يوم الأربعاء 10 كانون الثاني/يناير، علا صوت المحامية آسيا الحاج سالم وسط حشدٍ كبيرٍ من المحامين/ات والسياسيين/ات والناشطين/ات المناهضين/ات لسياسة الرئيس التونسي، أمام المحكمة الابتدائية بتونس العاصمة، وقالت “لن نعود إلى أي قفص، لن نعود إلى ما قبل 25 أو ما قبل 14 كانون الثاني/يناير. لنكن جميعاً على قناعة تامة بأن ما يقع اليوم في تونس هو شيء فاق الخيال. ليس من السهل بعد سنوات من القمع والقهر، وبعد أن خِلنا أن العصفور لن يعود للقفص، أن يصدر مرسوم أقل ما يقال فيه أنه منافٍ لأبسط قيم الحرية والديمقراطية”، في إشارة إلى المرسوم عدد 54.
تجمّع ذلك الحشد من أجل مساندة العياشي الهمامي، الوزير الأسبق المكلّف بحقوق الإنسان والعلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني، قبل مثوله أمام قاضي التحقيق بسبب تصريح انتقد فيه سياسة الرئيس التونسي قيس سعيّد ووزيرة العدل تجاه ملف القضاة الذين عزلهم الرئيس.
برغم مرور عام ونصف على تاريخ قراره التفرد بالحكم، قدّرالرئيس سعيّد أنّ الخطر على البلاد ما يزال قائماً، وقرّر تمديد حالة الطوارئ استناداً إلى الأمر عدد 50 لسنة 1978 المؤرخ في 26 كانون الأول/يناير 1978 المتعلق بتنظيم حالة الطوارئ. في الوقت نفسه، حصّن الرئيس نفسه ضدّ منتقديه بمراسيم أخرى أثارت قلقاً لدى منظمات حقوقية بسبب تضييقها على الحريات، مثل المرسوم عدد 14 لعام 2022، المتعلق بالمضاربة غير المشروعة، والمرسوم عدد 54 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال.
المرسوم 54: مقصلة رئاسية
أحيل الهمامي، وهو منسّق هيئة الدفاع عن القضاة المعزولين ورئيس الهيئة الوطنية للدفاع عن الحريات والديمقراطية، إلى التحقيق بموجب المرسوم 54. يقول المحامي لزهر العكرمي، أحد أعضاء هيئة الدفاع عن الهمامي، في تصريح لـ”سمكس”، إنّ الهمامي يواجه تهماً بـ”نشر إشاعات كاذبة من شأنها الإضرار بالأشخاص والأمن العام”، إضافة إلى “نسبة أمور غير حقيقية بهدف التشهير”، وهي تهم نص عليها الفصل 24 من المرسوم 54.
ويضيف العكرمي أنّ الدعوى المرفوعة ضدّ الهمامي كانت على خلفية تصريحات سابقة قال فيها إنّ وزيرة العدل لم تنفّذ حكماً قضائياً صادراً عن المحكمة الإدارية، ما يعني أنّها ارتكبت جريمة بحسب القانون، وأنّ رئيس الجمهورية صرف منحة الإعفاء لـ57 قاضٍ معزول، وهو ما يعتبر فساداً وتبذيراً للأموال العامة. بدوره، يواجه العكرمي تهماً بالإساءة للغير عبر شبكة الاتصالات، و”نسبة أمور غير قانونيّة لموظف عمومي على معنى قانون الاتصالات والقانون الجنائي التونسي”، بسبب تدوينة على “فيسبوك” انتقد فيها عزل الرئيس التونسي عدداً من القضاة.
لم يكن الوزير الأسبق العياشي الهمامي الضحيّة الوحيدة للمرسوم 54، إذ سبق للصحافي نزار بهلول أن استُنطق من قِبل فرقة الأبحاث والتفتيش في الجرائم، على إثر شكوى تقدمت بها وزيرة العدل ليلى جفال ضدّه لنشره مقالاً في 10 تشرين الثاني/نوفمبر. يقول بهلول لـ”سمكس” إن جفّال حرّكت ضدّه دعوى قضائية على معنى الفصل 24 من المرسوم 54، بسبب جملة وصف فيها رئيسة الحكومة بالـ “الجدّة اللطيفة”، وتعداده للأزمات التي عاشتها تونس منذ تسلمها منصبها في المقال. ويضيف: “لذلك اتُهمت بثلب رئيسة الحكومة بما من شأنه أن يؤثر على الأمن العام “.
ينتظر بهلول تحديد جلسة ثانية لمعرفة مصيره، حيث يمكن أن يواجه حكماً بالسجن مدته عشر سنوات، “لأنّ القضية تتعلق بموظف عمومي”.
منذ 25 تموز/يوليو2021، يواجه الرئيس التونسي قيس سعيّد ما أسماه بـ”الخطر الداهم”، الذي يتخذه ذريعة لإخضاع كل السلطات لصالحه من خلال قوانين قديمة ومراسيم سنّها بنفسه للتضييق على الحقوق والحريات في كل الفضاءات.
قانون الطوارئ حصن الرئيس
في 26 كانون الثاني/ يناير من العام 1978، شهدت محافظات تونسية صدامات بين قوات الشرطة ومتظاهرين، وهو تاريخ الإضراب العام الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل قبل أسبوعين من ذلك. وفي اليوم ذاته، سنّ الرئيس الحبيب بورقيبة الأمر عدد 50 المؤرّخ في 26 كانون الثاني/يناير 1978 المنظم لحالة الطوارئ، الذي يعطي صلاحيات واسعة للسلطة التنفيذية للتضييق على الحريات، بما في ذلك حرية التعبير والحق في التظاهر والتنقل. وأعاد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي السيناريو ذاته لمواجه الاحتجاجات الشعبية بداية العام 2011.
وبدا أن الرئيس قيس سعيّد استبق بدوره الاحتجاجات المنتظرة في ذكرى ثورة 14 كانون الثاني/يناير، والإضراب العام التي أعلنت عنه نقابة النقل التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل، المقرّر بدؤه في 26 كانون الثاني/يناير الجاري.
يجيز الفصل 8 من الأمر عدد 50 للسلطات بأن “تتخذ كل الإجراءات لضمان مراقبة الصحافة وكل أنواع المنشورات وكذلك البث الإذاعي والعروض السينمائية والمسرحية”، وهو إجراء يمكن أن يستند عليه سعيّد إلى جانب حزمة من القوانين التي تضيّق الخناق على الحريات.
يشير المحامي عبد الناصر العويني في تصريح لـ”سمكس” إلى أن الأمر عدد 50 “نصّ على مراقبة الصحافة والمنشورات والبث الإذاعي، وكان أمراً وضعه بورقيبة على القياس من أجل كسر الإضراب العام الذي أقره الاتحاد العام التونسي للشغل”. ويضيف “صحيح أنّ سعيّد لا يمكنه تطبيق قانون الطوارئ لقمع حرية التعبير على موقع “فيسبوك”، إلّا أنّه قادر على تطبيقه على كل من يدعو إلى التظاهر عبر مواقع التواصل، وذلك بتسليط عقوبة الإقامة الجبرية التي نص عليها الفصلان 4 و5 من الأمر”.
ينصّ الفصل 9 من الأمر عدد 50 على عقوبة تصل إلى عامين في السجن لكل من يخالف أحكامه مثل “محاولة عرقلة نشاط السلط العمومية بأي طريقة”، وتكون عقوبتها الإقامة الجبرية. غير أنّ السلطات في تونس استعانت على بعض الداعين للتظاهر عبر صفحاتهم على موقع “فيسبوك” بواسطة المرسوم عدد 54، وبقانون الجنايات المعروف بالمجلة الجزائية. فقد وجد الناشط الحقوقي حمزة العبيدي نفسه قيد الإيقاف يوم 4 كانون الأول/يناير بعد نشره تدوينة على صفحته الخاصة، دعا فيها للخروج إلى الشارع من أجل التظاهر. واتُّهم العبيدي بالتحريض على العصيان وتمت إحالته على معنى المرسوم عدد 54. غير أن القضية حُفظت، وكان مصيره مشابهاً لمصير الناشط محمد الأزهر إبراهيم الذي أوقف مدة 15 يوم بعد تدوينة كتب فيها “14 جانفي (كانون الأول/يناير) خروج كل الولايات لا رجوع إلى المنازل إلا بسقوط المعتوه”. ووُجهت له تهمة القيام بأمر موحش ضد رئيس الجمهورية وفق الفصل 67 من مجلة الجنايات، قبل الحكم بعدم سماع الدعوى.
كانت حصيلة أكثر من ثلاث سنوات في حكم الرئيس قيس سعيد أزمات اقتصادية واجتماعية حاصرها سعيّد بترسانة من المراسيم التي تضيّق على الحقوق. فإضافة إلى المرسوم عدد 54 المثير للجدل، سنّ الرئيس التونسي المرسوم عدد 14 بداية العام 2022 لمواجهة أزمة فقدان مواد غذائية مثل الزيت والسكر والطحين. ونصّ هذا المرسوم الذي اعتبرته “منظمة العفو الدولية” خطراً يهدّد حرية التعبير، على أنّه يُعتبر مضارباً كل من “يروّج لأخبار ومعلومات غير صحيحة يمكن أن تسبب اضطراباً في السوق أو لدفع المستهلك عن العزوف عن الشراء”، ويمكن أن تصل عقوبتها إلى السجن مدة ثلاثين عاماً.
في غضون أيام قليلة، سيحتفل التونسيون/ات بالذكرى الثانية عشرة لسقوط نظام بن علي، وسط حزمة من المراسيم التي وضعها الرئيس سعيّد، والتي تقضم جزءاً كبيراً من الحقوق التي غنمها الشعب منذ أكثر من عقد من الزمن.