نُشرت هذه المقالة للمرّة الأولى من قبل “أدفوكس” (Advox) في 19 تمّوز/يوليو 2023. يُعاد نشرها هنا كجزء من اتفاقيّة إعادة النشر بين “سمكس” (SMEX) و”غلوبال فويسز” (Global Voices).
كتبت “أدفوكس” هذا المقال ونشرته في الأصل، كجزءٍ من شراكتها مع مؤسسة “سمول ميديا” (Small Media Foundation) لتقديم مبادرة “أبرور“UPROAR initiative للقراء، وهي عبارة عن مجموعة من المقالات تسلّط الضوء على التحديات في مجال الحقوق الرقميّة في البلدان التي تخضع لعمليّة الاستعراض الدوري الشامل للأمم المتحدة.
لطالما افتخرت الحكومة التونسيّة بتدنّي مستوى الأميّة في البلاد، خاصّةً بين النساء. ولكن منذ ثورة العام 2011، شهدت البلاد تراجعاً سريعاً في هذا المجال، إذ ازداد عدد المتسربين من المدارس، مع مغادرة الآلاف سنويّاً من دون اكتساب القدرة على قراءة المعلومات عبر الإنترنت وكتابتها واستخدامها بشكلٍ مفيد.
تونس وازدواجيّة السرعة
يبدو الوضع في تونس آخذاً في التدهور بالتزامن مع ظهور مؤشرات سلبيّة جديدة في مجال التعليم، إذ أفاد وزير الشؤون الاجتماعية التونسي مالك زاهي عن ارتفاعٍ كبيرٍ في عدد الأميّين/ات في البلاد، قائلاً إنّ “عدد الأشخاص الأميّين تخطّى المليونين، مّما يمثّل عائقاً كبيرًا للتنمية في البلاد”. ويشكّل هذا الرقم نحو 20% من سكّان تونس، بينما بالكاد تصل هذه النسبة إلى 1% في معظم الدول الغربية. وتسجّل نسبة الأمية مستوياتٍ أكثر ارتفاعاً، في المناطق الريفية والمناطق الداخلية للوسط والشمال الغربي، مما يعكس التفاوت الاقتصادي في البلاد. علاوة على ذلك، تدعو مستويات الأميّة في صفوف الشباب اليوم إلى القلق–فـ 70% من الأمّيين/ات هم شبابٌ تركوا المدرسة في سنّ مبكّرة، وتتراوح أعمارهم بين 12 و18 عاماً. في حين يفترض أن يكون هذا الجيل من الأجيال الرقمية، يبدأ عددٌ كبيرٌ من الشباب التونسيين/ات حياتهم من دون المهارات الأساسيّة للتنقل في عالمٍ معقّد ورقميّ.
وعليه، يُحتمل أن تتّسع الفجوة الاجتماعية والرقمية بين الأكثر والأقلّ تعلّماً في تونس خلال السنوات المقبلة إذا لم يحصل تدخّل مركّز لتطوير المهارات الرقميّة؛ فكلّما اتّسعت الفجوة، ازداد خطر استبعاد أفقر الناس وتركهم خلف الركب، مهدّداً التماسك الاجتماعي. روت هاجر، وهي معلّمة في مدرسة رسميّة طُلب منها التقاعد مبكّراً، لـ “غلوبال فويسز” الوضع المؤسف:
في الماضي، شكّلت الطبقة الوسطى العمود الفقري للبلاد، والتي تقلّصت اليوم. أصبحت تونس تسير بسرعتَيْن مختلفتَيْن مع نظام موازٍ في التعليم والرعاية الصحية والتوظيف… يعيش الناس في حالة تقوقع اجتماعيّة ويعزلون أنفسهم. يسجّل الأهل المقتدرين ماديّاً أولادهم في المدارس الخاصّة، بينما يجول الأكثر فقراً الشوارع، ويقومون بوظائف غير مستقّرة مقابل أجور زهيدة أو يتطلّعون إلى الهجرة غير الشرعيّة.
الأميّة الرقمية: “استخدام الإنترنت معقّد”
يظهر البحث الأخير الذي أجراه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) حول الشمول الرقمي في تونس أنّ التكلفة لا تزال عقبة أمام الأكثر فقراً والشباب. ولكنّ المشكلة الأكبر تتجلّى في نقص المعرفة والفهم لتكنولوجيا المعلومات نفسها. شكّلت عدم معرفة كيفية استخدام الإنترنت السبب الرئيس لعدم استخدامه؛ حتّى في حال تسنّى للأشخاص الوصول إلى التكنولوجيا، فهم في حاجةٍ إلى بعض المعرفة الأساسيّة للاستفادة من الإنترنت بشكلٍ جيّد. في هذا السياق، صرّحت نجوى، وهي موظّفة حكوميّة تعمل في برنامجٍ لإدماج الشباب في سوق العمل، لـ “غلوبال فويسز”:
“من المؤسف أن وصول الناس إلى الإنترنت لم يؤدِّ حتماً إلى تمكينهم. فكثيرون لا يعرفون كيفية استخدامه للعثور على معلوماتٍ وخدماتٍ مفيدة. حتّى يومنا هذا، لا يدرك الناس أنّ الإنترنت يشكّل مساحة يمكن استخدامها للتعلّم والمساعدة في اكتساب المهارات والخدمات والوظائف حتّى”.
في الواقع، يكمن السبب وراء ذلك في أنّ فهم الناس للإنترنت في تونس يتركّز بشكلٍ أساسي على وسائل التواصل، وعلى وجه الخصوص “فيسبوك” (Facebook)، الذي يُعدّ أكثر الشبكات الاجتماعيّة استخداماً في تونس. فقد كان يحظى بأكثر من 6.9 مليون مستخدمٍ/ة نشطٍ/ة في كانون الثاني/يناير 2020، يمثلون 75% من السكان. يُعدّ “فيسبوك” المصدر الرئيس للمعلومات والأخبار المضلّلة أيضاً، كما يعتبر كثيرون/ات أنّ وسائل التواصل غذّت التوترات الاجتماعية. أوضح الأستاذ في الصحافة الصادق الحمامي أن “فيسبوك” في تونس “يغزو حياتنا اليومية ويحتاج إلى تنظيمٍ حتّى لا يشكّل تهديدًا لها”.
يكتسب هذا الأمر أهميّةً مضاعفة، فأولئك الذين لم يتلقّوا التعليم، يفتقرون إلى مهارات التفكير النقدي وبالتالي يكونون أكثر عرضةً للدعاية والأخبار المزيفة. عندما ادّعى الرئيس التونسي قيس سعيّد في شباط/فبراير 2023 أن “بعض القوى الأجنبيّة تقود خطّة إجراميّة لتغيير التركيبة السكانية التونسيّة”، انتشر سيلٌ من الأخبار المزيّفة على وسائل التواصل مثيراً الكراهية ضدّ أفارقة جنوب الصحراء. لم يتمكّن الناس من التمييز بين الحقيقة والأكاذيب، واندلعت موجةٌ من الإساءة العنصريّة.
وبسبب الافتقار إلى الوعي والأدوات اللازمة، يشكّل التصفّح الآمن للإنترنت وحماية البيانات والخصوصيّة تحدياتٍ أكبر للتونسيّات. بحسب منصة “نواة” الإعلامية، تعرّضت 80% من النساء في تونس إلى عنفٍ متعدّد الأبعاد على الإنترنت، يشمل التحرش الجنسي والمطاردة والترهيب.
تنتشر أنواع العنف هذه على مواقع التواصل حيث يقضي التونسيون/ات معظم وقتهم، كما ويشهد المجتمع التونسي زيادةً في مستويات القلق والاكتئاب والانعزال بسبب هذا الوضع.
الافتقار إلى محتوى شامل يمكن الوصول إليه
مع استمرار تحوّل العالم السريع إلى العصر الرقمي، يجب أن تتّخذ المؤسسات تدابير شاملة استباقيّة لضمان إدراج احتياجات المجتمعات الأكثر فقراً في كلٍّ من العرض، حيث تضمن شموليّة المحتوى، والمهارات، حيث تضمن إلمام الناس الرقمي بما يكفيهم للاستفادة والمشاركة الكاملتَيْن، ويبقى تصميم الحلول الرقميّة واختبارها وتنفيذها، مهما جرى تبسيطها، عمليةً مكلفة. من الضروري التشجيع على التعاطف والوعي بالفقر الرقمي من أجل معالجة مسألة الافتقار إلى الشمولية من ناحية العرض. أمّا المحتوى على الإنترنت، فيجدر أن يكون بلغةٍ ووسيلةٍ يسهل فهمهما، لكن في الوقت الحالي، يتكوّن معظم المحتوى الرقمي من نصوصٍ مكتوبة. وكتبت الصحيفة التونسية اليومية “لا بريس” (La Presse): “بما أنّ معظم المحتوى الرقمي مكتوب، فإن استيعابه معقّد بالنسبة لأولئك الذين لا يتقنون أساسيّات القراءة أو الكتابة أو الحساب”. وفيما يتحدّث حوالى 4.5% من سكّان العالم اللغة العربيّة، يشكّل المحتوى العربي على الإنترنت أقلّ من 1% من إجمالي المحتوى، حيث تطغى اللغة الإنجليزيّة عليه. وبالتالي، يعجز الأشخاص الذين يجيدون اللغة العربية بشكلٍ أساسي، ولديهم قدرات محدودة على قراءة الإنكليزية أو الفرنسية، عن الوصول إلى معظم المحتوى على الإنترنت.
محو الأميّة على الإنترنت وخارجه: قضية عدالة اجتماعية
في العام 2021، وبدعمٍ من المجتمع الدولي، أطلقت تونس “مدرسة الفرصة الثانية” بهدف إعادة حوالى 1000 شاب/ة تتراوح أعمارهم بين 12 و18 عاماً كانوا قد تسرّبوا من المدرسة إلى صفوف الدراسة والتدريب المهني سنويّاً. يتميّز البرنامج بتعدّد الاختصاصات وبقدرته على التأقلم مع احتياجات الطلاب. كما يركّز على مهارات القراءة والكتابة الأساسية، ويتضمّن استخدام الإنترنت.
وتنفّذ منظمات المجتمع المدني مشاريع متنوّعة لمحو الأميّة الإعلامية والمعلوماتيّة مع المدارس والشباب، وتمسّ الحاجة إلى مبادرات عاجلةٍ من هذا النوع لتزويد جميع المواطنين/ات بالمهارات اللازمة من أجل فهم المعلومات والمشاركة فيها وخلقها.
فيما يتحوّل العالم بوتيرةٍ سريعة وعميقة إلى مجتمعٍ رقميٍّ للمعرفة والخدمات، وما يتضمّنه من تجارة وإدارة وتعلّم إلكترونيّ، بات من الضروري أن يتمكّن الجميع، وخاصة أولئك الذين يفتقرون إلى التعليم، من الاستفادة قدر الإمكان من التحوّل الرقمي. ينبغي الإسراع في دمج محو الأمية الرقميّة في أيّ برنامج تعليمي للفئات الأكثر ضعفاً، فيصبح الإنترنت قوةً من شأنها خلق عالمٍ أكثر أماناً.