“لا خيار آخر لدي سوى اللجوء إلى درّاجات بولت من أجل تجنّب زحمة السير، وبسبب التكلفة المنخفضة للأجرة”، هذا ما تقوله الشابة تيما لـ”سمكس”، مشيرة إلى أنّها تعتبر “بولت” الوسيلة المحبّذة لها للتنقل في بيروت. ومع ذلك، تؤكّد على ضرورة “أخذ الحيطة والحذر، لا سيما وأنّ السائق قد يكون في بعض الأحيان غير الذي طلبته على التطبيق، وأنّ لا ضمانة في حال تعرّضت للسرقة أو التحرش ولا تأمين على الحوادث”.
في وقت لم تعتمد الحكومة اللبنانية الحالية أيّ استراتيجية واضحة لقطاع النقل العام في لبنان، لا يأخذ الوزراء المعنيّون بقطاع النقل قوننة عمل السيارات العمومية ومكاتب سيارات الأجرة الخاصّة بعين الاعتبار، ممّا دفع وزير الداخلية والبلديات، بسام مولوي، يوم الإثنين 8 أيار/مايو، إلى إرسال كتاب لوزارة الإتصالات يتضمّن طلب توقيف تطبيق “بولت” (Bolt) لطلب السيارات عن العمل، “ريثما يتم التأكد من عدم مخالفة لقانون السير وسواه من القوانين والأنظمة المرعية الإجراء”.
وقال مولوي يوم أمس في مقابلة تلفزيونية إنّه “سيحيل الأمر إلى النيابة العامة كي تتواصل مع شركة غوغل بهدف حجب التطبيق”.
جاء ذلك بعدما نفذت نقابة سائقي السيارات العمومية، يوم الثلاثاء 2 أيار/مايو، اعتصامات في عدد من المناطق اللبنانية، لمطالبة الدولة تنفيذ مطالب السائقين من ضمنها منع سيارات الأجرة الخصوصية من العمل وإغلاق التطبيقات الخاصة بسيارة الأجرة والنقل، ووسائل النقل الجديدة التي برزت بعد الأزمة الاقتصادية في لبنان كـ “التوك توك”.
برزت منصة “بولت” في العام 2020 كتطبيق توصيل يقدّم أسعاراً أقلّ للركاب بنسبة تصل إلى 20%، كونها لا تتقاضى رسوماً من السائقين، بخلاف التطبيقات التي كانت رائجة حينها مثل “أوبر” (Uber) و”كريم” (Careem).
ولكن، “يشوب التطبيق خروقات قانونية، كون الشركة غير موجودة في السجلات التجارية في وزارة الاقتصاد، حسبما يؤكّد مدير عام وزارة الإقتصاد في لبنان، محمد أبي حيدر، في اتصال مع “سمكس”. ويضيف أنّ “بولت لا تمتلك مكتباً تمثيلياً للشركة في لبنان، وهي لا تدفع أي مستحقات أو ضرائب للدولة اللبنانية، كما لا تعمل بقوانين النقل اللبناني بل بقانون خاص بها خلافاً لأي نص قانوني لبناني”، مشيراً إلى أنّ “مرجعية عمل هذه التطبيقات وزارتا الاتصالات والأشغال والنقل العام”.
الحدّ من حقوق الركاب وخيارات التنقّل؟
وسائل النقل العام معدومة تقريباً في لبنان، وكان كثيرون يعتمدون على التطبيقات للتنقّل، لا سيما إلى العمل والدراسة.
يؤكّد العضو المؤسس في “جمعية حقوق الركاب” في لبنان، شادي فرج، لـ”سمكس، أنّ “إيقاف بولت جعل مستخدمي/ات التطبيق تحت سلطة الأمر الواقع التي تحصر التنقل بالسيارات العمومية، أ و عبر مكاتب التكسيات الخاصة، والتي تطلب تسعيرة مرتفعة”.
هل يريد المسؤولون الحدّ من حرية اختيار الناس لوسائل النقل والتنقل التي تلائم احتياجاتهم، والتي تقدّم خدمات إضافية من حيث سرعة التنقل والأسعار المنخفضة؟
يعتبر فرج أنّ “توقيف هذه التطبيق أو أي تطبيق سواه انتهاك لحقوق الركّاب عبر فرض وسيلة تنقل واحدة غير واضحة التسعيرة”.
ولكن ثمّة حلول يمكن تطبيقها، مثل قوننة عمل التطبيق كما فعلت مصر والأردن اللتان أصدرتا قوانين خاصة بتطبيقات النقل الإلكترونية ونظّمتها. وكذلك كما فعلت أستراليا التي فرضت على تطبيق “أوبر” قيمة من الأرباح تعود لصالح سائقي النقل العام الذين تضرروا من عمل التطبيقات، يشرح فرج. “حتّى أنّ بعض البلديات في لبنان مثل بلديّتي مدينتي جبيل والبترون استطاعوا إنشاء ترخيص لوسيلة النقل الصغيرة التوك توك”.
… والسائقين
تكمن مشكلة السائقين الأساسية في أنّ تطبيقات طلب السيارات، لا سيّما “بولت”، “تشغّل سيارات غير عمومية، وسائقين غير لبنانيين أي غير مرخّصين ولا يحملون إجازة سوق عمومية ولا يحقّ لهم نقل الركاب”، وفقاً لرئيس اتحادات النقل البري في لبنان، بسام طليس، الذي يعتبر في حديث لـ”سمكس” أنّ “المخالفة الكبرى تتمثّل باستخدام بولت الدرّاجات النارية غير المرخصة، والتي لا تملك تأميناً يحمي حقوق الركاب في حال تعرضهم لأي ضرر، وكل ذلك خلافاً لقانون السير”.
ولكن بعض المستخدمين والمستخدمات لم يجدوا بديلاً للتنقّل على الدرّاجات. تقول الشابة تيما، التي تلجأ إلى “بولت” لطلب “موتو” في جميع تنقلاتها، إنّ هذه الطريقة توفّر عليها زحمة السير الخانقة في شوارع بيروت.
التعرفة المنخفضة التي تحصّلها “بولت” وتتميّز بها عن غيرها من السيارات العمومية، على حدّ قول طليس لـ”سمكس”، تعود إلى أنّ “الشركة المشغّلة لهذا التطبيق لا تتحمل كلفة رسوم الضمان التي يدفعها السائقون العموميون ولا سائر الإجراءات الأخرى المفروضة على السيارات العمومية”.
يؤكّد أحد سائقي سيارات الأجرة، وهو عسكري يعمل على تطبيق “بولت”، أنّ “التطبيق وفّر لي فرصة تحقيق بعض المدخول الإضافي، لا سيّما مع تدهور قيمة الرواتب بسبب انهيار الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي”. يؤكّد السائق الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه أنّ جميع مستنداته قانونية، بينما لا ينفي أنّ كثيرين استغلّوا التطبيق لتأجير حسابات السائقين والعمل بصورة “غير شرعية”.
بالنسبة إلى الحلول المقترحة، يشير طليس إلى أنّ “اتحاد النقل في لبنان” طلب في بداية عمل “بولت” بحلٍّ من قبل الشركة أي إصدار تعرفة رسمية لوقف الأصول للحدّ من المضاربات، بحيث يتوجّب على جميع السائقين والمكاتب الالتزام بها.
ولكن لم تسر الأمور على ما يرام، فلا السلطات استجابت ولا “بولت” التي تتّخذ من أستونياً مقراً لها تردّ على الاستفسارات القادمة من لبنان. والآن، يطالب طليس”الأجهزة المولجة تطبيق القانون بمعاقبة المخالفين على الدراجات النارية واللوحات الخصوصية، وحصر عمل بولت بالسيارات العمومية”.
ضياع وزاري في صلاحيات توقيف “بولت”
من الواضح أنّ هناك ضياعاً شامل في عمل “بولت” والجهة الرسمية المخوّلة البتّ بشرعيتها.
يكشف وزير الأشغال والنقل العام، علي حمية، لـ”سمكس”، أنّه راسل منذ أيار 2022 الوزارات المختصة حول “شرعية عمل التطبيقات الإلكترونية التي تتناول النقل العام للركاب والبضائع خلافاً للقانون، وضرورة توقيفها أو قوننتها، ولكن “من دون إجابة”.
أمّا وزير الاتصالات جورج القرم، فيكشف لـ”سمكس” أنّ “الطلبات التي تلقّتها وزارته من وزارة الأشغال بإغلاق التطبيق لا تعتمد على أيّ مسوّغ قانوني، لافتاً إلى أنّ “وظيفة وزارة الاتّصالات ينبغي أن تنتظر القضاء ليبتّ بمخالفة تطبيق بولت وشرعيته، وأنّ لا صلاحية لها بإغلاقه المنصة إنْ لم تصلها إشارة قضائية”. وهو ما أدركه وزير الداخلية يوم أمس عندما أشار إلى أنّه سيتوجّه إلى النيابة العامة.
عموماً، يعتبر حمية أنّ عمل تطبيقات طلب السيارات بهذه الطريقة “تشكّل منافسة غير مشروعة وتلحق ضرراً فادحاً بسائقي ومالكي السيارات العمومية المخوّلين حصراً بممارسة مهنة النقل العام للركاب وفقاً لأحكام قانون السير”.
لا يمانع حمية من الاعتماد على هكذا تطبيقات ومنصّات، لا بل يشجع مواكبة التطورات العالمية، “شرط أن تلتزم بتشغيل السيارات العمومية والسائقين العمومين الحائزين على التراخيص الصادرة عن الوزارة، وبات من الملحّ استصدار نصوص تنظيمية لهذه الغاية”. ويطالب وزير الأشغال وزارة الداخلية بقمع هذه المخالفات وتكليف “مكتب جرائم المعلوماتية وحماية الملكية الفكرية” إجراء التحريات اللازمة لكشف مشغلي التطبيقات الإلكترونية وتبيان المخالفات المرتكبة، ومنعهم من ممارسة أعمالهم خارج النطاق القانوني.
كما وعقد حمية يوم الأربعاء 10 أيار/مايو، اجتماعاً في وزارة الداخلية لتباحث بعمل “بولت” وكيفية حماية قطاع النقل العام، من دون أن يصدر عن الاجتماع أي قرار.
خلل في القانون أم في تطبيقه؟
يعمل تطبيق “بولت” في لبنان كمنصّة وساطة في قطاع النقل العام، إذ يربط بين المستخدمين/ات الذين يبحثون عن خدمة التنقّل وسائقي السيارات والدرّاجات الذين يؤمّنون تلك الخدمة، وكلّ ذلك والشركة غير مسجّلة في لبنان ولا مكتب لديها في البلد.
في قراءة قانونية قدّمتها المحامية نجاح عيتاني، التي تعمل كذلك كمديرة مشروع مع “سمكس”، تشرح أنّ تطبيق “بولت” “يعتمد نظام العمل من خلف الحدود (Offshore)، كاشفةً أنّ ثمّة “تضارباً في الآراء القانونية لا سيما لجهة خضوع التطبيق لقانون السير العام المعني بتنظيم مزاولة مهنة النقل العام للركاب، ذلك لأنّ التطبيق بحدّ ذاته لا يقدّم خدمة النقل إنّما يؤمّن مساحة افتراضية تسمح بالتقاء العرض والطلب”.
أما عن الجهة المخولة وقف التطبيق، تقول عيتاني، إنّ “قانون المعاملات الإلكترونية والبيانات ذات الطابع الشخصي يمنح تلك الصلاحية حصراً للمحكمة الناظرة في الدعوى، لقاضي التحقيق والنيابة العامة”. ويعني ذلك أنّه يمكن لوزير الداخلية استعمال صلاحياته الرقابية الإدارية لهيئة السير لطلب التحرّي عن المنصّة من “مكتب جرائم المعلوماتية”، ولكنّه لا يملك صلاحية حظر التطبيق بنفسه.
أثارت قضية “بولت” في لبنان كذلك موضوع خضوع التطبيق لقوانين المالية من حيث ضريبة الدخل التي من المفترض أن تُحصّل من الشركات.
تلفت عيتاني في هذا الشأن إلى أنّ “فرض ضرائب على بولت منوط بتحقيق التطبيق أرباحاً على الأراضي اللبنانية”. يعتمد “بولت” نموذج عمل (business model) المنصّة، بحيث يربط بين السائقين والركّاب فقط، كما أنّه حتّى الآن لا يتاقضى أيّ عمولة من السائق ولا من الركّاب، في حين يدفع العميل كلفة الخدمة إلى السائق مباشرة.
من يحمي البيانات؟
يثير نموذج عمل “بولت” في لبنان إشكالية أكبر، وهي في حال كان لا يحقّق أرباحاً على الأراضي اللبنانية، فهل يحقّق الأرباح من البيانات الشخصية التي يجمعها؟
تعتبر عيتاني أنّ الدولة بدأت التباحث بقانونية التطبيق ولم تولي أيّ أهمية لموضوع البيانات الشخصية التي يجمعها “بولت”، لافتةً إلى أنّ”سلامة البيانات تقع على عاتق الجهة التي تجمعها وتعالجها، وهو بولت في هذه الحالة”.
في السياق نفسه، يقول الخبير في التحول الرقمي، رامز القرا، لـ”سمكس”، إن تطبيق “بولت”، شركة حساسة عبر جمعها البيانات ولا سيما حركة التنقل، وضرورة التأكد من سرية المعلومات ومطابقتها عالمياً. لافتاً، إلى أنّ فحص هذه البيانات يكون عبر تقديم طلب من وزارة الإتصالات إلى الشركة الأم. “وفي لبنان ترك لبولت العمل منذ ثلاث سنوات، دون معرفة نشاطه الرقمي، وعند إثارة المشاكل بدأ الحديث عن سبل قوننتها”.
ومع ذلك، كان وزير الاتصالات اللبناني جوني القرم أخبر”سمكس” عن عدم إحاطته التقنية أو القانونية عن مشغلي التطبيق، والبيانات التي تحفظ للمستخدمين، وإن كانت خطراً يهدد سلامتهم العامة!
وبما أنّ التطبيق يجمع بيانات اللبنانيين/ات الشخصية، “فهو يعتبر خاضعاً للقوانين المحلية التي تنظّم جميع البيانات”، وفقاً لعيتاني التي تكشف أنّ لبنان غير موجود في لائحة “بولت” للامتثال القانوني ممّا يصعّب الحصول على تفاصيل دقيقة عن السياسات المطبّقة من قبل الشركة في لبنان”، وهي مسألة مشابهة لما حصل مع التطبيق نفسه في تونس. بعد إثارة مسألة جمع “بولت” لبيانات التونسيين/ات، ردّت الشركة على “مرصد الأعمال وحقوق الإنسان” (Business and Human Rights Center) في بيان (آب/أغسطس 2022) بأنّها “تجمع البيانات المطلوبة بتشغيل التطبيق فقط، وسنلتزم بسيادة القانون في تونس، ونواصل العمل مع السلطات المحلية للالتزام بالقوانين”.
التضارب في المعلومات والصلاحيات بين الوزارات المعنية في قضية “بولت” في لبنان لا ينبغي أن يخلص إلى حجب التطبيق كما يقترح بعض الوزراء، خصوصاً وأنّ “ثمّة شكوكاً حول أنّ خطوة حجب التطبيق لم تأتِ إرضاءً للسائقين الذين يطالبون منذ سنوات بتنظيم عمل التطبيقات قبل بولت وبعده، بل إرضاءً للمحتكرين من مكاتب التاكسي”، على ما يكشف مصدر صحافي لـ”سمكس”.
إلى حين إقرار قانون ملزم لحماية الخصوصية في لبنان، تطالب “سمكس” الوزارء جميعاً بالعمل الجدّي على تنظيم عمل التطبيقات بدل حجبها. وبدلاً من سياسة الحظر وتحميل الأعباء للطرف الأضعف، وهو في هذه الحالة السائقين والركّاب، يجدر بالحكومة أن تؤدّي عملها وتتابع حماية بيانات المستخدمين والمستخدمات في لبنان، وأن تقونِن عمل التطبيقات التي تجني الأرباح وتجمع البيانات.