لم يفارق الخوف والحذر شيماء سلمان (اسم مستعار) ذات الـ29 عاماً من محافظة النجف، عندما حدّثتنا عن المشاكل التي تواجهها وقريناتها في طريق التوصّل إلى معلوماتٍ حول صحتهنّ الجنسية.
“أنشأنا مجموعاتٍ خاصة على فيسبوك لنتناقل المعلومات فيما بيننا وبسريّة تامة، لكنّنا نواجه مشاكل كثيرة أبرزها أنّ بعض الفتيات لا يستطعن الانضمام إلى هذه المجموعات خوفاً من الوصم إن اكتُشف أمرهنّ، فكونهنّ مطّلعات على معلوماتٍ جنسيّة قد يضرّ بسمعتهنّ وشرفهنّ، وقد يؤثر حتى على حظوظهنّ في الزواج”.
في ظل الوضع الاجتماعي المضطرب الذي يمرّ به العراق، تبرز أهميّة نشر ثقافة الصحة الجنسية والإنجابيّة السليمة، كونها ركنٌ أساسيّ تستند إليه العلاقات في المجتمعات. ويمثّل التصاعد في الأعداد الكبيرة لحالات الطلاق التي تجاوزت الـ6 آلاف و500 خلال شهر تشرين الأول الماضي/أكتوبر الماضي فقط في عموم العراق، وفقاً لمجلس القضاء الأعلى العراقي، أنّ هناك مشاكل عديدة تشوب طبيعة العلاقات بين الأفراد، ولا يُستعبد أن يكون جزءٌ منها متعلقاً بالنشاطات الجنسيّة والإنجابيّة والممارسات ذات الصلة.
ولعلّ أبرز الأسباب التي تحول دون استحصال الناس على المعلومات المتعلّقة بالصحة الجنسيّة والإنجابيّة التي يحتاجونها، هو أولاً عدم التشديد على ضرورة نشرها على المستويين الرسمي والاجتماعي، وذلك بسبب سلطة القيود الاجتماعية، والدينية، والمناطقية، والقبلية التي تعيق انتشار هذه الثقافة. كما يدفع غياب برامج التربية الجنسيّة في المدارس الأفراد إلى اللجوء إلى مصادر غير موثوقة، مثل الصفحات العشوائيّة على الإنترنت، أو الأصدقاء والمعارف، وذلك للحصول على معلوماتٍ تفتقر إلى الدقة، ما قد يعرّض صحة الأفراد الجسديّة والنفسيّة للخطر.
من جهة أخرى، يعاني العراقيّون/ات من غياب المصادر الموثوقة والأمينة في الوقت عينه. تعليقاً على ذلك، تقول سلمان: “عند مواجهتها لأيّ مشكلة صحيّة، تقوم الفتاة بنشر تفاصيلها على مجموعة فيسبوك التي أنشأناها، لتشارك باقي الفتيات تجاربهنّ ويتمّ التوصّل إلى ما قد تعتبره حلاً، من عقاقير وخلطاتٍ عشبية”.
“يصعب علينا كفتيات زيارة الطبيبة النسائية، فكثيرٌ من العائلات تمنع بناتها من زيارة الطبيبة خوفاً منهم/ن على تأثر غشاء البكارة بعمليات الفحص، ولئلّا تطّلع الفتيات على معلوماتٍ متعلّقة بالصحة الجنسية. كما ما زالت كثيراتٌ من دون هواتف أو وصولٍ إلى الإنترنت”، تضيف سلمان لـ”سمكس”.
تغييب ممنهج للمعلومات
لا تعدّ طبيعة العراق كبلدٍ ذو أغلبية محافظة يتبع تقاليد دينية واجتماعية صارمة عاملاً مساعداً، إذ تعتبر المواضيع المتعلقة بالصحة الجنسية والإنجابية من المحرّمات، وغالباً ما يُنظر إلى مناقشة قضايا مثل الجنس، وطرق منع الحمل، والأمراض المنقولة جنسياً، على أنها مواضيع لا يجب التطرق إليها في الأماكن العامة، أو الحديث عنها عبر مواقع التواصل، خاصّة من قبل النساء.
“سلبني أخي هاتفي لأنني تابعت صفحة تنشر محتوى عن الصحة الجنسية على موقع انستغرام”. هذا ما قالته مروة محمد (25 عام) من محافظة ذي قار جنوبي العراق، التي باتت اليوم بلا هاتف ومعزولة عن محيطها والعالم بسبب متابعتها لذلك الحساب.
“مررت بعارضٍ صحيّ مفاجئ، وكالعادة تردّدت في التحدّث إلى والدتي خوفاً من رد فعلها، لذلك بحثت في انستغرام فوجدت صفحة ناطقة باللهجة المصرية تقدم معلومات سهلة الفهم ويمكنني التواصل معها شخصياً. شعرت بالأمان كونها غير عراقية، فتابعتها”.
ينتهج كثيرون/ات سياسة تغييب المعلومات باعتبارها “حديثاً غير لائق” ومحرّم اجتماعياً على المرأة خصوصاً، ومع عدم وجود ما يكسر هذه الصور النمطية، تأخذ هذه السياسة بالتنامي، وتُقلل من فرص إنتاج هذا النوع من المحتوى لعدم وجود جمهور له.
تعقيباً على هذه النقطة، تؤكّد الناشطة النسوية دينا الأيوبي لـ”سمكس”: “أنّ هناك نقصاً في المنصّات المحلية المتخصصة التي تقدم محتوى موثوقاً، بسبب التحديات التي تواجه نشر المحتوى المتعلق بالصحة الجنسية والإنجابيّة على الإنترنت، منها الرقابة الثقافية والاجتماعية التي تعتبر الحديث عن هذا الموضوع من المحرمات، والخوف من الوصم والنظرة السلبية التي يعاني منها ناشرو/ات هذا المحتوى، ووصفهم/ن بالـ”عاملين في الدعارة” حتى لو كانوا متخصّصين”.
وتضيف: “قد يؤدي بحث الفتيات عن هذه المعلومات إلى تعرضهن للتعنيف أو ما يُسمى بالاعتقال المنزلي، بل وفي بعض الحالات إلى “وقوع جرائم غسل العار”، في ظلّ افتقارهنّ إلى قنوات آمنة ومفتوحة لمناقشة هذه المواضيع”.
معلومات مضلّلة وتغييب لأصحاب الاختصاص
يتمتّع الرجال بحرية أكبر في البحث عن معلومات من هذا النوع، بالإضافة إلى قدرة أكبر على مناقشتها. ورغم ذلك، غالباً ما تكون المعلومات التي يحصلون عليها مغلوطة بسبب اعتمادهم على مصادر غير موثوقة، مثل المواقع الإباحية، وفقاً للأيوبي.
يقول علاء طالب (30 سنة) من محافظة الديوانية، لـ”سمكس” إنّ “الصفحات التي تناقش هذه المواضيع ومشاكلها قليلة جداً”، واضعاً ثلاثة تصنيفات لها: الأول يقدّم وجهة نظر صاحب الصفحة غير المتخصّص، والثاني يهدف إلى الترويج لمنتج معيّن، أمّا الثالث فصفحات الأطباء الذين قد يقدّمون المعلومات بأسلوبٍ صعب ومبهم لا يسهل فهمه من جميع الفئات”.
تشير د.إيناس هادي سعدون لـ”سمكس” إنّ “الحديث عن الصحة الجنسية ما زال محاطاً بمشاعر العار والخجل، وهذا واقعٌ عمره عقودٌ من الزمن. تميل الأسر العراقية إلى تجنّب مناقشة هذه المواضيع مع أبنائها، معتبرة إيّاها محرّمة ومعيبة، مما خلق فجوة معرفيّة كبيرة وتحديات ثقافية أكثر تعقيداً بسبب طبيعة المجتمع المحافظة”، بحسب قول المختصة بعلم النفس التربوي”.
الخوف من أحكام المجتمع
تقف ردود الأفعال المجتمعية على رأس هواجس الكثير من المختصين/ات والمسؤولي/ات عن المنصّات الرقمية، الذين يخافون النبذ والتحريض أو التهجّم عليهم/ن، فضلاً عن إلصاق تهم الإخلال بالآداب بكلّ من يتناول مواضيع لها صلة بالمرأة أو الجنس.
تشير استبرق الزبيدي، مديرة منصة “شرق العراق” على “فيسبوك”، وهي منصّة اجتماعية تقدّم محتوى متنوّع حول المرأة، والتنوع، والمجتمع والشباب، في حديثٍ مع “سمكس”، إلى أنّ الوصمة الاجتماعية هي سبب عدم القدرة على نشر محتوى الصحة الجنسيّة والإنجابية، بالإضافة إلى سير بعض صفحات وسائل التواصل بما يتناسب مع أهواء الجمهور وتوجّسها المستمرّ من أيّ هجوم إلكترونيّ قد يُشنّ عليها.
“يجبرنا تعدّد المشاكل على إهمال أمور أساسيّة مثل الصحة الإنجابيّة والجنسية. ولنكُن واقعيين، إن العمل في العراق يتبع التمويل ونوع القضايا المراد دعمها، والدعم إمّا سياسي وبأجندة ترويجية له، أو منظماتي ويتبع أهداف المنظمات، فعلى سبيل المثال، تركّز المنظمات حالياً على قضايا المناخ، أو دعم قطاع خاص كالشركات”، تضيف الزبيدي لـ”سمكس”.
ومع ذلك، ما زالت تبرز محاولات جادّة لنشر هذا النوع من المحتوى، وكسر الحواجز التي ترسّبت وحالت دون وجود محتوى علمي رصين يلبّي الاحتياجات المعرفيّة للأفراد.
حلول مقترحة
قد تكون الجهود الحكومية والبرلمانية ضعيفة في هذا الشأن، ويعود هذا إلى السبب نفسه، ألا وهو هيمنة البيئة المجتمعية المحافظة. هذا ما يؤكّده عضو اللجنة المالية النيابيّة في البرلمان العراقي النائب محمد نوري عزيز في حديثه لـ”سمكس”، معتبراً أنّ “المجتمع العراقي متحفظ بدرجة كبيرة في هذا الموضوع، لذلك، لا توجد أيّ إحصائيّة فعلية أو أكاديمية، منشورة أو غير منشورة، من قبل وزارة الصحة أو المؤسسات المختصة، ولا يوجد أي تحرّك في هذا الاتجاه بسبب الضغط المجتمعي”.
“بالنسبة إلى المعلومات بشكلٍ عام، فهناك تطوّر في هذا الجانب، والبرلمان في طور تشريع قانون حق الحصول على المعلومة،إلا أنّه يواجه معارضة جهاتٍ سياسية تحاصرها شبهات فساد وضلوع بأنشطة مافيات اقتصادية تحول دون حصول الأصوات الحرّة على المعلومة، وبالتالي إيصالها إلى الرأي العام”، يضيف النائب العراقي لـ”سمكس”.
ويقترح عزيز اتباع بعض المؤسسات المختصّة حزمة من الإجراءات، مثل نشر ثقافة صحية تنطلق من داخل المؤسسات الصحية وتتلاءم مع طبيعة المجتمع العراقي، على ألّا تتنافى مع الآداب والأخلاق العامة. ويؤكد على ضرورة أن تتعاون مع المؤسسات الأخرى التي تُعنى بالثقافة العامة ونشر التوعية الصحية، والمؤسسات التابعة إلى وزارة التخطيط لإجراء إحصائيات دقيقة عن هذا الموضوع، وحصرها للعمل على معالجتها سواء كانت عن الأمراض أو الحالات نفسية أو غياب المعرفة ببساطة.
من جهتها، تقترح الدكتورة سعدون المختصة بعلم النفس التربوي بعض الخطوات التي من شأنها المساهمة في وضع خارطة لتجاوز تلك العقبات ونشر المحتوى الطبي والثقافي الجنسي: “دعم وتمويل برامج التوعية الصحية الشاملة، وتدريب الكوادر المحلية على تقديم الاستشارات، وإنشاء مراكز صحية متخصّصة، وإطلاق حملات توعوية عبر وسائل الإعلام والتواصل، والعمل على تطوير المناهج التعليمية لتشمل التربية الصحية، فضلاً عن دعم البحوث والدراسات المتخصّصة في مجال الصحة الجنسية، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي للفئات الأكثر تأثراً”.
تتعدّد العوائق التي تحول دون وصول المعلومة إلى جميع الفئات، ويعترف العديد من أطياف المجتمع العراقي نفسه بتبعات حجب الثقافة الجنسية والإنجابية على السكان ووصم الساعين إلى نشرها. ولكن، و في ظلّ هذا الواقع، كيف ستتمكّن المؤسسات المعنيّة من تطبيع المجتمع مع محتوى الصحة الجنسيّة والإنجابيّة وتفادي انعكاسات محاربته؟ وأين ستقف السلطات العراقيّة من كلّ هذه الجهود؟
الصورة الرئيسية من AFP.