شنّ الاحتلال الإسرائيلي غارتين على مبنى “برج عودة” في مدينة صور في جنوب لبنان، الأولى كانت في 29 أيلول/سبتمبر الماضي، أمّا الثانية فنفّذت في 7 تشرين الأول/أكتوبر الجاري. أسفرت الغارتان عن عددٍ من الشهداء والجرحى، ودمّرت محطّة الإنترنت التابعة لشركة “طقش غروب”، إحدى أكبر الشركات الخاصة في المنطقة، مما أثر على الشبكة في المدينة ومحيطها.
“عقب هذه الغارة، انقطع الإنترنت الأرضيّ كلياً، وانقطعت خدمات الإنترنت التي تقدّمها شركة “ألفا” لمدة ثلاثة أيام، وتلك التي تقدّمها “تاتش” ليومٍ واحد، قبل أن تعود بجودة ضعيفة جداً”، وفق ما يقول علي قرعوني، أحد أبناء المدينة الذين لم ينزحوا منها، في حديثٍ لـ”سمكس”.
أجبر انقطاع الإنترنت سكّان مدينة صور على ما لم يستطع القصف المستمرّ إجبارهم/ن عليه، ألا وهو ترك المدينة. محمد قدادو كان من بين هؤلاء، إذ يقول لـ”سمكس” إنّ “انقطاع الإنترنت يعني عزلنا عن العالم ويزيد من شعورنا بالقلق، وهذا أمرٌ لا يمكن القبول به أو التعايش معه”.
حجم الأضرار وانقطاع الشبكات
لم يقتصر انقطاع الإنترنت على مدينة صور، وهو ليس في الواقع سوى امتدادٍ لغياب خدمات الإنترنت التي تقدّمها “أوجيرو” في عددٍ كبير من المناطق اللبنانيّة، سواء بسبب العدوان الإسرائيلي أو بسبب الضغط على المولدات. تعليقاً على هذه النقطة، يقول مدير عام هيئة “أوجيرو” عماد كريديه في مقابلةٍ مع “سمكس”، إنّ “نقطتين تصلان 26 سنترالاً بعضها ببعض على صعيد لبنان، توقفتا عن العمل بعد أن تعذّر الوصول إليها لإصلاحها بسبب القصف المستمرّ“.
“نعمل على التنسيق المستمرّ مع الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل من أجل السماح لنا بالدخول إلى المناطق الآمنة نسبياً وإصلاح الأعطال، ونمتنع عن ذلك في حال رأوا أنّ تواجدنا فيها يشكّل خطراً على الموظّفين”، يضيف كريديّة لـ”سمكس”، مشيراً إلى أنّ “هذه الأعطال تؤثّر على أقل من 10% من المشتركين على صعيد لبنان، في حين أنّ أكثر من 90% من الشبكة تعمل بشكل طبيعي سواء فيما يتعلّق بالاتصالات أو الإنترنت”.
وعلى الرغم من محاولة الإيحاء بأنّ نسبة المتضررين/ات من انقطاع الإنترنت والاتصالات محدودة بالمقارنة مع العدد الكُلّي للمستخدمين/ات، إلا أنّ ذلك لا يُعفي “أوجيرو” من تحمّل مسؤوليتها بإيجاد حلّ لهذه المشكلة.
على صعيدٍ آخر، انخفضت نسبة استهلاك الإنترنت بمعدل 26% على صعيد لبنان، ما ينعكس سلباً على إيرادات الدولة، وتبدو أسباب هذا التراجع منطقيّة، وفقاً لكريديّة، مع نزوح نحو ثلث الشعب اللبناني من مناطق سكنهم/ن التي كانوا يستعملون فيها خدمات الإنترنت الأرضيّ، لينتقلوا إلى مراكز إيواء يستخدمون فيها إنترنت الهاتف الخليوي.
بالنسبة إلى شركات الهاتف، فالأمر ليس أشفى حالاً. توضح شركة “ألفا” في ردّها على أسئلة “سمكس” عبر الإيميل، أنّ لديها 130 محطّة خارجة عن الخدمة حالياً، إمّا بسبب تضرّرها في القصف، أو بسبب عدم قدرة الطواقم الفنيّة على الوصول إليها وصيانتها وتزويدها بالطاقة. أمّا شركة “تاتش” فليست أفضل حالاً من نظيرتها، إذ تؤكّد لـ”سمكس” أيضاً أنّ 21 من مواقع إرسالها تضرّرت من جرّاء الحرب.
غياب الحلول البديلة
في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، تحدّث وزير الاتصالات اللبناني جوني القرم، ومن بعده رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، بحماسة كبيرة عن إتمام صفقة مع جمعية تسعى لتوفير أجهزة اتصال بالإنترنت عبر الأقمار الصناعية من شركة “سبيس أكس” (SpaceX) الأميركية لتأمين خدمة الإنترنت عبر الاتصال الفضائي “ستارلينك” (Starlink) في لبنان كخطّة طوارئ في حال اندلاع حرب.
حينها، اتّهم عدد من النواب هذه الخطّة بأنّها “مشبوهة من حيث الجهة المجهزة والأمد الزمني لها”، وأشاروا إلى “غياب المنفعة العامة” منها. ثمّ بدلاً من معالجة الثغرات، غابت الحلول البديلة نهائياً.
في ما يخصّ خطّة الطوارئ، يؤكّد كريديّة غياب “أي خطة بديلة خلال حرب. نحن نعتمد على شبكة أرضية ولا يمكننا اللجوء إلى أي حلّ سوى إعادة البناء المُتعذرة في الوقت الحالي نظراً لاستمرار الاعتداءات الإسرائيلية”. ويلفت في حديثه مع “سمكس” إلى مشكلة أخرى تقف عائقاً أمام عمل “أوجيرو”، تتمثّل بكون “موازنتنا ليست كافية لكي نتمكن من الاستجابة بشكلٍ فوري لمعالجة هذه المشاكل، ونحن نعمل بإمكانيات أقلّ من عاديّة”.
أما “تاتش” وألفا” فعملتا، وفقاً لرسالتيهما لـ “سمكس”، على “محاولة” اتخاذ خطوات لمواجهة هذه الأزمة، إذ نشرت “تاتش” تراخيص للطوارئ في محطات الإرسال الأساسية التي تغطي المناطق الآمنة لتوفير قدرة تحمّل إضافية لعدد المستخدمين/ات (النازحين/ات) الضخم. وتمكنت الشركتان، على حدّ قولهما، من إيجاد حل لاختناقات السعة على مستوى الموجات الترددية، بهدف المحافظة على مستويات مرضية من جودة التجربة للمستخدمين في المناطق الآمنة، وذلك من خلال تجهيز المحطات الواقعة في هذه المناطق بالناقل الثالث (control channel).
من جهتها، تشير شركة “ألفا”، في رسالتها لـ”سمكس”، إلى أنّها أعادت توزيع الموارد والسعات من محطات إلى أخرى، ورفعت السعة في المحطات الموجودة في مناطق النزوح، وفعّلت خدمة التجوال المحلي بين الشركتين (National Roaming) في المناطق الحدودية الجنوبية مثل بنت جبيل، مرجعيون، صور، حاصبيا، والبقاع في بعلبك-الهرمل بالتعاون مع “تاتش”.
تجارب النازحين/ات مع انقطاع الإنترنت
تعزّزت مخاوف الجنوبيين من استمرار انقطاع الاتصالات والإنترنت ووصوله إلى المزيد من القرى في ظلّ اشتداد العدوان الإسرائيليّ يوماً بعد يوم.
تشارك زينب حجازي، من بلدة معركة الجنوبية في قضاء صور، في مقابلة مع “سمكس”، تجربتها مع انقطاع الإنترنت الذي استمرّ أياماً، انقطعت وعائلتها خلالها عن العالم: “انقطاع الإنترنت لا يعني فقط فقدان التواصل مع الآخرين فحسب، بل أيضاً قدرتنا على تصفّح تطبيقات التواصل التي تُشكل متنفساً لنا وتزوّدنا بالأخبار حول ما يجري حولنا”.
بدوره، يؤكّد مصدرٌ بلدي في معركة أنّ سبب هذا الانقطاع هو “فقدان مادة المازوت، وقد سارعنا إلى الحصول عليها وتزويد محطة أوجيرو بها لمعالجة هذا الانقطاع”، موضحاً أن “شركةً خاصّة تؤمّن الإنترنت الأرضي لأبناء البلدة، ولكنّ الضربات الإسرائيلية أدّت إلى قطع بعض كابلاتها وقطع خدمات الإنترنت التي تقدّمها”.
أمّا أحمد، القاطن في بلدة حبّوش في قضاء النبطية، فيطالب بجعل الاتصالات وخدمة الإنترنت مجانية في ظل الحرب، باعتبار أنّ “حق الوصول إلى الاتصالات والإنترنت ملحٌّ ولا يمكن الإستغناء عنه خصوصاً في ظل الحرب، ولا بدّ من مراعاة الظروف المادية للجنوبين الذين فقدروا أعمالهم/ن وبيوتهم/ن”.
تتصاعد المخاوف من تأثير انقطاع الاتصالات على عمل الهيئات الاغاثية التي يصعب التواصل معها في حال الوصول إلى سيناريو من هذا النوع. فعدم قدرة المواطنين على التواصل مع الصليب الأحمر أو الدفاع المدني سيضعف من جدوى أعمال الإغاثة وسيجعلها غير قادرة على تحقيق أهدافها.
ضعف الشبكة يعيق العمل الصحافي
أثّر غياب أو ضعف شبكة الاتصالات والإنترنت في المناطق الجنوبية على عمل الطواقم الصحافيّة التي تعتمد على هذه الخدمة لنقل الأخبار.
يشارك الصحافي محمد زيناتي، وهو صحافي مستقلّ يتعاون مع قنواتٍ محليّة عالميّة، تجربته في العمل الصحافي خلال الحرب مع “سمكس”: “اضطررت إلى ترك منزلي في بلدة حومين الفوقا، قضاء النبطية، بسبب الإنقطاع التام لشبكة الاتصالات والإنترنت، في حين أنّ عملي يتمثّل بنقل رسائل مباشرة عبر تطبيق “زووم”، فضلاً عن ضرورة إرسال فيديوهات بجودة عالية”. ويلفت إلى أنّه بحكم عمله، فإنّ “السرعة في نقل الخبر والفيديو لها أهمية قصوى وغياب الاتصالات والانترنت يقفان عائقاً أمام إتمام عملي”.
نتيجةً لهذا الواقع، انتقل زيناتي للإقامة في مدينة صيدا، وحيث يضطر لقطع المسافة يومياً وصولاً إلى القرى الجنوبيّة لممارسة عمله وارسال المواد التي ينتجها، مع ما يُرافق ذلك من كلفة اقتصاديّة عالية ومخاطر أمنيّة حقيقيّة.
وأخيراً، يلفت زيناتي إلى تهديدٍ حقيقي يعاني منه وزملاؤه، وهو انقطاع الاتصالات في بعض الطرقات أو الأودية، التي قد يعجز الصحافيون/ات عن طلب فرق الإغاثة إليها في حال تعرضهم/ن لأيّ استهداف.
يوافق الصحافي بلال قشمر على ما قاله زيناتي، مؤكّداً لـ”سمكس” إنّه “لم يتمكن من إرسال المواد الإعلامية التي أعدّها أثناء تغطيته لغارة استهدفت بلدة قانا بسبب ضعف شبكة الإنترنت، ما اضطره إلى العودة متأخراً إلى مدينة صور لإرسالها، وفقدانها لقيمتها الإعلامية”.
ويضيف قشمر إلى أنه عمد إلى شرائه شريحة من شركة “ألفا”، إلى جانب شيريحة “تاتش” التي يملكها، وذلك بهدف تأمين خدمة الإنترنت على مدار الساعة، مؤكداً أن “جميع العاملين عن بُعد قاموا بالأمر نفسه”. يأتي ذلك في بلد صُنّفت فيه رسوم الاتصالات من بين الأغلى في العالم.
دور السلطات المحلية في مواجهة الأزمة
يُجمع معظم المسؤولين المحليين الذين تواصلت معهم “سمكس” على أنّ المشكلة الأساسية التي تهدّد خدمتي الاتصالات والإنترنت تكمن في عدم القدرة على تأمين مادة المازوت في بعض الأحيان أو تزويد المحطات بهذه المادة في أحيانٍ أخرى.
هذا ما يؤكّده نائب رئيس إتحاد بلدية صور ورئيس بلدية برج رحال، حسن حمود، في اتصال مع “سمكس” الذي قال “إنّنا لم نشهد استهدافاً مباشراً لأبراج الاتصالات في مدينة صور والبلدات المحيطة بها إلا بشكل محدود جداً، ولكن المشكلة الأساسية تكمن في القدرة على تزويد المحطات بالمازوت لكي تتمكن من الاستمرار في عملها”، مشيراً إلى أن “البلديات تلجأ إلى فرق الدفاع المدني والكشافة للقيام بهذه المهمّة”.
“ثمة مشكلة في تأمين تكلفة المازوت، لذا نعمد في اتحاد البلديات إلى التكفّل بتغطية هذه التكاليف بعد أن أبلغنا محافظ الجنوب بأنّ شركتي ألفا وتاتش ستقومان لاحقاً بتعويضنا عنها”، وأنّ “صعوبة نقل مادة المازوت من خارج الليطاني إلى داخله تتزايد مع استمرار الحرب”.
في ظلّ تصاعد وتيرة العدوان الإسرائيلي ووحشيّته على لبنان، وإمكانيّة استمراره لفترة طويلة، من المرشّح أن يتّسع نطاق البقعة الجغرافيّة التي ينقطع فيها الإنترنت والاتصالات، مع ما يحمله ذلك من آثار كارثيّة على اللبنانيين/ات. وعليه، يبقى السؤال الأساس: أين خطة الطوارئ التي وعدت بها الحكومة الناس منذ عام تقريباً؟ وهل ستبقى الدولة مكتوفة الأيدي في حين يبكي الوزراء على أطلال “الموازنات التي لا تكفي”؟
الصورة الرئيسية من AFP.