دخلَ القطاعُ التعليمي في لبنان، مع بداية الأزمة الاقتصادية وتفشّي جائحة كوفيد-19 في لبنان، في دوّامةٍ من الفوضى. يخوض الطلّاب بسبب الجائحة سنةً أكاديميةً مختلفة جداً، حيث أعادَت بعض المدارس فتح أبوابها جزئياً ليحضر الطلّاب بالتناوب، بينما اعتمدَت مدارس أخرى المنهاج الدراسي الإلكتروني بالكامل. ولكن في حين شهدَ هذا القطاع تغييراً جذرياً مع بروز التعلُّم الإلكتروني والاعتماد على المنصّات الرقمية للتعليم عن بُعد، ترتّبَت عن هذا التحوّل المفاجئ نحو العالم الرقمي تداعياتٌ أكاديمية واجتماعية كبيرة.
تحدّيات تكنولوجية واقتصادية تُعرقِل عملية التعلُّم الإلكتروني
يظهر اليوم شكلٌ جديد من أشكال التفاوت في القطاع التعليمي، يتعدّى هذه المرّة مجرّد الفرق بين المدارس الخاصّة والمدارس الرسمية في معدّل عدد الطلّاب إلى عدد المدرّسين، ما يؤثّر على جودة التعلُّم إلى حدٍّ كبير. في الواقع، أدّت الآثار السلبية للتعلُّم عن بُعد إلى توسيع الفجوة بين الأشخاص الميسورين القادرين على تأمين الأدوات التكنولوجية اللازمة والأشخاص غير الميسورين الذين يتعذّر عليهم تأمينها.
تُشكِّل بعض القيود التكنولوجية حجرَ عثرة أمام التعلُّم عبر الإنترنت في لبنان. فشبكات الاتّصالات والبنى التحتية للإنترنت ما زالت لا تلبّي احتياجات الكثير من المناطق الريفية، حيث يؤدّي الاتّصال الضعيف أو المتقلّب بشبكة الإنترنت إلى عوائق مُحتمَلة تَحول دون وضع استراتيجيات خاصّة بالتعلُّم عن بُعد. وفي حين يحتاج استخدام تطبيقات التواصل بالفيديو إلى اتّصالٍ آمن ومستقرّ بالشبكة في منازل المدرّسين والطلّاب على حدّ سواء، فإنّ هذه المقوّمات لا تتوفّر دائماً.
بيّنت دراسة استقصائية أجرتها “مفوّضية الأمم المتّحدة السامية لشؤون اللاجئين” (UNHCR) في نيسان/أبريل 2020 شملت 10 آلاف عائلة محتاجة، أنَّ نصف هذه العائلات فقط يملك تلفازاً في المنزل، في وقتٍ لا تملك فيه أيّ عائلة تقريباً أجهزة لوحية أو حواسيب بل تملك هاتفاً ذكياً واحداً فقط في المنزل.
تُنفِق هذه العائلات حوالى 25 ألف ليرة إلى 50 ألف ليرة لبنانية على خدمات الإنترنت لهواتفهم، بحسب الدراسة نفسها، ما يعني أنّه إذا استمرَّ ارتفاع الأسعار بسبب التضخّم/انخفاض قيمة العملة فلن تبقى هذه العائلات قادرة على تغطية هذه التكاليف. وحتّى لو أخذنا في الاعتبار أنّ رسوم الخدمة بقيت كما كانت من دون زيادة، علينا أن ننظر إلى أنّ عدد الأشخاص العاطلين عن العمل قد ازداد، ما يشير إلى أنّ ذلك سيكون مصدراً إضافياً لعدم المساواة. أمّا في ما يتعلّق بتعليم الأهل لأولادهم في المنزل، فقد أفادَ الآباء والأمّهات الذين شملتهم الدراسة أنّهم يريدون المساعدة، ولكنَّ 60% منهم فقط يُجيدون قراءة اللغة العربية و9% فقط يُجيدون الإنكليزية أو الفرنسية.
في هذا السياق، يقول بيل فان إسفلد، وهو مدير مُساعِد في قسم حقوق الطفل في منظّمة “هيومن رايتس ووتش” (HRW)، في حديث مع “سمكس”، إنّنا “نُواجِه خطر التسرّب من المدرسة على نطاقٍ واسع ودائم، ولا يمكن لوزارة التربية أن تُعالِج هذه المسألة بمفردها على الإطلاق”. أمّا بالنسبة إلى الحلول فيشير إلى أنّ “ضرورة اتّباع نهج مبني على مشاركة الجميع، بحيث يحصل المجتمع المدني على ما يلزمه من تمويل وإمكانات من أجل الوصول إلى هؤلاء الأطفال وتأمين التجهيزات التي يحتاجونها (من قرطاسية وهواتف ذكية أو أجهزة لوحية)، ودفع الرسوم الشهرية لخدمات الإنترنت، ومشاركة وتطوير الممارسات الفضلى المتعلّقة بالتعليم عبر التطبيقات التي يمكن للأطفال استخدامها”.
تأهيل تكنولوجي غير كافٍ
أظهرَت دراسةٌ استقصائية أجرتها “الجامعة اللبنانية الأميركية” (LAU)، و“مركز الدراسات اللبنانية” (Centre for Lebanese Studies)، و“شبكة المشاركة المحلّية لأبحاث اللجوء” (LERRN)، أنَّ الجزء الأكبر من التعليم يحصل في الواقع عبر تطبيق “واتساب” (Whatsapp)، ولكنَّ التوجيهات المتعلّقة بكيفية التعليم الفعّال عبر هذا التطبيق بقيَت محدودة. وكشفَت الدراسة أيضاً أنَّ المدرّسين/ات يعملون لساعات أطول في التعليم عن بُعد وينفقون من مالهم الخاصّ على تكاليف الإنترنت من أجل التواصل مع طلّابهم، وذلك من دون حصولهم على أيّ تعويض.
يتمثّل أحد التحدّيات الأخرى في عدم توفُّر كادر من الموظّفين/ات المُدرَّبين/ات لدعم تنفيذ التعليم عن بُعد. ففي حين يتطلّب الاستخدام الفعّال لتكنولوجيات التعلُّم عن بُعد أن يكون المدرّسون/ات مُدرَّبين على استخدام التعليم عن بُعد كوسيلة لإيصال المعلومات، يُعتبر اليوم عدد الأساتذة المُلِمّين بالتعليم الإلكتروني قليلاً جدّاً.
وبالنسبة إلى المشاكل المتعدّدة التي يواجهها الأساتذة أثناء التعليم عبر الإنترنت، تقول سحر ملّي، إحدى المدرّسات في “مدرسة المقاصد”، لـ”سمكس”، إنّ المدرّسات والمدرّسين يواجهون عدداً لا يُحصى من المشاكل، بما فيها مشاكل الحضور، وعدم الإلمام بالموارد المتاحة، وقضاء ساعات على مهام لم تكن تستغرق إلّا بضع دقائق في السابق، والحاجة إلى إعادة تصميم دروس شاملة ومُشوِّقة، والإحباط إزاء منحنى التعلُّم الذي يبدو عمودياً في كثيرٍ من الأوقات. أما “لإنترنت الضعيف، فهو مشكلة كبرى تؤثّر على سرعة اتّصال الطلّاب ومشاركتهم في الصفّ، حيث أجدُ صعوبةً في تشجيع الطلّاب على المشاركة”، بحسب ملّي.
يواجه الأهالي اللبنانيون مشاكل مماثلة في المنزل، إذ يحاولون حثّ أولادهم على الصبر والانتباه، ويدفعونهم إلى متابعة دروسهم، كما ويقدّمون الدعم التقني على أفضل وجه ممكن برغم قدراتهم المحدودة. وكلّ ذلك في ظلّ الانقطاع المتكرّر للاتّصال بالإنترنت والتيّار الكهربائي.
في هذا السياق، تلفت أمٌّ لبنانية فضّلت عدم ذِكر اسمها، لـ”سمكس”، إلى أنّها تُعاني من عملية التعلُّم عن بُعد مع أطفالها الثلاثة. يحتاج الأطفال في أغلب الأحيان إلى استخدام الإنترنت في الوقت نفسه، ولذلك يضطرّون إلى تشغيل عدّة جلسات مباشرة ما يؤدّي إلى إبطاء الاتّصال بالإنترنت، وبالتالي تعذّر حضور الصفوف أو إنهاء المهام على أكمل وجه.
تفاوت متزايد وسط معدّلات فقر مرتفعة
أثَّرَت حالات انقطاع الاتّصالات في لبنان في الآونة الأخيرة على البنية التحتية للاتّصالات التي تُعتبَر ضعيفة أصلاً، حيث تسبّب النقص في الوقود ومشاكل الصيانة المستمرّة في إضعاف خدمات الاتّصالات في البلاد المقدّمة من هيئة “أوجيرو” (Ogero)، وهي البنية التحتية الأساسية لجميع شبكات الاتصالات في لبنان بما في ذلك خطوط الهاتف الأرضية واشتراكات “دي إس إل” (DSL)، وشركتَي اتّصالات المحمول “ألفا” (Alfa) و“تاتش” (Touch)؛ وجميعها شركات تابعة جزئياً أو كلّياً للدولة. وفي آذار/مارس من هذه السنة، مع انتقال عدد كبير من المدارس إلى التعلُّم عبر الإنترنت بسبب جائحة كورونا، أطلقت “سمكس” عريضةً عبر الإنترنت تُطالِب فيها بإنترنت أسرع وخدمات أرخص تسمح للطلّاب المحرومين بالوصول إلى الإنترنت وإكمال عملية التعلّم في هذه الأوقات الصعبة.
وفي مقابلةٍ مع “سمكس”، يقول عماد كريدية، المدير العام لهيئة “أوجيرو”، إنَّ “الهيئة تعمل بالتعاون مع وزارة التربية لتوفير الإنترنت بأسعار مدروسة إلى الطلّاب، ولذلك فهما تعملان على تحديد المناطق المحرومة من خلال توضيح نطاق تغطية الشبكة وأماكن سكن الطلّاب ومواقع البنية التحتية الموجودة، ودراسة كيفية تمديد الاتّصال المناسب إلى جميع الطلّاب”. أمّا بالنسبة إلى استغراق المشروع هذا الوقت الطويل، فيشير كريدية إلى أنَّ هذا المشروع قائمٌ منذ بداية السنة لكنّ الإقفال بسبب الجائحة أسهم في تأخيره.
وفي أواخر شهر آذار/مارس ومطلع شهر نيسان/أبريل، أجرَت منظّمات غير حكومية في جميع أنحاء لبنان دراسةً استقصائية ضمّت 10 آلاف أسرة من أجل تقييم كيفية متابعة الأطفال دراستهم بعد إقفال المدارس. شملَت العيّنة مجموعةً من الأُسَر التي تدعمها هذه المنظّمات غير الحكومية أصلاً والتي تتضمّن أطفالًا محتاجين مثل اللاجئين السوريين واللبنانيين المُصنَّفين بأنّهم “ضعفاء اقتصادياً”.
بطبيعة الحال، ارتفعَ عدد العائلات التي تعيش دون خطّ الفقر منذ ذلك الحين، حيث بات أكثر من نصف سكّان لبنان اليوم تحت خطّ الفقر بحسب “اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا” (ESCWA). بيّنَت الدراسة أنَّ عائلات كثيرة تعجز عن تأمين الأجهزة الإلكترونية مثل الهواتف الذكية أو التلفاز، ما يعني أنّ هذه الأدوات التي حدّدتها وزارة التربية والتعليم العالي كأحد أساليب التعلُّم عن بُعد، وخصوصاً التلفاز، لن تكون متاحةً لعدد كبير من الأطفال المحتاجين إلى الدعم التعليمي.
وفي حين تتطلّب زيادة استخدام الإنترنت في التعلُّم عن بُعد نفقاتٍ إضافية مرتبطة بالاتّصال بالإنترنت لدى الأُسَر، يقول فان إسفلد مُشيراً إلى دراسة “مفوّضية الأمم المتّحدة السامية لشؤون اللاجئين”، إنّ “نصف الأسر المشمولة في التقييم تنفق أقلّ من 25 ألف ليرة لبنانية على تكاليف الإنترنت الشهرية، في حين يُنفق النصف الآخر بين 25 ألف ليرة و50 ألف ليرة في الشهر”.
إذاً على الرغم من توفّر الإنترنت في لبنان وجودته النسبيّة واحتلاله المرتبة 60 من بين 100 بلد في الترتيب العالمي لجودة الإنترنت الصادر عن وحدة الاستخبارات الاقتصادية” التابعة لمجلّة “ذي إيكونوميست” (The Economist Intelligence Unit)، يعاني البلد بحسب التقرير نفسه من ضعف في الجهوزية بالدرجة الأولى. ويعود ذلك وفقاً للتقرير إلى “ضعف تطوير السياسات الذي يُساهِم بشكل كبير في الحدّ من قدرة لبنان على دعم شمول الإنترنت للجميع”.
مع اضطرار لبنان إلى الدخول في ميدان التعلُّم عن بُعد، تبقى الحقوق الرقمية لعدد كبير من الطلّاب اللبنانيين مُهدَّدة. فالوصول إلى التكنولوجيا يجعل التعلُّم عن بُعد أسهل بالنسبة إلى الأغنياء وأصعب بالنسبة إلى الفقراء، ما يزيد الهوّة بين هاتين الشريحتَيْن في المجتمع اللبناني.