية. يقول الخصاونة لـ”سمكس” إنّ “جميع نصوص الحريات في الدستور تبدأ بصيغة معتادة، إلّا نصّ حرية الرأي والتعبير الذي بدأ بكلمة ’تكفل‘، وذلك دلالة على التزام الدولة بكفالة هذا الحق”. ويوضح أنّه في حال تم تقييد حرية التعبير بموجب القانون، فلا يجوز أن يأتي قانون آخر جديد يمنع حرية الرأي والتعبير”، منوهاً إلى المادة 128 من الدستور الأردني التي تنص على أنه “لا يجوز أن تؤثر القوانين التي تصدر بموجب هذا الدستور لتنظيم الحقوق والحريات على جوهر هذه الحقوق أو تمس أساسياتها”.
بالإضافة إلى ذلك، من الضروري أن تكون النصوص الاستثنائية واضحة، خصوصاً إذا كانت تقيّد حرية الرأي والتعبير. ويوضح الخصاونة أنّ “هذه النصوص ينبغي أن تكون واضحة وجلية وغير حمّالة أوجه، وذات سبب رصين مثل حماية الأمن القومي أو حماية النظام العام، أو حمايةً للحياة الخاصة من عدم التعدي عليها، وقد تكون حماية لسير العدالة وعدم التأثير على القضايا المطروحة أمام القضاء”.
هذه الاستثناءات يجب أن لا تؤثر على حرية التعبير في البلاد، خصوصاً وأنّ ثمّة قوانين أخرى تحدّ من الحريات مثل “قانون الجرائم الإلكترونية”.
ترى المحامية الإمام أنّ القوانين يجب أن تحمي حقوق الناس، لا أنْ “يأخذ تطبيقها منحىً آخر مثل اعتبار مجرّد التعبير عن الرأي في بعض الحالات جريمة إلكترونية”. أمّا التدابير التي تُقرّ في حالات الطوارئ لحماية المواطنين حسبما يجيز القانون الدولي، فتؤكّد أنّه يجب أن يكون لها “أساس قانوني، وأن تكون ضرورية للغاية، وبناء على أدلة علمية، ولا يكون تطبيقها تعسفيا ولا تمييزياً ولفترة زمنية محددة، وأن تحترم كرامة الإنسان وتكون قابلة للمراجعة ومتناسبة من أجل تحقيق الهدف المنشود”.
يكفل الدستور الأردني حرية التعبير، و التعديل الدستوري الأخير في عام 2011 يؤكّد على إزالة القيود أمام الحريات العامة، والأردن هو أحد الموقّعين على المادة (19) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. وعلى الرغم من ذلك، تقدّم الأردن درجتين في “مؤشّر حرية الصحافة” لعام 2020 ليحلّ في المرتبة 128، متأخراً بذلك عن الكويت ولبنان وجزر القمر وتونس التي جاءت في المرتبة الأولى عربياً. ولكن هل ينطبق ذلك على الحريات على وسائل التواصل أيضاً؟ وكيف يؤثّر ذلك على مستوى الحريات بشكل عام في البلاد؟
الصورة الرئيسية قبل التعديل من رسم عماد حجاج، ونُشرت أساساً على موقع “العربي الجديد”.