يشهد القطاع الصحافي في الأردن تحدّيات متنوّعة تواجهها مهنة الصحافة، أبرزها القوانين والتشريعات الإعلامية وتاثيرها على الواقع الإعلامي، إذ توفر بعض الأنظمة مظلة قانونية تُتيح للسلطة السيطرة على المواقع الإلكترونية المستقلة بشكل عام وعلى الصحافيين بشكل خاص، علاوة على إقرار بعض القوانين والتعديلات التي تخالف نص الدستور الأردني.
يجد المتتبع لوضع التشريعات الإعلامية نهجاً حكومياً يثير التساؤلات، حيث عُدّل “قانون المطبوعات والنشر” عدة مرات ليُحجَب عدد من المواقع الإخبارية بعد كلّ تعديل بحجة عدم حصول المواقع الإلكترونية على ترخيص من دائرة المطبوعات والنشر. و”قانون الجرائم الإلكترونية” يُستخدَم كمسوّغ قانوني لتوقيف الصحافيين وسجنهم، وزيادة رسوم الترخيص للمواقع الإلكترونية، علاوة على فرض ترخيص على خاصية البث المباشر “لايف” عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
يحقّ للصحافيين والمواطنين أن يسألوا في هذا الإطار عن دور “نقابة الصحافيين” ممثلاً بمجلس نقابتها الجديد في مواجهة تلك التحديات والتعديلات التشريعية التي أدّت إلى انخفاض سقف الحريات وتراجع الأردن على مؤشر حرية الصحافة لعام 2021، ليحتل المرتبة 128 ضمن 180 دولة في العالم، وفقا لتقرير منظمة “مراسلون بلا حدود”.
منظومة التشريعات الصحافية
تحكم المنظومة الصحافية في الأردن مجموعة من القوانين والتشريعات المحلية، إضافة إلى مواثيق الشرف الصحافي ناهيك عن المواثيق والمعاهدات الدولية التي صادق الأردن عليها كما يرد في الموقع الإلكتروني لـ”هيئة الإعلام”، وهي الجهة الحكومية المنظمة للعمل الصحافي.
ولكنّ “هناك خللاَ تشريعياً يصل إلى حدّ الفوضى في منظومة التشريعات”، حسبما يقول عضو مجلس “نقابة الصحافيين” خالد القضاة، لـ”سمكس”، مشيراً إلى أنّ “النصوص القانونية المتعلقة بالتجريم والمخالفات تطغى على النصوص القانونية التي تضمن الحقوق التي كفلها الدستور، وبعض كلماتها قد تخالف جوهر القانون”. على سبيل المثال، في “قانون الحصول على المعلومة” الذي كان الأردن من أوائل الدول العربية التي أقرّته، “يوجد الكثير من الاستثناءات التي تعتبر قيوداً على نص القانون ومخالفة للمعايير الدولية، وتضيف الشرعية على سرية المعلومات بدلاً من الانفتاح المرجو”، يشرح القضاة.
أما بالنسبة إلى قضية “توقيف الصحافي”، يشير القضاة إلى “قانون المطبوعات والنشر” الذي ينصّ على “عدم حرمان الصحافي من أداء عمله أو التدخّل فيه، أو توقيفه بسبب عمله الصحافي”. ويبيّن أنّ “توصيف الجرم يجعل من توقيف الصحفي أمراً مستباحاً قانونياً، بالاستناد الى نصوص فضفاضة، تحديداً في قضايا التعبير عن الرأي إذ تظهر الانتقائية في اختيار المرجع القانوني الذي يجرّم الفعل”.
ولذلك، قد تندرج قضية التعبير عن الرأي تحت “قانون المطبوعات والنشر”، ويحاكم الصحافي من دون توقيف، ويُكتفى بالغرامات المالية، أو قد يُحال الملفّ إلى محكمة أمن الدولة ويُعاقَب الصحافي بالتوقيف والحبس، كما حدث مع الصحافي جمال حداد الذي أوقِف وأُحيل إلى محكمة أمن الدولة بناء على قضية تعبير عن الرأي.
هناك أنواع أخرى من الضغوطات تواجهها الصحافة الأردنية، إذ “تفرض الحكومة في بعض الأحيان على جميع المواقع الصحافية رواية رسمية واحدة لا يجد المتتبع للأحداث بديلاً عنها، وفي ظلّ غياب المعلومة تتوفر أرضاً خصبة لانتشار الشائعات التي يعاقب القانون من يروّجها دون الالتفات إلى من أخفى المعلومة وكان سببا لظهور الشائعة”، على حد تعبير القضاة.
وهذا ما حدث بالضبط في “قضية الفتنة” حيث تسابق الإعلام العربي والدولي على تغطية الحدث من خلال ما توافر من تسريبات غير رسمية، فيما اكتفت المواقع الأردنية بنقل الرواية الرسمية المقتضبة في ظل عدم توافر أية بدائل أخرى، ليتبعه بعد عدة أيام قرار لمنع النشر في القضية، الأمر الذي أعطى ميزة تفضيلية للإعلام الأجنبي في تغطية الحدث.
سعي دائم إلى “خنق” الإعلام
“ترعى السلطة التنفيذية عملاً ممنهجاً للتشدد بالقوانين لإضافة المزيد من القيود”، على حدّ تعبير القضاة، كما حدث مؤخراً مع “هيئة الإعلام” التي تعتبر أحد الأذرع الحكومية.
أثارت الهيئة جدلاً تشريعياً بعد تقديم مسودة تعديلات على القوانين المتعلقة بالإعلام تحكم عمل المواقع الإلكترونية ودور النشر والإعلان والمطبوعات الدورية وغيره (وهو قانون لم يرَ النور).
وممّا جاء في المسودة، فرض رسوم مالية قدرها 500 دينار (700 دولاراً أميركياً) عند تجديد رخصة الموقع الإخباري الإلكتروني بدلاً من 50 ديناراً (70 دولاراً) المعمول بها حالياً؛ وفرض رسم قدره 2500 دينار (3500 دولار) عند منح رخص بثّ البرامج الإذاعية والتلفزيونية عبر الإنترنت.
وكانت الحجة لاعتماد هذه المقترحات، أنّ التعديلات حصلت “بناء على عدة شكاوى قدمتها مؤسسات الإنتاج الفني وأصحاب المحطات الإذاعية ضدّ بعض المواقع الإلكترونية التي بدأت تقوم بأعمال البثّ وتقديم محتوى على منصّاتها، الأمر الذي يضر بعمل المؤسسات المرخصة بذلك”، على حدّ قول مدير “هيئة الإعلام”، طارق أبو الراغب.
أثارت تلك التعديلات المقترحة غضباً عارماً بين الصحفيين. وفي هذا الإطار، دعا “المركز الوطني لحقوق الإنسان” إلى توضيح الأسباب الموجبة للتعديلات المتعلقة بأنظمة البث والمواقع الإلكترونية ومدى الحاجة التشريعية لها. كما انطلقت سلسلة من الاحتجاجات المنددة والتي بدأت باعتصام أمام نقابة الصحفيين، مروراً بتنظيم حملة إلكترونية على وسائل التواصل الاجتماعي، وانتهاء بلقاءات بين الحكومة وممثلين عن نقابة الصحفيين، مما دفع الحكومة إلى سحب القوانين المعدلة وعدم المضي بها، مع استمرار العمل بالأنظمة المعمول بها.
يرى القضاة أنّ التنظيم المرجو ينبغي أن يكون في “إقرار أنظمة وتعليمات وحوافز تسمح للمؤسسات الإعلامية الصغيرة والمتوسطة بالنمو والاستقرار والتقدم وتساعدها على تقديم محتوى إعلامي أصيل”. ويضيف أنّ “القيود المفروضة التي ذهبت باتجاه فرض مزيد من الرسوم، جعلت من المؤسسات الإعلامية مؤسسات رأسمالية، وبهذا تُعطى الشرعية لمن يملك المال فقط لإنشاء مواقع أو مؤسسات إعلامية، مما يؤدي إلى انسحاب المواقع والصحفيين المهنيين من المشهد الإعلامي لعدم وجود القدرة المالية لتسديد الرسوم في ظل المشهد الاقتصادي الصعب في الأردن”.
وفي السياق نفسه، تقول المحامية نور الإمام، لـ”سمكس”، إنّ “قانون العقوبات وقانون الجرائم الإلكترونية المعمول به أصلاً، يقرّان العقوبات الملزمة للمواقع الإلكترونية والصحف في حال وقعت أي مخالفة أو تجاوز للقانون”. وعلى ذلك، تستنكر الإمام فرض مزيد من الأنظمة بهدف منع العاملين في القطاع من الوقوع في مخالفات مهنية وأخلاقية، وتعتبر ذلك تقييداً للحريات وأهمها حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة، الأمر الذي يعتبر مخالفة صريحة للمادة 128 من الدستور الأردني الذي يمنع أن تصدر قوانين وأنظمة تمس بالحريات والحقوق التي كفلها الدستور.
لم يكن هذا الجدل التشريعي الأول من نوعه في الساحة الإعلامية، إذ سبق لـ”هيئة الإعلام” أن حجبت 45 موقعا إلكترونياً إخبارياً العام الماضي بحجة “عدم تجديد الترخيص”، وقبل ذلك بسنوات حُجب 291 موقعاً إخبارياً محلياً، بحجة “عدم حصولها على ترخيص من دائرة المطبوعات والنشر”، تنفيذاً لقانون المطبوعات والنشر المعدل آنذاك، وذلك بعد انتهاء المهلة التي تم منحها لأصحاب المواقع الإلكترونية لتعديل أوضاعهم القانونية.
هل يصح أن تخالف أي تعديلات نص القوانين المعمول به؟
“يأتي الدستور الأردني على رأس الهرم التشريعي، ولا بدّ أن تتوافق الأنظمة المعدّلة شكلاً ومضموناً مع نصّ الدستور والقوانين التي أقرها المجلس التشريعي”، وفقاً لما يقول القضاة. ويعتبر أنّ “على السلطة التشريعية أن تعمل على الحدّ من إقرار المزيد من القوانين المقيدة أو العقوبات المغلظة على الجسم الصحفي، ومراقبة إصدار الأنظمة حتى لا تتعارض مع القوانين التي أقرّها المجلس التشريعي”.
بالإضافة إلى ذلك، ترى الإمام أنّ “بعض الأنظمة تتضمّن مخالفات دستورية وقانونية، بالإضافة لمخالفتها للاتفاقيات والمعاهدات الدولية”.وخير مثال على ذلك “الأنظمة المعدّلة الأخيرة التي يراد تمريرها، فهي تتعارض مع قانون المطبوعات والنشر، وقانون الإعلام المرئي والمسموع، إذ لا توجد نصوص من شأنها أن تخول فرض رسوم مالية، أو تطالب بتجديد الرخص الممنوحة للمواقع الإلكترونية في كل عام”.
وفيما يتعلق بالمحاولات المتكررة بشأن حظر البث المباشر “اللايف”على المواقع الإلكترونية، تعتبر الإمام ذلك “تجاوزاً للحقوق المدنية والسياسية للمواطنين”. وتضيف أنّه “لا يمكن السيطرة على عملية البث في المواقع الإلكترونية، خصوصاً أن الإنترنت حقّ مجاني وهو الوسيلة التي تمكّن الناس من ممارسة حرية التعبير والحصول على المعلومات في زماننا الحالي، وفي حال تم إقرار الرسوم على بث الإنترنت، فإن من شأن ذلك أن يضع الأردن في طليعة الدول التي تلجأ إلى هذا النوع من التقييد”.
تتمتع “هيئة الإعلام” بشخصية اعتبارية ذات استقلالية مالية وإدارية عن الدولة، بحسب ما ورد في نص قانون الإعلام المرئي والمسموع، إلا أنّ الهيئة ترتبط مالياً وإدارياً بوزارة الإعلام، وفي ذلك مخالفة لمبدأ الاستقلالية حسب ما ورد في “تقرير حالة البلاد”، الصادر عن “المجلس الاقتصادي والاجتماعي الأردني” الذي ينفي استقلالية “هيئة الإعلام”.
تتكرّر محاولات “فرض قيود غير مبرّرة على الإعلام وتحديداً المواقع الإلكترونية التي تعتبر مستقلّة عن الحكومة بخلاف الصحف الرسمية”، كما تقول الإمام. ويبدو أنّ الجولة الجديدة لن تكون بعيدة جداً.
الصورة الرئيسية قبل التعديل من “أسوشيتد برس”: مظاهرات عمّان2018.