تخضع الرقابة في الولايات المتّحدة اليوم لنقدٍ لاذع من قبل الملايين حول العالم في ظلّ موجة القمع ضدّ المدافعين/ات عن حقوق الفلسطينيين/ات في أماكن العمل والجامعات في أميركا. ولكن، داخلياً، تُعتبَر حرّية التعبير إحدى الركائز الأساسية للنظام القانوني في البلاد. فحرّية التعبير المكرَّسة في التعديل الأوّل لدستور الولايات المتّحدة، هي حقٌّ مكفول ويتجاوز أيّ سلطة تشريعية على مستوى الولايات أو على المستوى الفيدرالي.
وفي سياقٍ متصل، لم يكن مستغرباً أن تسنّ السلطة التشريعية تعديلاً على “قانون آداب الاتّصالات” في عام 1996 لإعفاء مزوّدي خدمات الكمبيوتر التفاعلية ومستخدميها من أيّ مسؤولية لناحية المحتوى الذي يستضيفونه. بعبارة أخرى، أصبح مضيفو المحتوى عبر الإنترنت غير مسؤولين عن المحتوى المنشور عبر منصّاتهم وخدماتهم. واعتُمد هذا المعيار منذ ذلك الحين.
وُضع “قانون آداب الاتّصالات” بهدف تنظيم المحتوى الجنسي عبر الإنترنت من خلال منع إرسال مواد مسيئة أو غير لائقة عمداً إلى القاصرين وعدم السماح لهم بمشاهدة هذه المواد عبر الإنترنت بموجب القانون. إلّا أنَّ إضافة المادّة 230 الشهيرة كتعديلٍ لهذا القانون اعتُبر ضرورياً لضمان حرّية خدمات الإنترنت في اختيار أنواع المعلومات التي تستضيفها. بدون هذه الأحكام القانونية، فإنَّ المواقع الإلكترونية التي تزيل المحتوى الجنسي قد تحمل مسؤوليةً قانونية عن القيام بذلك، الأمر الذي قد يؤدّي إلى امتناع المواقع عن إزالة هذا المحتوى خشيةً من التعرُّض للعقوبات. ومن شأن ذلك أن يُقوّض الغاية الأساسية لقانون آداب الاتّصالات الذي يرمي إلى إنشاء مساحة أكثر أماناً للقاصرين على الإنترنت.
تُلقي هذه المقالة نظرة شاملة على أحكام هذه المادّة وتشرح الاستثناءات في نطاقها، وكذلك محاولات تغييرها. فما مدى أهميتها في الوقت الحالي؟ وهل يجب الاستمرار في تطبيقها كما هي أم ينبغي تعديلها؟
أحكام المادّة 230
تنصّ المادّة 230 على أحكام منفصلة لمزوّدي خدمات الكمبيوتر التفاعلية أو مستخدميها. أوّلاً، ينصّ البند 230(ج)(1) على ما يلي: “لا يجوز التعامل مع أيّ مزوّد أو مستخدم لخدمة كمبيوتر تفاعلية باعتباره الناشر أو الناطق لأيّ معلومات يقدّمها مزوّد آخر”. وانطلاقاً من مضمون هذا البند، فإنَّ صانع المحتوى هو الكيان الوحيد المسؤول عن المحتوى المعروض، وليس مزوّد الخدمة أو المستخدم.
كانت القضية الأولى التي تفسّر هذه الأحكام هي قرار الدائرة الرابعة الصادر عام 1997 في قضية زيران ضدّ “أميركا أونلاين“، حيث رفضت المحكمة الفيدرالية حجة المدّعي بأنَّ شركة “أميركا أونلاين”، وهي منصّة إعلانات نُشر فيها إعلانٌ عنه، هي موزّعٌ وليست ناشراً [البند 230 (ج)(1)]. وبحسب المبرّرات التي ارتكزت عليها المحكمة، يقع مصطلح “الموزّع” ضمن نطاق مصطلح “الناشر”، وبالتالي فهو محميّ بموجب المادة 230.
ثانياً، وفقاً للبند 230(ج)(2)، يُعفى المستخدمون ومزوّدو الخدمات من المسؤولية إذا عمدوا بحسن نية إلى تقييد الوصول إلى المواد التي تعدّ “إباحية، أو بذيئة، أو فاسقة، أو فاحشة، أو عنيفة بشكل مفرط، أو التي تنطوي على تحرّش، أو أيّ مواد أخرى غير لائقة” وإذا وفّروا “الوسائل التقنية لتقييد” الوصول إلى هذه المواد.
علاوة على ما سبق، تسمح الفقرة (ب) من البند 230(ج)(2) لمزوّدي المحتوى بمنح المستخدمين خيار قبول أو رفض تلقّي أنواع معيّنة من المحتوى. على سبيل المثال، يُسمح لمزوّدي البرامج التي تعمل على تصفية الإعلانات المتسلّلة والبرمجيات الخبيثة بتقييد الوصول إلى المواد المسيئة. وعليه، يتعامل القانون أيضاً مع شركات التكنولوجيا الكبرى، مثل “ميتا”، باعتبارها مؤهّلة للاستفادة من الحصانة بموجب البند 230(ج)(2)(باء)، شرط أن تُوفّر للمستخدمين خيار إخفاء المحتوى أو الحدّ من وصولهم إليه بطريقة أخرى.
لا ينطبق شرط “حسن النية” عند تقييد الوصول إلى المحتوى على البند 230(ج)(2)(باء)، ما قد يؤدّي إلى إساءة استخدام الأحكام القانونية في سلوكيات تسعى إلى استخدام الحظر المُناهِض للمنافسة. حصلَ ذلك في قضية “مجموعة إينيغما الأمريكية للبرمجيات” (Enigma Software Group USA, LLC) ضدّ “مالويربايتس” (Malwarebytes, Inc)، إذ لم تجد الدائرة التاسعة أيّ حصانة بموجب البند 230(ج)(2)(باء) لشركة منافسة شرعت في الإبلاغ عن بعض برامج المدّعي باعتبارها “برامج غير مرغوبة” بهدف الإضرار بأعمال المنافس.
الاستثناءات للحصانة التي توفّرها المادّة 230
على الرغم من أنَّ المادّة 230 وضعت كضمانةٍ لحرّية التعبير، إلّا أنَّ حصانتها ليست مطلقة. ترد في الفقرة (هـ) خمسة استثناءات من شأنها أن تحجب هذه الحصانة. أوّلاً، لا تنطبق الأحكام في الملاحقات الجنائية الفيدرالية، مثل حالات التوزيع المعروف للمواد البذيئة عبر الإنترنت أو تبييض الأموال. أمّا الاستثناء الثاني فيرتبط بـ “أيّ قانون يتعلّق بالملكية الفكرية”، ووعلى الرغم من أنَّ صياغة هذا الاستثناء اعتُبرت غامضة ومبهمة، إلّا أنَّ تفسير المحاكم في عدّة قضايا، مثل قضية “مجموعة إينيغما الأمريكية للبرمجيات” ضدّ “مالويربايتس”، يقتضي بأن تنطوي مطالبة المدّعي فعلياً على حقّ من حقوق الملكية الفكرية. ووفقاً للحكم الصادر عن الدائرة التاسعة في قضية “برفكت 10” (Perfect 10, Inc) ضدّ CCBill LLC، ينطبق الاستثناء حصراً على “الملكية الفكرية الفيدرالية”.
وإلى جانب ذلك، يمنح البند 230(هـ)(3) هامشاً تقديرياً للولايات في إنفاذ قوانينها بشكلٍ متّسق مع مضمون المادّة بدون توضيح ما المقصود بهذا “الاتّساق”. وهذا يعني أنَّه يجوز للولايات أن تقرّر تطبيق تشريعاتها طالما أنَّها متّسقة مع المادّة 230، لكنَّ هذا النصّ القانوني لا يحدّد معايير واضحة لتقييم الاتّساق. وبالنسبة إلى هذا التقييم، لجأت المحاكم إلى تحديد ما إذا كانَ تعريف مزوّدي الخدمة أو المستخدمين كناشرين للمحتوى الصادر عن جهات أخرى يمثّل انتهاكاً للبند 230(ج)(1).
يتعلّق الاستثناء الرابع بالدعاوى المرفوعة بموجب قانون خصوصية الاتّصالات الإلكترونية لعام 1986، وهو قانون فيدرالي بشأن التنصّت على المكالمات الهاتفية والتنصّت الإلكتروني، “أو أيّ قانون مماثل على صعيد الولايات”. يحتوي قانون خصوصية الاتّصالات الإلكترونية على أحكام متعلّقة بالجرائم الجنائية الفيدرالية والمسؤولية المدنية التي تندرج ضمن الاستثناء الأوّل والرابع من البند 230(هـ) على التوالي. بموجب قانون حماية خصوصية الاتّصالات الإلكترونية، من غير القانوني اعتراض المحادثات المغلقة عمداً، وكذلك الكشف عن المعلومات عمداً، إذا كانَ هناك “مبرّر يؤكّد أنَّ المعلومات قد استُمدّت من خلال” اعتراضٍ غير قانوني. في إحدى الحالات، قدّمت إحدى الشركات خدمات استضافة إلكترونية لأشخاص باعوا مقاطع فيديو استحصلوا عليها بشكل غير قانوني، ورفضت الدائرة السابعة الحجّة بناءً على البند 230(هـ). برأي المحكمة، لا يمكن محاسبة مزوّدي خدمة الويب جرّاء مساعدة الجاني لعدم وجود دليل دامغ يُثبِت “الإفصاح عن أي اتّصالات”.
الاستثناء الأخير في البند 230(هـ) هو نتاج قانون السماح للولايات والضحايا بمكافحة الاتجار بالجنس عبر الإنترنت لعام 2017 ويتعلّق بجرائم الاتجار بالجنس، كما ينطبق في حال إثبات انتهاك حالة واحدة فقط من الأحكام الثلاثة المنصوص عليها في البند 230(هـ)(5). أدّى الاختلاف بين عناصر هذه الأحكام، ولا سيّما النيّة الجرمية المطلوبة، إلى تقييمٍ غامض وتفسيرات متفاوتة في المحاكم. بالنسبة إلى الدائرة التاسعة، لم تُعتبر “مجرّد معرفة” منصّة “ريديت” (Reddit) بالمحتوى غير القانوني الذي ينطوي على الاتجار بالأطفال على منصّتها مبرّراً كافياً لتطبيق الاستثناء الخامس للمادّة 230.
محاولات تعديل المادّة 230 خشيةً من أن تؤدّي إلى الإفلات من العقاب
لا شكَّ في أنَّ المادّة 230 تساهم في حماية حرّية التعبير، لكنَّ بعض المخاوف قد أُثيرت لناحية تزويد المنصّات بحصانة شبه كاملة عندما يتعلّق الأمر بالمساءلة. على الرغم من أنَّ شركات التكنولوجيا الكبرى اكتسبت قوّة مؤثّرة واسعة، وبينما استفاد مستخدموها بشكل كبير من خدماتها لناحية استخدام مساحة للتواصل والتنظيم، كما حصل في حركات الربيع العربي و “أنا أيضا” #MeToo و”بلاك لايفز ماتر” #BlackLivesMatter، إنّما لا تزال هناك بعض الثغرات المهمّة التي تحتاج إلى المعالجة.
قد تنطوي الحصانة الكاملة للمنصّات على عواقب سلبية بالنسبة إلى مستخدمي الإنترنت. فإذا أُعفيت هذه المنصّات من المسؤولية، قد تميل إلى الامتناع عن ضبط المحتوى المُسيء الذي لا يندرج ضمن استثناءات المادّة 230. على سبيل المثال، تمّ تيسير أعمال الشغب في الكابيتول من خلال وسائل التواصل، بينما لا يزال خطاب الكراهية من جانب العنصريين البيض منتشراً عبر الإنترنت.
غالباً ما يكون الربح المادّي هو الدافع الأساسي لشركات التكنولوجيا الكبرى، وبالتالي، تُعدّ حقوق الإنسان عاملاً ثانوياً في قراراتها، وهذا يعني أنَّها قد “تضحّي” بالفئات الهشّة من أجل جني الأموال. إضافةً إلى ذلك، ترتكز سياسات وسائل التواصل بالإجمال على السياسة الأمريكية وتنطوي على تحيُّزات غربية كبيرة ضدّ شعوبٍ معيّنة، ولا سيّما المجتمعات الناطقة بالعربية، ما قد يؤدّي إلى الإفراط في الرقابة على المحتوى. وهذا هو حال سياسة “ميتا” المتعلّقة بـ”المنظّمات الخطرة والأفراد الخطرين” التي تُعرّض مجموعات معيّنة للخطر وتظهر تحيّزاً واضحاً ضدّ مجتمعات معيّنة في منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا، مثل المجتمع الفلسطيني. إنَّ عدم الالتزام بأيّ تشريع بشأن الإشراف على المحتوى هو أمرٌ في غاية الخطورة، ويمكن أن يؤدّي في النهاية إلى تفسيرات ضيّقة لحرّية التعبير عبر الإنترنت، كما شهدنا مؤخّراً من خلال الرقابة المفرطة التي مارستها شركة “ميتا” على كلمة “شهيد”.
بسبب هذه الهواجس، برزت عدّة محاولات لتعديل المادّة 230. في نيسان/أبريل 2023، قدَّمَ كلٌّ من السيناتور ليندسي غراهام (الجمهوري عن ولاية كارولينا الجنوبية) وريتشارد بلومنثال (الديمقراطي عن ولاية كونيتيكت) قانون “إرن ات” (EARN IT) الذي يهدف إلى إلغاء حصانة المادّة 230 للمنصّات التي تمتنع عن رصد المحتوى الذي يتضمّن انتهاكاً جنسياً للأطفال وإزالته.
إضافة إلى ذلك، أصدر دونالد ترامب خلال فترة رئاسته أمراً تنفيذياً، ألغاه بايدن لاحقاً، يحمي حصراً المنصّات التي تمارس الرقابة “بحُسن نية” بموجب الضمانات المنصوص عليها في المادّة 230، ثم طلب من “هيئة الاتّصالات الفيدرالية” أن تضع مبادئ توجيهية لتوضيح الممارسات التي تندرج في إطار مصطلح “حسن النية”. وعلى مستوى الولايات، حاولت فلوريدا وتكساس أيضاً الحدّ من نطاق المادّة 230 من خلال اعتماد قانونين، كلاهما معطَّلان حالياً، لمنع منصّات التواصل من حظر السياسيين أو وسائل الإعلام وإزالة المحتوى أو ضبطه بناءً على رأي المستخدِم.
قد تبدو التعديلات على المادّة 230 أساسية في ظلّ اكتساب المنصّات المزيد من النفوذ في مجال الإشراف على المحتوى، وبالتالي مساهمتها في تشكيل السياسات وتهديد حماية حقوق الإنسان، ولا سيّما حقوق الأشخاص الأكثر هشاشةً. ولكن، من المهم ألّا تؤدّي التغييرات المحتملة إلى تقويض حرّية التعبير من خلال الإطاحة بالغرض الرئيسي للقانون. في عالمٍ من التطوّرات المستمرّة، يجب أن تكون حقوق جميع الناس وحرّياتهم، ولا سيّما حقوق الفئات الأكثر حاجةً، هي المعيار التوجيهي عند إعادة النظر في التشريعات. من ناحية أخرى، لا يجوز ترك الأمور بالكامل للمبادرات الخاصّة، وذلك لأنَّ دوافعها بعيدة عادةً عن احتياجات مُستخدِميها. لذلك، يجب أن تمتثل المنصّات للمعايير الدولية المتعلّقة بحرّية التعبير والإشراف على المحتوى، وأن يسعى المجتمع الدولي، بالتعاون مع المجتمع المدني، باستمرار لضمان هذا الامتثال.
الصورة الرئيسية من أ ف ب.