للمرّة الأولى في تاريخ بطولة كأس العالم لكرة القدم، تسنّى لعشاق هذه الرياضة في البلاد العربية أن يتابعوا هذه البطولة على أرضهم. وكان “الاتحاد الدولي لكرة القدم” (FIFA) قد وعد بأن تشهد هذه النسخة من بطولة كأس العالم بعض الابتكارات التكنولوجية الأكثر تطوّراً في مجال الرياضة، ولكن تساؤلات كثيرة تثار حول تأثير ذلك على الحقوق الرقميّة للمشجّعين والمشجّعات، بعدما سبق أن حذّر خبراء في الأمن السيبراني من المخاطر المحتمل ظهورها خلال البطولة في ما يتعلّق بأمن البيانات الشخصية والخصوصية. في قطر، وعلى الرّغم من استثمارات الدولة الضخمة في الخدمات الرقمية، لا تزال الحقوق الرقمية قضيةً مثيرةً للجدل.
تقنيّة جديدة: تطبيق FIFA Experience
من خلال تطبيق “FIFA + Stadium Experience”، استطاع المشجّعون والمشجّعات أن يستمتعوا بمتابعة مباريات كرة القدم بشكلٍ غير مسبوق، إذ قدّم لهم التطبيق ميزات فريدة سمحت للمتابعين والمتابعات خارج الملاعب بعيش تجربة بطولة كأس العالم. ومن هذه الميزات مشاهدة اللقطة من زوايا مختلفة، وتفعيل تكنولوجيا الواقع المعزز مباشرةً أثناء المشاهدة، والوصول إلى الخرائط الحرارية، والإحصاءات، والآراء، وغيرها.
اعتُمِدَت في بطولة كأس العالم في قطر تقنيات متقدّمة للغاية، بدءاً من استخدام أجهزة رصد حالات التسلّل بمساعدة الذكاء الاصطناعي وأدوات تتبّع حركة الكرة، وصولاً إلى أجهزة المراقبة في الملاعب.
كذلك، جرى تعقّب المشجّعين والمشجّعات الذين يدخلون إلى الملاعب بواسطة نظام مؤلّف من 15 ألف كاميرا مزوّدة بتقنية التعرّف على الوجه، وذلك بهدف الكشف عن أي تهديد أمني محتمل في المدرّجات خلال البطولة.
نظام المراقبة المعتمد، والذي تولّى عملياته التشغيلية والتقنية “مركز أسباير للقيادة والتحكم” الخاص بملاعب بطولة كأس العالم، شكّل المنصّة الأولى للتحكم بعدة ملاعب في وقت واحد في مباريات كأس العالم، وتجاوزت التكنولوجيا المراقبة نطاق الملاعب لتمتدّ إلى محطّات القطارات والحافلات المجاورة.
استُخدِمَت أيضاً “الطائرات المسيّرة” في كلّ المباريات من أجل تقدير عدد الجمهور الحاضر في الملعب، ما اعتبره المستشار الأوّل لتكنولوجيا المعلومات في المركز، نياز عبد الرحمن، في مقابلة مع “وكالة فرانس برس” (AFP)، “معياراً جديداً وتوجّهاً جديد في عمليات مراقبة الملاعب، وهو بمثابة مساهمة قدّمتها قطر لعالم الرياضة، وما تشهدونه هنا هو مستقبل عمليات مراقبة الملاعب”.
مخاطر الأمن السيبراني في الفعاليات العالمية
مع تصاعد حدة التوتّرات وتأجّج المشاعر في مثل هذه الفعاليات، قد يستغلّ مرتكبو الجرائم السيبرانية المناسبات الرياضية الكبيرة مثل كأس العالم، نظراً لشهرتها الواسعة والمتابعة الضخمة التي تحظى بها، ما يفسح مجالاً للاختراقات الرقميّة وغيرها من آليات الهندسة الاجتماعية.
وإذ انصبّ اهتمام العالم بأكمله على مهرجان كرة القدم المُقام في قطر، تُعتبر الفعاليات الرياضية المماثلة هدفاً رئيسياً لمرتكبي الجرائم السيبرانية. على سبيل المثال، انتشرت خلال السنة الماضية مواقع إلكترونيّة مسجّلة حديثاً استنسخت الموقع الرسمي لبطولة كأس العالم لكرة القدم 2022، كما ازدادت خلال البطولة محاولات التصيّد الإلكتروني معرّضة الشركات والمنظمات والمشجعين لخطرٍ كبيرٍ.
في حديث من منظمة “سمكس” (SMEX)، يوضح مدير قسم مساعدي الأمان الرقمي في منظمة “أكسس ناو” (Access Now)، محمّد المسقطي، أنّ جمع بيانات المستخدمين والمستخدمات عشوائياً على الإنترنت باستخدام التقنيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي أو “تقنية سلسلة الكتل” (blockchain) أو “إنترنت الأشياء” (IoT) أو الأنظمة الذاتية أو حتى تقنية التعرف على الوجه، قد يؤثّر على خصوصية المستخدمين ويولّد مخاطر متعلّقة بأمن البيانات.
يحذّر المسقطي من أنّ “هذه التقنيات الجديدة تتيح جمع الكثير من المعلومات حول مستخدمين ومستخدمات من حول العالم، ما قد يهدّد خصوصيّة الملايين من المستخدمين الذين يشاركون في هذه الفعاليات الضخمة”.
وبالإضافة إلى أنّ “الحكومات التي تستخدم هذه التقنيات قلّما تلتزم بسياسة متعلّقة بالخصوصية وبحماية المعلومات”، يشير المسقطي إلى احتمال تسرّب البيانات، ما قد يكشف معلومات حساسة عن المستخدمين: “جمع هذه المعلومات وتخزينها بطُرُق غير معروفة وغير آمنة يفسح المجال في كثيرٍ من الأحيان أمام المخترقين لاغتنام الفرصة واستهداف آلاف الأشخاص حول العالم”.
سبق أن تعرّض عشرات المنصّات ومقدّمي الخدمات لهجمات مماثلة، على ما يقول الخبير مع “أكسس ناو”، و”قد يؤدّي ذلك إلى تسريب قواعد بيانات على الإنترنت غالباً ما تشمل معلومات حسّاسة مثل أرقام جوازات السفر وأرقام بطاقات الائتمان وغيرها”.
في مناسبات سابقة، وخلال كأس العالم لكرة القدم 2014 الذي أُقيم في البرازيل، طالت الهجمات السيبرانية مختلف المواقع الإلكترونية المتعلّقة بالبطولة، والحكومة البرازيلية، ووكالة الاستخبارات في البلاد، مع الإشارة إلى أنّ المهاجمين نفّذوها من خلال سلسلة من عمليات الهجوم الموزع لحجب الخدمات (DDoS).
كذلك، خلال بطولة كأس العالم لكرة القدم 2018 التي أُقيمت في روسيا، سُجِّل ما يقارب 25 مليون هجوم إلكتروني وأعمال إجرامية أخرى تستهدف هياكل المعلومات في “الكرملين”.
وعلى الرغم من التقنيّات المتطوّرة المعتمدة في الفعاليات الرياضية العالمية اليوم، يمكن للمُجرمين استغلال الاستخدام المتزايد للإنترنت من خلال التعدّي على خصوصية المستخدمين وحقوقهم الرقمية. فمن أجل الكشف عن أي خرق أمني محتمل وحماية الحقوق الرقمية، يتعيّن على جمهور الرياضة التنبّه والتأهّب لمواجهة المخاطر المحتملة في ما يتعلّق بالخصوصيّة وأمن البيانات الشخصية.
مخاوف بشأن الخصوصية في تطبيق “هيّا” القطري
أُطلِق تطبيق “هيا” الرسمي لكأس العالم من أجل تتبُّع بطاقات المباريات وإصدار تصاريح الدخول إلى الملاعب واستخدام وسائل النقل العام مجاناً في خلال البطولة. وحصل المشجّعون والمشجّعات الذين حمّلوا التطبيق على شرائح هاتف مجانية من شركة “أوريدو” (Ooredoo) للاتصالات، وهي المزوّد الرسمي لخدمات الاتصالات في قطر.
وبالرغم من أنّ الحكومة القطرية خفّفت قبيل انتهاء كأس العالم سياسات الدخول بواسطة بطاقة “هيّا” لبطولة كأس العالم لكرة القدم 2022، غير أنّ التطبيق الذي شكّل هوية رقمية للمشجّعين أثناء إقامتهم في قطر أثار مخاوف في أوساط الأمن السيبراني حول من انتهاك الحقوق الرقمية.
وفقاً لتقرير بحثي صادر عن منظمة “سمكس” ومبادرة “تصنيف الحقوق الرقمية” (RDR)، فشلت سياسة الخصوصية لتطبيق “هيّا” في معالجة المخاوف المحتملة المتعلّقة بالخصوصية التي قد تنجم عن استخدام التطبيق.
وفي ما يتعلّق بالمعايير السائدة للإفصاح وإمكانية الوصول إلى سياسات الخصوصية، لم يتوفّر تطبيق وبوابة “هيّا” بجميع اللغات، إذ إنّ سياسة الخصوصية للتطبيق لمم تتوفّر سوى باللغة الإنكليزية وبعض اللغات الأخرى، ولكن ليس باللغة العربية، مع أنّها اللغة الرسمية في البلد المضيف.
من جهته، يكشف راغب غندور، خبير في الأمن السيبراني في منظمة “سمكس”، أنّ تطبيق “هيّا” المصمّم لتنظيم وتيسير تجربة المشجّعين في بطولة كأس العالم “يرتبط تأثيره على الحقوق الرقمية بالوظائف التي يؤدّيها والبيانات التي يجمعها”. ويوضح أنّ الأثار الناجمة عن التطبيق والمتعلّقة بالخصوصيّة تبقى خاضعة لقوانين الأمن السيبراني في قطر، وآليّة إدارة البيانات، ومصداقيّة مقدّمي خدمات الاتصالات في قطر.
“تبيّن أنّ شركة ’أوريدو‘ القطرية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات هي الجهة التي توفّر خدمات الشبكة الأساسيّة للتطبيق، ما يثير تساؤلات حول أماكن تخزين البيانات وإمكانية الوصول إليها في قطر. وبالتالي، تخضع البيانات التي تمّ جمعها لقوانين وأنظمة قطر”، يشرح غندور.
تجدر الإشارة إلى أنّ “اللجنة العليا للمشاريع والإرث”، وهي الجهة المنظمة للبطولة، تُفصِح بشفافية عن طريقة جمعها للمعلومات، غير أنّها لم تُحدِّد جميع أنواع معلومات المستخدمين التي تجمعها وتُشارِكها أو الهدف من ذلك. بالإضافة إلى ذلك، يلجأ تطبيق وبوابة “هيّا” وغيرهما من منصّات “اللجنة العليا للمشاريع والإرث” إلى الترويج الإعلاني الهاِف والتنميط من خلال تعقّب المستخدمين وبيع معلوماتهم.
وبالرغم من أنّ “اللجنة العليا للمشاريع والإرث” في قطر طمأنت المشجّعين بأنّ التطبيق فعّال وسهل الاستخدام، حُرِم بعض المشجّعين من الدخول بسبب أخطاء في البيانات. وقد أعرب مئات مشجّعي كرة القدم عن استيائهم من آليّة معالجة الطلبات عبر تطبيق “هيّا”، إذ عجز الكثير منهم عن الدخول إلى قطر لحضور مباريات كأس العالم لكرة القدم على الرغم من حيازتهم بطاقات “هيّا”.
صحيح أنّ “الاتحاد الدولي لكرة القدم” (الفيفا) ودولة قطر أوفيا بوعدهما بتنظيم بطولة تعتمد الابتكارات التكنولوجيّة الأكثر تطوراً على الإطلاق في مجال الرياضة، غير أنّ المراقبة المكثّفة والتساؤلات المتعلّقة بشفافية البيانات التي طُرِحَت خلال البطولة لا تزال تثير مخاوف مرتبطة بالحقوق الرقمية في أوساط الأمن السيبراني.