في تموز/يوليو الماضي، نشرتُ مقطعي فيديو منفصلين، واحدٌ موجّه للرجل وآخر موجّه للمرأة. سجّل الأول نحو 15 ألف مشاهدة عضوية، 151 إعجاب، و5 تعليقات،و102 مشاركة، و86 احتفاظ، بينما حاز الآخر على 7 آلاف مشاهدة عضوية، 59 إعجاب، 6 تعليقات، 55 مشاركة، و53 احتفاظ.
وفي مقطعٍ آخر قدّمت فيه أيضاً نصائح موجهة للرجال، تُظهر التحليلات 76 ألف مشاهدة، 739 إعجاب، 126 تعليق، و3597 مشاركة، في حين بلغ عدد المشاهدات على فيديو آخر موجّه للنساء 8400، و94 إعجاب، و28 تعليق، و134 مشاركة فقط.
لماذا أشارككم هذه الأمثلة؟ بالنسبة لي كصانع محتوى، تمثّل هاتان الحالتان نموذجاً واضحاً عن أمرين: الحظر المظلّل (Shadow-banning) وهو قيدٌ لا تعترف “ميتا” بفرضه على مستخدمي/ات منصّاتها، وتصرّح عنه مبررةً أنّ الفيديو لم يتم تصنيفه في فئة “التوصيات”، أمّا الأمر الثاني فهو تقييد المحتوى المتعلّق بالنساء إلى حدٍّ كبير مقارنة بالمحتوى الذي يخصّ الذكور.
يعاني صناع المحتوى الهادف، خاصّة المتعلّق بالصحة الجنسيّة والإنجابيّة، في الوصول إلى جمهورهم وتفاعله معهم، وذلك لأنّ محتواهم، بحسب سياسات “إنستغرام“، يصنّف على أنّه إمّا جنسي، أو إباحي، أو غير لائق، أو مضلّل. ولكن حجم التناقض في هذه المعايير مخيف، فكيف لمحتوى التعرّي غير الهادف والتشهير أن يكون منتشراً بشكل كبير دون أي تنبيهاتٍ حتى، فيما يقيّد المحتوى التوعوي ويُحجب في أحيانٍ كثيرة؟
حذف وتقييد المحتوى دون مبرّرات
نلجأ كصنّاع محتوى متعلّق بالصحة والحقوق الجنسيّة والإنجابيّة إلى التحايل على منصات التواصل من خلال التلاعب بكيفيّة طرح المعلومات وصياغتها، بما يتناسب مع “إرشادات المجتمع” الخاصة بـ”ميتا”. على سبيل المثال، نكتب كلمة “جنسي” بهذا الشكل “جنىىىي”، وبدلاً من استخدام مصطلح “جنسيّة”، تفضّل الخوارزميات مصطلح “تناسلية”. تساهم هذه الاستراتيجية بتعزيز ظهور المحتوى وتجنيبه الحجب أو الحظر المظلّل.
وقد حاولت منصّة “انستغرام” تقييد وحذف مقطعي فيديو نشرتهما حول فيروس نقص المناعة البشري قبل 3 أو 4 سنوات، وقدّمت طعناً لإعادة النظر بالقرار كون المحتوى يركز على التعليم والتثقيف والتوعية حول الصحة.
وللمفارقة، لم ينحصر وجودي أونلاين في السابق بـ”انستغرام”، إنّما كان لي حسابٌ نشطٌ على منصّة “تيك توك” قبل حظره من قبل الحكومة الأردنية، التي أعلنت حجبها “بعد إساءة استخدامها (منصة تيك توك) وعدم تعاملها مع منشورات تحرّض على العنف ودعوات الفوضى”. كان المحتوى هناك سريع الانتشار مقارنةً بـ”إنستغرام”، إلا أنّ “تيك توك” كانت أكثر تقييداً لمحتواي معتبرةً إياه إباحياً وغير لائق، وحذّرت من اغلاق الحساب مرّاتٍ عديدة.
لماذا علينا دائماً، كصنّاع محتوى متعلّق بالصحة والحقوق الحنسيّة والإنجابيّة، أن نعاني ليصل محتوانا؟ ولمصلحة من هذا التقييد؟ لا يشكّل نشر الخبراء والمختصّين الموثوقين لهذا النوع من المحتوى أيّ خطر على الجمهور، بل على العكس، يساهم في توعيته وإيصال المعلومة إليه بسهولة وتكلفة منخفضة. والمزعج بالنسبة إليّ وزملائي، هو أنّ منصة “انستغرام” تقدّم نفسها على أنّها مساحة ترحّب بالقضايا والأفراد باختلاف خلفيّاتهم، إلا أنّها في الواقع ترزح تحت سيطرة مظلّة سياسية تمنع المستخدمين من الانتفاع والوصول إلى المعلومة الصحيحة.
ثقافة الـ”عيب”
يعرب بعض المتابعين/ات عن إعجابهم بمحتوى صفحتي عندما يصادفونني في أماكن عامة على الرغم من حساسية قضايا الصحة الجنسيّة. وبحسب ما سمعت من كثيرين/ات، يحاول الناس تجنّب التفاعل على “انستغرام” مع محتوى الصحة الجنسيّة لئلا يلاحظ أقرباؤهم واًصدقاؤهم، الذين قد يبدأون بطرح أسئلة إمّا بداعي الفضول أو التسخيف أو التعييب: “لماذا تتابع صفحة عن الإيدز؟ هل أنت مصاب به؟ هذا المغفل يروج للانحراف. كيف يمكن لفتاة أن تتحدث علناً عن الدورة الشهرية؟”
يتابع صفحتي ما يقارب 14 ألف متابع عضوي، لكنّ عدداً كبيراً ممن يراسلونني يقومون بذلك عن طريق صفحات وهميّة، فارغة كلياً وبأسماء عشوائية. وفي حال كانت لديهم الجرأة الكافية لطرح الأسئلة والكشف عن معلومات شخصية، يقومون بذلك دون متابعة الصفحة. من جهة أخرى، يلجأ البعض إلى خاصّية الرسائل التي تختفي (disappearing messages) التي تضمن اختفاء المحادثات كلياً فور الخروج منها.
انطلاقاً من تجربتي، يمكنني القول إنّ المجتمع الأردني بالتحديد والعربي عامةً ما زال ينظر لقضايا الصحة الجنسية على أنّها غربية، وتنتشر بهدف تدمير أخلاق وأفكار المجتمع، ولا ارتباط لها بحياة الإنسان العربي الذي يقتصر دوره على الإنجاب.
ويصل الحال بطالب المعلومة أحياناً حدّ أن يعتمد الإنترنت ووسائل التواصل كمصدر موثوق لإجاباتٍ على تساؤلاته واحتياجاته في ما يتعلّق بصحته الجنسية والإنجابية، تجنّباً للإحراج والوصم من قبل المجتمع، خاصةً إذا كان الشخص يمارس سلوكيّاتٍ غير معياريّة كالعلاقات الجنسيّة خارج إطار الزواج، الممارسات الجنسية من ذات الجنس، أو الإجهاض.
بالإضافة إلى ذلك، لاحظت نشر الكثيرين/ات لمحادثاتهم مع “تشات جي بي تي” (ChatGPT) وهم يعطونه أوامراً بمحادثتهم بأسلوبٍ حميمي وعاطفي وحنون، وهو أمرٌ يؤثّر بشكلٍ مباشر على الصحة النفسيّة للأفراد. صُمّمت تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لمحاورة المستخدم بإيجابيّة، وما لا نراه بعينٍ تحليليّة هو احتمالية الإدمان عليها لأنها توفر مساحة آمنة محتضنة وموفرة للمشاعر. فالدماغ البشري يحوي عقداً نفسية متراكمة قد تدفع الإنسان للاتكال على الذكاء الاصطناعي، ما يهدّد سلامته النفسية والاجتماعية.
المحتوى غير الهادف مربح للطرفين
بناءً على تجربتي، مجدداً، أرى أنّ منصّات التواصل تطبع ثقافاتٍ مجتمعية وتتبناها على شكل سياسات وإرشادات ومعايير تقنية رأسمالية وتروج لها. فما هو مثلاً مدى دعم “انستغرام” لفيديو أو منشور يظهر رجلاً شبه عارٍ متناسق الجسد مقارنة بمنشورٍ يظهر رجلاً يعاني السمنة؟ وما هي احتماليّة دعم المنصّة لمحتوى شخصٍ ينفّذ مقالب سخيفة مقابل آخر يتحدّث عن الاستخدام الصحيح للواقي الذكري؟ هل سيكون التفاعل والانتشار نفسه؟ سأترك الإجابة للقارئ/ة.
تستنزف “انستغرام” طاقتي النفسية بشكلٍ هائل منذ عام 2021، أي مذ بدأت صناعة محتوى الصحة الجنسية والإنجابية والنفسيّة، فأنا لست مؤثراً هدفه الترفيه غير الهادف الذي تدعمه المنصّة. ونادراً ما تأبه المنصة بالشكاوى التي أقدّمها وغيري من صنّاع المحتوى بشأن التعليقات المحرّضة وخطاب الكراهية العنيف الذي نتلقّاه بشكلٍ متكرّر، فبالنسبة إلى فئةٍ كبيرة من المجتمع الأردني بالتحديد، أنا لست “رجلاً” بالشكل الكافي، وتمتلئ خانات التعليقات على منشوراتي بشتائم وتهمٍ مصدرها موروثاتٌ مشوهة. يدفعني ما أشهده منذ بدء رحلتي هذه إلى طرح أسئلة كثيرة، أبرزها هو هل ترى “انستغرام” حقاً أنّ المحتوى التثقيفي حول الصحة الجنسيّة والإنجابيّة أكثر خطراً من خطاب العنف والتحريض والكراهية؟ أم أنّها لا تهتمّ أصلاً بالإشراف على المحتوى المنشور على منصاتها بطرق عادلة تضمن احترام حقوق مستخدميها وعدم انتهاكها؟
الصورة الرئيسية من AFP.