في 25 تمّوز/يوليو، أعلنَ رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد تجميد عمل البرلمان وإقالة رئيس الوزراء هشام المشيشي الذي عيَّنَه سابقاً، كما صرَّحَ بأنَّه سيحكُم مؤقّتاً بموجب مرسوم للتدابير الاستثنائية. أنشأَ الدستور التونسي الذي انبثقَ عن “الربيع العربي” نظاماً شبه رئاسي يقوم على توزيع السلطة، حيث يستمدّ رئيس الوزراء سلطته من البرلمان. لكن، من الناحية العملية، لم ينجح تقسيم السلطة في معالجة المشاكل الجذرية في البلد، مثل الإنماء المتوازن بين المناطق ومكافحة البطالة، بل على العكس تماماً، ساهمَ هذا النظام في اعتماد نهج غير متماسك تجاه جائحة كوفيد-19 وقرارات الإغلاق العام، ما أدّى بدوره إلى تفاقم الوضع الاقتصادي.
والآن، تُنتهَك حقوق الإنسان والحقوق الرقمية في تونس، وفقاً لنشطاء ومحامين محلّيين، في حين تنزلق البلاد مجدّداً نحو نظام الدولة البوليسية الذي ربّما لم يتوقّف يوماً.
ما مستوى حرّية الإنترنت في تونس؟
تُسجِّل تونس أعلى مؤشّر لحرّية الإنترنت (64 من أصل 100) في المنطقة، وتحتلّ مرتبةً أعلى من مراتب لبنان وباقي البلدان الناطقة بالعربية. تُعتبَر “الهيئة الوطنية للاتّصالات” الجهة التنظيمية الرئيسية لقطاع تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات، ووفقاً لموقع ecoi.net “تعمل الهيئة باستقلالية نسبية عن الحكومة، لكنَّها تفتقر إلى الضمانات المؤسّسية لحمايتها من التسييس”. وعلى عكس ما يحدث في الأردن أو سوريا أثناء فترة الامتحانات الرسمية أو أثناء الانتخابات أو الاحتجاجات في السودان، لا تُعاني تونس من مشكلة قطع شبكة الإنترنت. ولكنّ سوق الاتّصالات التونسي يتركّز في بعض الكيانات التي تتحكّم بها الحكومة نوعاً ما، لأنَّها تملك حصصاً في شركتَين من شركات الاتّصالات الثلاث الكبرى في البلد، “اتّصالات تونس” (Tunisie Telecom) و”أورانج تونس” (Orange Tunisie).
بعد الثورة، “أصبحت حرّية التعبير حقيقةً وواقعاً في تونس، ولكنَّنا شهدنا في السنوات الثلاث الماضية زيادةً في ملاحقة المدوّنين والنشطاء بسبب منشوراتهم على الإنترنت”، كما تقول نائبة مديرة المكتب الإقليمي لـ”منظّمة العفو الدولية”، آمنة القلالي، لوكالة “صوت أميركا” (VOA) في آذار/مارس الماضي.
فعلى الرغم من سقوط الديكتاتور، واعتماد دستور تقدُّمي عام 2014، لا يزال النظام البوليسي سارياً في البلد تحيط به بعض القوانين القمعية. وكما تقول عفاف عبروقي، وهي باحثة تونسية مع فريق “سمكس”، فإنّ “دستور العام 2014 يحمي الحرّيات ويُعتبَر خطوةً تقدُّمية في المنطقة. وفي الوقت نفسه، ما زال لدينا قوانين مثل مجلّة الاتّصالات التي عُدِّلَت في العام 2016 لكنَّ تعديلاتها تطرح بعض الإشكاليات فيما يتعلّق بحرّية التعبير، وهذا السيناريو ازداد سوءاً في العامَين الماضيَين”.
مضايقات الشرطة على الإنترنت
اندلعت شرارة الثورة في العام 2010 على إثر ممارسات الشرطة في شوارع تونس، وهي ممارسات دفعت بمحمّد البوعزيزي إلى إحراق نفسه بعد أن أصبحَ غير قادر على تأمين معيشته كبائع متجوّل. والآن، بعد مرور عقد من الزمن على الربيع العربي، لا تزال الأجهزة الأمنية في تونس عالقةً في دوّامة التوجّهات الاستبدادية. في العام 2015، لم تنجح الأجهزة الأمنية التونسية في الضغط نحو إصدار مشروع القانون رقم 25/2015 الذي تزعم أنّه يهدف إلى منع الاعتداء على القوى المسلّحة، الأمر الذي كانَ سيُقيّد حرّية التعبير عملياً. بحسب عبروقي، يهدف مشروع القانون إلى “معاقبة الخطاب على الإنترنت الذي يُعتبَر ’مُهيناً‘ بحقّ الشرطة، وإعفاء القوى الأمنية من المسؤولية الجنائية عند استخدام القوّة المفرطة”. ولكن، بفضل الضغوط التي مارسَها النشطاء، لم يصدر القانون رقم 25/2015، غير أنّ محاولات إحيائه تكرّرت في أعوام 2017 و2018 و2020 كما أوضحَت عبروقي في مقال سابقٍ لها. وفي شباط/فبراير 2018، حاصرت بعض نقابات الشركة الأكثر تمثيلاً محكمة بن عروس أثناء التحقيق في تُهَم التعذيب ضدّ بعض العناصر، وهو سيناريو تكرَّرَ مجدّداً في تشرين الأوّل/أكتوبر 2020.
إلى جانب القانون 25/2015، ثمّة مواد قانونية تحمي القوى الأمنية في البلد بشكل مُبالَغ فيه. ينصّ الفصل 91 من “مجلّة المرافعات والعقوبات العسكرية” على عقوبة السجن لغاية ثلاث سنوات بحقّ كلّ مَن يهين المؤسّسة العسكرية وعَلَمِها ويمسّ بكرامتها ومعنوياتها. ويُعاقِب الفصل 125 من “المجلّة الجزائية” كلّ مَن “يهضم جانب موظّف عمومي حال مباشرته لوظيفته” بالسجن لمدّة عام وبدفع غرامة، كما ينصّ الفصل 128 من المجلّة الجزائية على أنَّ أيّ شخص “ينسب لموظّف عمومي أموراً غير قانونية دون أن يُدلي بما يثبت صحّة ذلك” قد يُعاقَب بالسجن لمدّة عامَين.
مشاريع قوانين تُهدِّد حرّية التعبير
في شباط/فبراير 2021، نشرت الناشطة مريم البريبري تعليقاً على مقطع فيديو لشرطي يُهاجِم شابّاً، فوصلتها بعد فترة وجيزة مذكّرة تفتيش غير قانونية بتهمة “الإساءة إلى الآخرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي”، الأمر الذي يُعتبَر انتهاكاً لـ”مجلّة الاتّصالات” (قانون الاتّصالات). وفي السياق نفسه، صدرَ حكمٌ بحقّ المدوّنة آمنة الشرقي بالسجن لمدّة ستّة أشهر بتهمة نشر محتوى يُحاكي صيغة آية قرآنية على موقع “فيسبوك”. وقصدت رانيا العمدوني، الناشطة من مجتمع الميم، مركزاً للشرطة لتقديم شكوى حول المضايقات التي تعرّضت لها من قِبَل الشرطة، لكنْ تمّ توقيفها بدلاً من ذلك.
كذلك، في شباط/فبراير 2021، نشرت نقابات الشرطة رسائل تتضمّن تهديدات لنشطاء ومحامين على “فيسبوك”، وبعد ذلك أوقف ما لا يقلّ عن 50 مدوّناً/ة نشروا محتوى على الإنترنت يتضمّن انتقادات للحكومة خلال الاحتجاجات التي أُقيمت لإحياء ذكرى مرور عقد على الربيع العربي. وفي معظم الحالات، كان النشطاء التونسيون/ات يُلاحَقون بموجب “مجلّة الاتّصالات” المذكورة أعلاه.
تشرح عبروقي أنّ “الشرطة تدّعي أنَّ صفحات فيسبوك ليست تابعة لها، لكنَّها ما زالت تُظهِر ممارسات التخويف التي يرتكبها الكثير من عناصر الشرطة”. ويلاحظ النشطاء في تونس أسلوباً معيّناً في قمع كلّ مَن ينتقد الحكومة أو الوضع الراهن على الإنترنت، مثل أن “يستدعوك إلى التحقيق قبل أن يصدروا حكماً بحقّك أو حُكماً مع وقف التنفيذ بمثابة تحذير”، بحسب الباحثة التونسية. وبالفعل، صدرت أحكام بالسجن بحقّ الكثير من مُستخدِمي الإنترنت بزعم نشر أخبار كاذبة عن كوفيد-19.
بالإضافة إلى ذلك، أدّت الجائحة إلى تعميم ما يشبه خطاب الحروب بحيث “إذا شكَّكَ الصحافيون والمدوّنون في استراتيجية السلطات وتدابيرها تجاه فيروس كورونا المستجدّ، قد يُواجِهون محاولات لإسكاتهم بحجّة افتقارهم إلى “الحسّ الوطني” أو “الخبرة”، بحسب مقالة لسوسن بن شيخ في موقع “الأصوات العالمية” (Global Voices).
تقدُّمٌ أم تخلُّف؟
تشهد حقوق الإنسان والحقوق الرقمية في تونس تراجعاً منذ الانتخابات الأخيرة، وتحديداً في عهد رئيس الوزراء هشام المشيشي ثمّ حالياً مع انتزاع الرئيس سعيد للسلطة في 25 تمّوز/يوليو، الذي أعقبه اقتحام عناصر الشرطة لمكتب قناة “الجزيرة” في ما شكَّلَ انتهاكاً لحرّية الصحافة. ومع كلّ ذلك، تعتبر عبروقي أنَّ الأمل موجود، فقد “أصبحَ التونسيون يُدرِكون أنَّنا اكتسبنا حرّية التعبير مع الثورة. الجيل الجديد يستخدم أساليب أكثر إبداعاً للاحتجاج؛ إنَّهم أقلّ خوفاً على ما يبدو. أتساءل ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة إلى مستقبل تونس”.
الصورة الرئيسية من وكالة “أسوشيتد برس” (AP).