مضى أكثر من سبعة أشهر عاش خلالها سكّان القرى في جنوب لبنان مختلف أنواع المعاناة جرّاء العدوان الإسرائيلي المتكرّر عليها، قبل أن يصدر وزير الاتصالات في حكومة تصريف الأعمال جوني القرم، أخيراً، قراراً يقضي بإنشاء شركتي الخلوي “ألفا” و”تاتش” باقة إنترنت مجانية تحتوي على 20 جيغابايت، لتكون متاحة أمام طلاب قرى الجنوب “بغية تسهيل وتفعيل التعلّم عن بعد”.
يأتي ذلك بالتزامن مع ضعفٍ ملحوظ في شبكة الإنترنت ونمط عيشٍ محدود فُرض على سكّان تلك المناطق، لا سيّما النازحين/ات منهم بسبب الحرب، والذين بلغ عددهم قرابة المئة ألف.
واليوم الجمعة، استهدفت غارة إسرائيليّة فريق صيانة تابع لشركتي “أوجيرو” للهاتف الثابت و”تاتش” للهاتف الجوال، في بلدة طيرحرفا (قضاء صور) جنوب لبنان، مما أدّى إلى “استشهاد موظف في شركة ’باور تيك‘ (PowerTech) التي توكَل إليها أعمال الصيانة، ومسعف متطوّع في الدفاع المدني، بالإضافة إلى عددٍ من الجرحى”، وفق بيانٍ أصدرته “تاتش” على إثر الحادثة.
حصل الاعتداء برغم تنسيق شركة “تاتش” مسبقاً مع الجهات المعنيّة والحصول على أذونات قبل إرسال فرق الصيانة إلى الموقع، من بينها من قوّات “اليونيفيل” التابعة للأمم المتحدة، بهدف التوجه إلى بلدة طيرحرفا وإجراء أعمال الصيانة، وفق بيانٍ “تاتش”.
منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي، باتت قرى الجنوب اللبناني، الحدوديّة منها خاصة، غير آمنة بسبب القصف الاسرائيلي المستمر عليها، ما دفع الطلاب القاطنين/ات في هذه المناطق إلى إكمال تعلّمهم/ن عن بُعد لئلّا يذهب العام الدراسي الذي بدؤوه منذ أشهر هباءً، إلّا أنّه لم يكن هذا قراراً سهل التنفيذ بتاتاً.
“تنقطع الكهرباء بشكل متكرّر، وإن توفّر الإنترنت لدينا لبضع دقائق، تضعف سرعته وجودته عند الأستاذ/ة”. هذا ما يقوله الطالب محمد عواضة (16 سنة) لـ”سمكس” بعد أكثر من 206 يوماً من التعلّم عن بُعد. نزح محمد وعائلته التي تتكوّن من ستة أفراد من بلدة الطيبة الحدوديّة (قضاء مرجعيون)، إلى بلدة المروانية (قضاء صيدا)، ليستقرّوا في أحد الفنادق المهجورة منذ العام 2005، والذي تحوّل إلى ملجأ للنازحين/ات منذ بدء الاضطرابات.
“نلجأ أيضاً إلى الاشتراك بخدمات الجيل الثالث 3G، مقابل ملبغٍ يصل إلى 50 دولاراً أميركياً شهرياً، ولا تكفي لثلاثة أشخاصٍ أصلا”، يضيف محمّد، ما يضطره وأخوته إلى قصد أحد المقاهي كلّ يوم للحصول على الإنترنت، حيث يدفعون بين 3 و5 دولاراتٍ أميركية في الجلسة الواحدة، خاصّة أنّ شقيقته الكبرى تتحضّر لخوض الامتحانات الرسمية الثانوية بعد فترة قصيرة. منذ سبعة أشهر حتى اليوم، يعيش محمد وأخوته في غرفةٍ واحدة، ولا حلّ أمامهم/ن سوى استخدام السماعات لكي يتمكّنوا من التركيز.
ليست عائلة محمد إلا نموذجاً عن آلاف العائلات الجنوبية التي أجبرت على ترك بيوتها هرباً من القصف والغارات الجوية المستمرّة.
20 محطّة خارجة عن الخدمة
في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، أعلنت شركة “ألفا”، في بيان، أنّه “بين الفترة والأخرى، يتوقّف عمل بعض محطّات “ألفا” في المنطقة الحدوديّة الجنوبيّة، بفعل عدم القدرة على تزويدها بمادّة المازوت نتيجة الأوضاع الحاصلة، ممّا يؤدّي إلى انقطاع الخدمة موقّتاً عن البلدات الّتي تتغذّى من هذه المحطّات”، مشيرةً إلى “أنّنا نعمل بالتّعاون الوثيق مع الأجهزة المعنيّة، من أجل تأمين استمراريّة الخدمة”.
في مقابلةٍ مع “سمكس”، يؤكّد وزير الاتصالات في حكومة تصريف الأعمال جوني القرم أنّ هناك 20 محطة لـ”ألفا” خارجة عن الخدمة بفعل غياب الصيانة و/أو عدم القدرة على تزويدها بالطاقة، مشيراً إلى أنّ بعض المحطّات التي كانت تغذي بدورها محطاتٍ أخرى دُمّرت بالكامل بفعل القصف الإسرائيلي.
ويضيف القرم لـ”سمكس” أنّ شركتي الاتصالات، “الفا” و”تاتش”، على تواصلٍ وتنسيقِ كامل مع الجيش اللبناني لإجراء أعمال الصيانة متى توفر الظرف المناسب، وأنّ السبب الرئيسي وراء تدهور الخدمة في الجنوب هو “التداخل العالي عبر النطاق 900 ميجاهرتز”.
في الواقع، ليس التحليق المستمر للطيران الاستطلاعي الإسرائيليّ بجديد، إلا أنّ وتيرته ازدادت بشدّة بعد الحرب، إلى درجة أنّ ما يصل إلى ثلاث طائراتٍ باتت تحلّق في الوقت نفسه في سماء المناطق الجنوبية، إلى جانب الطيران الحربي الذي يمعن في قصف القرى، بحسب شهاداتٍ شاركها شهود عيان من سكّان الجنوب مع “سمكس”.
“في إحدى المرات، كنّا في المدرسة، وكان الأستاذ يشرح درساً، فأغار الطيران الحربي الإسرائيلي فجأة بالقرب منّا. ومنذ فترة، اخترق الطيران جدار الصوت في المروانيّة، ما تركنا غير قادرين على التركيز من شدة الخوف”، يردف محمّد.
لم تنحصر تداعيات أزمة الاتصالات بمناطق الجنوب فقط، بل طالت كلّ لبنان، خاصة في ظلّ الضعف الفنّي والتقني الذي يمنع السلطات من إعادة تشغيل محطّات الإرسال بشكلٍ سليم، وفقاً لتصريحات القرم لـ”سمكس”.
ويُذكر أنّ قطاع الاتصالات في لبنان لم يكن بحالٍ أفضل قبل بدء الحرب الإسرائيلية على جنوب لبنان. فطوال العقود الماضية، عانى القطاع من تحديات مستمرّة، مثل ضعف جودة الشبكة والخدمات والأسعار المرتفعة، بدءاً من حقبة الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، مروراً بتفاقم الأزمة الاقتصادية عام 2019، وصولاً إلى العدوان الإسرائيلي الحالي على لبنان.
الإنترنت والكهرباء لا يتيحان العمل عن بُعد
شاع أسلوب العمل عن بُعد بين بعض سكّان القرى الحدودية الجنوبية بعد انتشار جائحة كوفيد-19 عام 2020، شأنهم/ن شأن الملايين/ات حول العالم، إلا أنّ الفرق بين هؤلاء وسكّان الدول الأخرى هو سرعة وجودة خدمات الإنترنت في لبنان، التي يتعذّر توفّرها أصلاً في أحيانٍ كثيرة.
تقيم الشابة نهلة الأمين في بلدة شقرا الحدودية في قضاء بنت جبيل، التي تتعرّض أطرافها لقصفٍ إسرائيلي كلّ حين، وتعمل عن بعد كمصمّمة غرافيك مع شركة لبنانيّة محليّة.
في حديثٍ مع “سمكس”، تقول نهلة: “يتطلّب عملي توفّر الإنترنت والكهرباء بشكلٍ دائم، خاصةً مع الحاجة المستمرة لإجراء المقابلات مع الزبائن لتنفيذ التصميمات المطلوبة، و كنت أضطرّ في أحيانٍ كثيرة للذهاب إلى منازل أصدقائي للحصول على الإنترنت، لكن ذلك لم يعد مريحاً ولا مستساغاً بالنسبة إليّ”.
بعد فترة من المعاناة والمحاولات المتكرّرة لاحتواء هذا الواقع، استقالت نهلة مكرهةَ من وظيفتها، بعد أن تكرّر تأخرّها عن تسليم المشاريع وعدم التزامها بساعات العمل جرّاء أزمة انقطاع الإرسال والانترنت في المنطقة.
بدوره، يعلّق وزير الاتصالات في المقابلة التي أجرتها معه “سمكس” على التقارير التي أكّدت التشويش المستمرّ على خطوط الاتصالات، قائلاً إنّ خطوط الأسلاك الارضية لـ”أوجيرو” معزولة تماماً، ولا تتأثّر بمحاولات التشويش، مشيراً إلى أنّ المشكلات المتعلّقة بقوة الإشارة قد تؤثّر على الاتصالات اللاسلكيّة التي يستخدمها مزوّدو الخدمة لتوصيل العملاء، سواء بالطريقة اللاسلكية أو عبر الأبراج الخلوية. وكحلٍّ مؤقت، قامت “ألفا” و”تاتش” بتنشيط خدمة صوتية محلية في العديد من المناطق، واتّخذتا خطوات إستباقية لإصلاح أيّ تداخلٍ في الإشارة عبر الشبكات، بحسب القرم.
تدابير محدودة لوزارة الاتصالات
في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أعلن وزير الاتصالات في تصريحٍ إذاعي، عن خطة طوارئ تقدّمت بها كل من “أوجيرو”، و”ألفا”، و”تاتش”، يمكن تطبيقها “في حال نشوب حربٍ على نطاقٍ واسع في لبنان”. وتضمّنت الخطة استخدام “المولّدات المتحركة، وتعبئة مخزون المازوت بالكامل، وحفظ الداتا، وتوفير غرفةٍ للتحكم عن بعد بالشبكات، بالإضافة إلى تأمين احتياجات السوق من بطاقات التشريج، وتأمين الحماية على مدار الساعة تحسباً لأي خرقٍ إلكتروني”. ولكن لم يتّضح بعد أمام المواطنين/ات اللبنانيين/ات، وخاصة سكان المناطق التي تعاني ظروفاً إنسانية صعبة وانقطاعاً في الإنترنت، إلى أين وصلت هذه الخطة، التي تحدّث عنها الوزير في تصريحاتٍ متفرّقة أصلاً.
في هذا الشأن، يتساءل مدير برنامج الإعلام في منظمة “سمكس” للحقوق الرقمية، عبد قطايا، عن مآلات هذه الخطة: “الخطوات التي قامت بها الوزارة كانت ارتجالية. ماذا نُفّذ منها أصلاً؟ ولماذا لا يتم الحديث عنها الآن؟”.
أمّا في ما يخصّ باقة الإنترنت التي أطلقت خصيصاً لطلّاب قرى الجنوب، فإنّ استخدامها محصورٌ بتطبيق واحد للتعليم عن بعد، الأمر الذي يعتبره قطايا غير كافٍ، باعتبار أنّ الطالب يحتاج إلى تطبيقات أخرى للدراسة والتواصل والاطمئنان عن الأهل والأقارب.
وعلى مستوى “أوجيرو”، يؤكد القرم “وضع خططٍ لإعادة توجيه حركة الأسلاك (حيثما كان ذلك ممكناً وضمن القدرات المتوفرة) في حال تعرّضت المراكز الرئيسيّة لقصفٍ مباشر”.
وكانت وزارة الاتصالات شكّلت مجموعة طوارئ بينها وبين “تاتش” و”ألفا” لحل المشكلات الحرجة التي تواجهها شبكات الاتصالات والتي تتطلب تعاون جهاتٍ عدة، من بينها ما سمّته الوزارة “أزمةً أمنية راهنة في الجنوب”. وتقتضي الخطة الحفاظ على تنسيق يوميّ بين شركتي الخليوي لتفعيل خدمة التجوال الوطني، وذلك لتغطية المشتركين/ات في المناطق التي تشهد انقطاعاً في الشبكة، بحسب ما يكشفه القرم لـ”سمكس”.
إضافة إلى ذلك، يؤكّد وزير الاتصالات اللبناني التزام الشركتين بتشارك التجارب فيما يتعلق بالتشويش الذي قد تشهده شبكة الاتصالات في البلاد، بآليّة مماثلة لتلك التي طُبّقت أثناء تقييم التشويش الذي طرأ على نظام التموضع العالمي (GPS)، مشيراً إلى أنّ الوزارة “لم تلمس حتى الآن أيّ تأثيرٍ على شبكة الإنترنت”.
في تقريرٍ سابق نشرته “سمكس”، وثّقت المنظمة التشويش الإسرائيلي الذي يستهدف نظام التموضع العالمي ويعرّض حركة الملاحة الجويّة والبحريّة المدنيّة للخطر، إذ يستخدم الاحتلال تقنياتٍ مخصصّة لتعطيل إشارات نظام التموضع العالمي والاتصالات، كجزءٍ من استراتيجيتها العسكرية. كما أفادت وكالة الأنباء الإسرائيلية (Ynet)، في كانون الأول/ديسمبر الماضي، بأنّ الطرق التي ينتهجها الاحتلال الإسرائيلي تؤثر أيضاً على الإشارات في الأراضي الفلسطينية المحتلة والدول المجاورة، ومن ضمنها لبنان.
تبقى الحرب الإسرائيلية على جنوب لبنان الحلقة الأصعب والأعنف ضمن سلسلةٍ من الأزمات المتتالية التي تعصف بالبلاد، والتي تترافق مع تقصيرٍ رسميّ واضح في مواضع عديدة، أدّت إلى صعوبة في إجراء أيّ إصلاحاتٍ ملحّة، خاصة في قطاع الاتصالات.
الصورة الرئيسية من أ ف ب.