في تطوّرٍ غير مسبوق يعكس واقع حرية الصحافة الحالي في لبنان، ضجّت الأوساط الإعلامية اللبنانيّة مؤخراً بخبر إجبار صحافية على تسليم هاتفها المحمول، وكلمة المرور، ومضمون رسائلها ومحادثاتها ومصادر معلوماتها إلى قسم المعلومات في النيابة العامة التمييزية، في انتهاكٍ واضح لخصوصيّة الصحافة.
تابعت “سمكس” قضية الصحافية التي أجبرت على تسليم بياناتها، ولمست ضبابية وتشعّباً واضحين، إذ بدا أنّ بعضاً من تفاصيل الحادثة مبهمة: فقد تواصلت “سمكس” مع الصحافية جرى تداول اسمها، إلّا أنّها نفت نفياً قاطعاً أيّ صلة لها بالموضوع، واكتفت بالاعتذار عن التعليق على الموضوع.
وعلى أيّ حال، ليست هذه الحادثة الأولى التي تثبت تدهور واقع حرية الصحافة في البلاد، لأنها مسبوقة أصلاً بمجموعة قضايا خرجت إلى الإعلام علناً أو سُرّبت حتى، وعكست ضعفاً في القوانين التي تحمي الصحافيين/ات ومصادرهم/ن. وينبغي هنا التأكيد على أهميّة الاستشارة والحماية القانونية الدائمة للصحافيين/ات، والتطرّق لقانون حماية كاشفي الفساد ومتابعة مساره، إلى جانب تعزيز أهمية الحماية التقنية الشخصية.
خصوصية الهاتف توازي “حرمة المنزل”
على خلفية هذه الحادثة، تبرز قضية حماية الحقوق القانونية والخصوصية الصحافية بشكل لا يمكن إغفاله. إذ تعد حماية حقوق الصحافي/ة خلال عمليات التحقيق أمراً ضرورياً لضمان تحقيق العدالة، إلا أنّ هذا قد لا يكون كافياً.
تشدّد المحامية والناشطة الحقوقية ديالا شحادة في حديثٍ لـ”سمكس” على أنّ حضور محامٍ أثناء التحقيق هو أمرٌ بالغ الأهمية، إذ يضمن وجوده كشاهدٍ على التحقيق الحفاظ على حقوق المواطن، وإن كان ذلك لا يوفر حماية كاملة. “ففي بلادٍ شهدت العديد من الانتهاكات من قبل أفراد الضابطة العدلية وعدم الالتزام بحقوق الأشخاص المستمع إليهم، يصبح وجود المحامي ضرورة ملحة”.
وفيما يخصّ قانونيّة إجبار الصحفيين/ات على تسليم هواتفهم أثناء التحقيق، أكّدت شحادة أنّ للهاتف حرمة “توازي حرمة المنزل، مما يعني أن قانون العقوبات والدستور اللبناني يحميان هذه الخصوصية”. حمى القانون اللّبناني مسألة الخصوصيّة، وتحديداً تلك المرتبطة بالأجهزة الإلكترونيّة والهواتف. وإن كان قانون أصول المحاكمات الجزائيّة المُعدّل عام 2001 سمح للقاضي بإصدار أمرٍ بضبط الأجهزة، وفوّض القانون رقم 140 إداريّاً بعض فروع السّلطة التنفيذيّة بإصدار أمر للقيام بعمليات الضبط هذه، إلا أنّه فرض شروطاً يجب الالتزام بها، ووضع إمكانية اتخاذ مثل هذه القرارات في خانة “الحالات القصوى” وأوجب تدوين القرار وتبريره. هذا وينقل قانون المعاملات الإلكترونيّة والبيانات ذات الطابع الشخصيّ رقم 81 والذي أقرّ في العام 2018 صلاحية التفتيش وضبط الأجهزة خلال التحقيقات من قاضي التحقيق إلى النيابة العامة من دون أي قيود، بحسب شحادة.
إذاً، يحق للقضاء في إطار تحقيقاته طلب الاطّلاع على الهاتف، ولكنّه لا يستطيع إجبار المواطن على تسليمه بالقوة، سواء كانت هذه القوة لفظية أو بدنيّة. وفي حال اعتبر القاضي أن الهاتف ضروري للتحقيق، وأصدر قراراً بمصادرته، يحقّ لصاحب الهاتف الرفض، لكن ما يحدث في الواقع هو أنّ قضاة النيابة يهددون بتوقيف الشخص المستمع إليه في حال عدم الامتثال، وأحياناً يطلبون فتح الهاتف لحذف المنشورات المسيئة تحت طائلة التوقيف.
هنا، لا بد من استعادة ما تبقّى من قانون حماية كاشفي الفساد، وفهم دوره في مثل هذه القضايا. يأتي قانون حماية كاشفي الفساد رقم 83 الصادر بتاريخ 10/10/2018، ضمن مجموعةٍ من القوانين التي تهدف إلى مكافحة الفساد في لبنان. وقد عرّف القانون كاشف الفساد بأنه “أيّ شخص طبيعي أو معنوي يدلي بمعلومات يعتقد بأنها تتعلق بالفساد بمعزل عن الصفة والمصلحة”.
فشل القانون في الحد من الفساد
وفيما لم ينجح القانون أو أي إجراءات أخرى بالحد من الفساد بشكلٍ واضح، أظهر لبنان تصنيفه كواحد من أكثر الدول فساداً على مستوى العالم، محتلاً المركز 149 من أصل 180 دولة تم تقييمها، وفقاً لمؤشر مُدرَكات الفساد (CPI) لعام 2023، الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، وهي منظمة المجتمع المدني الرائدة في العمل على محاربة الفساد في سائر أنحاء العالم.
تعليقاً على ذلك، تقول شحادة لـ”سمكس” إنّ “مشكلة القانون تكمن في ارتباطه بالهيئة الوطنية اللبنانية لمكافحة الفساد، التي تنتظر توقيعات من وزارة المالية لتخصيص ميزانية صغيرة وإعارة موظفين من وزارات عامة لها، أنشئت بموجب قانون مكافحة الفساد في القطاع العام وإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد رقم 175 تاريخ 8 أيّار 2020، انسجاماً مع اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد الموقعة في 31 تشرين الأوّل 2003”.
وتعرّف الهيئة عن نفسها بأنّها “هيئة إدارية مستقلة، تتمتع بالشخصية المعنوية وبالاستقلال المالي والإداري ويتمتع أعضاؤها بحصانات واسعة”.
في الواقع، تعاني الهيئة من نقص في الموارد والموظفين والتمويل، إلى جانب تحديات تقنية أخرى تجعل منها عاجزة عن العمل بكامل طاقتها، بحسب تقرير لمؤسسة “مهارات” الذي تطرّقت فيه إلى التحديات التي تواجه الهيئة. “على الرغم من توفير قانون حماية كاشفي الفساد حماية قضائية وأمنية، إلا أنّ تفعيله يتطلب تقديم كشف صريح للهيئة الوطنية حصراً، مما يعني أن الصحافيين يمكن أن يستفيدوا منه إذا تم تفعيله بشكل كامل”، تضيف شحادة لـ”سمكس”.
وعن حماية مصادر الصحافيين، تقول المحامية اللبنانية إنّه لا يوجد نص قانوني في قوانين المطبوعات المعدلة يحمي مصادر الصحافيين، مشيرة إلى أنّ السبب الوحيد الذي قد يتطلّب فرض تسليم هاتفه هو إثبات صحة واقعة معينة. وفي هذه الحالات، يمكن للقاضي أن يسأل الصحافي عن مصدر معلوماته إذا كانت تتعلق بوثائق لا ينبغي تسريبها قانوناً، مثل محاضر التحقيقات. أما في الحالات الأخرى، فإن الصحافي يمكنه اختيار عدم الإفصاح عن مصدره، مع علمه أنّ ذلك يؤدي إلى اتّخاذ إجراءات قانونية.
ويمكن للصحافي/ة اختيار عدم الإفصاح عن مصادره، إلا أنّ ذلك قد يؤدّي إلى إصدار مذكرة جلب بحقه تسقط تلقائياً بعد شهر، كما جرى في بعض الحالات.
حماية الصحافيين تستدعي وضع سياسات لحماية الخصوصية
تعرّض صحافيون/ات في لبنان لمعاملة ولإجراءات غير قانونية، كان أبرزها استدعاؤهم أمام محاكم جنائية أو عسكرية بدلاً من محكمة المطبوعات. على سبيل المثال، وفي 24 أيار/مايو 2023، استدعيت الناشطة حياة مرشاد للمثول أمام مكتب “مكافحة جرائم المعلوماتية وحماية الملكية الفكرية”، على خلفية دعوى قدح وذم قدّمها المخرج جو قديح بحقها.
وفي 6 أيلول/سبتمبر 2023، استُدعيت الصحافية مريم مجدولين اللحام للتحقيق معها في المباحث الجنائية على خلفية منشور تحدّثت فيه عن قضايا فساد في وقف ديني. حينها، تعرضت مجدولين إلى سلسلة من المخالفات خلال التحقيق التي أجرته الأجهزة الأمنية والقضائية، إذ سُحب مفتاح منزلها بالقوة من يديها، وفُتح جهاز اللابتوب الخاص بها، وجرى الدخول إلى حسابها على “فيسبوك” وحذف منشورٍ لها.
تراجع لبنان عام 2024 على صعيد حرية الصحافة 21 مركزاً ليصبح في المرتبة 140 عالمياً، بحسب التصنيف العالمي لحرية الصحافة 2024 التي تعدّه منظمة “مراسلون بلا حدود”، وهي منظمة غير حكومية تنشد حرية الصحافة، وتتخذ من باريس مقراً لها. بحسب التصنيف، تدهورت حرية الصحافة مع تفاقم الأزمة الاقتصادية والسياسية في البلاد وتشديد القيود المفروضة على الصحافيين”.
ومع تزايد الحديث عن الانتهاكات التي تحدث أثناء التحقيق، بات الصحافيون والناشطون يدركون أهمية عدم إحضار هواتفهم معهم إلى جلسات التحقيق. وقد حرصت منظمة “مهارات”، وهي منظمة تعنى بحرية الرأي والتعبير، من خلال متابعة النقاش حول قانون إعلام جديد، على اقتراح نصٍّ محدد يتعلق بحماية المصادر الصحافية ومكان العمل والأجهزة الإلكترونية للعاملين في الشأن الصحافي.
يقول الخبير القانوني في مؤسسة “مهارات” طوني مخايل، في مقابلة مع “سمكس”، إنّ نظام المقاضاة المدني لا يتضمّن عقوبات سالبة للحرية، مثل عقوبات السجن والغرامات الجزائية التي قد تتحول إلى عقوبة السجن أو قد تُدرج في السجل العدلي للشخص وتؤثر على حقوقه المدنية.
ويرتكز هذا النظام، وفقاً لمخايل، على مفهوم المسؤولية المدنية، حيث يمكن للقاضي الحكم بتعويضات مالية للأضرار الناجمة عن الأخطاء المدنية. يقوم النظام المقاضاة المدني على قانونين رئيسيين: القانون المدني اللبناني (قانون الموجبات والعقود) وقانون أصول المحاكمات المدنية، الذي ينظم عملية الإثبات والمقاضاة المدنية أمام المحاكم. ويختلف عن نظام جرائم المطبوعات أو النظام الجزائي في كون محاكماته تتمّ على ثلاث درجات، مما يجعلها أكثر ضماناً لحقوق المتقاضين، وتكون مدتها الزمنية أطول. لكن في المقابل، تُعد هذه الخاصية من ضمن محاذير النظام، لأن طول مدة المحاكمات يعني استنزاف المدعى عليه أكثر.
وفي حال ثبُتت على الصحافي تهمة التشهير والتسبّب بضررٍ جسيم بحق الأشخاص، فقد يُحكم عليه بدفع تعويضات مالية كبيرة، وحجز ممتلكاته ومنزله مثلاً. في هذا السياق، يشير مخايل إلى ضرورة تقديم ضمانات للصحافي، مثل تحديد سقف للتعويضات المالية بموجب القانون، وتحمّل الوسيلة الإعلامية دفع التعويضات المالية المتوجبة على الصحافي.
علاوة على ذلك، تغيب في هذا النظام الاستدعاءات أمام مكاتب التحقيق والمخافر، ولا يوجد دور للنيابة العامة وقضاة التحقيق، ولا اعتقال تعسفي أو توقيف احتياطي. وتختلف طرق الإثبات المدنية عن الطرق الجزائية، إذ لا تشمل مصادرة الهواتف أو وسائل الإثبات الأخرى. يضمن هذا للصحافيين هامش حرية أكبر وحماية أفضل لخصوصيتهم ومعلوماتهم الشخصية.
يعتبر مخايل أنّ “على المؤسسات الإعلامية وضع سياساتٍ واضحة لحماية المعلومات السرية والخصوصية داخل المؤسسة، وتدريب الموظفين عليها”، مضيفاً أن ذلك يتطلب إقامة دورات تدريبية متخصصة في الأمن الرقمي وحماية البيانات للصحافيين/ات، وتوفير البرامج والتطبيقات الآمنة لتخزين البيانات والتواصل الإلكتروني، فضلاً عن التزام المؤسسات الإعلامية تقديم الدعم القانوني والنفسي للصحافيين/ات الذين يتعرضون لانتهاكات أو مضايقاتٍ تتعلّق بعملهم الصحافي.
ويوجّه مخايل توصيات عامة يمكن للصحافيين اتباعها لحماية سرية معلوماتهم وخصوصيتهم، مثل التعامل بحذرٍ مع المعلومات والملفات والوثائق السرية، وتخزينها في أماكن آمنة محمية بكلمات مرور قوية، واستخدام تطبيقات وبرامج تشفير للاتصالات والمراسلات الإلكترونية لضمان سريتها.
الحماية الوقائية ضرورية
يحتاج الصحافيون/ات إلى غطاءٍ قانونيّ، لكنّ تأمين نوعٍ من حماية البيانات الشخصية على الصعيد التقنيّ بالغ الأهمية أيضاً.
تعتبر سمر حلال، مسؤولة “منصة السلامة الرقمية” في “سمكس”، أنّه يفضّل، في حالة الصحافيين/ات، استخدام هاتف آخر يكون بحوزتهم/ن عند استدعائهم للتحقيق أو في حالاتٍ أخرى تهدد خصوصيتهم. كما تنصح حلال بحفظ المعلومات الخاصة على جهاز آخر غير هواتفهم الشخصية، مثل جهاز اللابتوب، وضمان إجراء نسخ احتياطية (Backup) للمعلومات في حال مصادرة جهازهم، مما يسهّل استعادة المعلومات عند الحاجة لشراء هاتف جديد.
لعبت “سمكس” دوراً بارزاً في مساعدة الصحافيين بعد مصادرة أجهزتهم، من خلال تحليل الهواتف للتأكد من عدم إضافة تطبيقات مراقبة أو تحديثات مشبوهة. ولا تزال تقدّم المنظمة هذه الخدمات، وتفتح المجال أمام الصحافيين لمساعدتهم عند تعرّضهم/ن لمثل هذه الانتهاكات.
في السياق نفسه، تعبّر حلال عن فقدان الأمل بشركات التكنولوجيا الكبرى التي تبغي الربح على حساب خصوصية المستخدمين/ات. فعند طلب أي حكومة تسليم بيانات المستخدمين، غالباً ما تستجيب هذه الشركات، ولهذا السبب، يُنصح باستخدام تطبيقات مثل “سيغنال للمراسلة، وهو تطبيقٌ لا يبغي الربح، ويحرص على مراعاة خصوصية المستخدمين.
يتميز “سيغنال” بتقديم أدوات حماية مثل خاصيّة “اختفاء الرسائل” (Disappearing Messages)، والخاصية الجديدة التي أضيت مؤخراً ليتمكّن المستخدمون/ات من المراسلة دون ذكر الاسم أو رقم الهاتف، والاكتفاء باسم مستخدم (Username)، كما أنه لا يجمع البيانات الوصفية للمستخدمين والتي قد تشمل أموراً مثل الجهات التي تحدث معها، وتاريخ المحادثة، ومرات المحادثة، ونوعها نصاً كانت أم اتصالاً صوتياً، وغيرها. والبيانات الوصفية تلعب دوراً كبيراً في كشف معلومات كثيرة عن المستخدمين.
في ظل الفساد وكثرة التجاوزات التي تعصف بالبلاد، وتصاعد حدّة المضايقات التي يتعرّض على الصحافيين، تبقى حرية الصحافة وحماية خصوصيتها أساساً لضمان تقديم المعلومات بحرية واستقلالية، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال تعزيز التشريعات الداعمة للصحافيين/ات وتطبيقها، وحماية البيانات الشخصية بالقانون والتطبيق.