ازدادت وتيرة توقيف الناشطين في الأردن نتيجة مواقفهم من العدوان الإسرائيلي المستمرّ على قطاع غزة. خلال عمليات التوقيف، ارتكبت السلطات الأردنية سلسلة من الانتهاكات، بدءاً بحرمان المواطنين من حريتهم/ن في الرأي والتعبير، وصولاً إلى اختراق خصوصية الموقوفين عن طريق التفتيش البدنيّ وفتح أجهزة الهاتف “لغاياتٍ أمنية”، على الرغم من ضمان قانونيّ الجرائم الالكترونية وحماية البيانات الشخصية، لحماية بيانات المواطنين وخصوصياتهم.
ولكن، هل يعدّ تفتيش الهواتف مباحاً ولا يحتاج إلى مذكرة من المدعي العام، أم يتوجّب خضوعه لنفس إجراءات تفتيش المكاتب والمنازل الذي يتطلّب إصدار مذكرة؟ أثار هذا التساؤل جدلاً واسعاً في أروقة المحاكم بين المحامين والقضاة، وفتح باباً لنقاشٍ موسّع حول مدى قانونية هذه الإجراءات وفقاً لقانون أصول المحاكمات الجزائية.
نقص الحماية القانونية للتفتيش الإلكتروني: الفجوات في قانون أصول المحاكمات الجزائية
منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، اعتقلت السلطات الأردنية ما لا يقل عن 1500 شخص، من بينهم حوالي 500 محتجز منذ مارس/آذار، بحسب تقريرٍ لـ“منظمة العفو الدولية“.
وضعت التشريعات الأردنيّة آليّة واضحة لفتيش بيانات الموقوفين بما يضمن خصوصيّتهم، ولكنّ لم تكن هذه الحال أبداً خلال التطبيق. يعتبر المحامي والناشط في مجال حقوق الإنسان، عيسى المرازيق، أنّ الانتهاكات التي حصلت بحق الموقوفين، مثل مصادرة أجهزة الهواتف الخلوية دون إذن قضائي، تتعارض مع الدستور الأردني وحقوق الأنسان، لأن هذه البيانات محمية بموجب القانون، ولا يجب أن تكون متاحة للجميع.
ويضيف المرازيق لـ”سمكس”: “في حال سُرّبت البيانات الشخصية، من قبل الجهات المعنية بالتفتيش، يستطيع الشخص المتضرّر أن يرفع دعوى جزائية أو حقوقية على خلفية سوء استخدام البيانات الخاصة به، بغض النظر عن هوية الجهة التي سرّبت هذه المعلومات”. أمّا بالنسبة لآلية الحكم بقضايا تفتيش الهواتف، “فلا ينبغي تفتيش ومراقبة الهواتف وصفحات مواقع التواصل إلّا بموجب قرار قضائي من المدعي العام، كونها تُستخدم لغاياتٍ تحقيقيّة، ولمحاولة ربط الشخص بالجرم المسند له”.
وأخيراً، يطالب المرازيق السلطات باستحداث اجتهاداتٍ قضائية تعالج مسألة تفتيش الأجهزة الالكترونية لضمان خصوصية بيانات المواطن، تماماً كما عمدت إلى معالجة جرائم جديدة لم يتناولها النص القانونيّ من قبل، مثل “هتك العرض الألكتروني”. وللمفارقة، لا يملك هذا المصطلح تعريفاً قانونياً، إذ لا فرق بين “هتك العرض الإلكتروني” و”هتك العرض” إلا في كونه يتمّ عن طريق الوسائل الإلكترونيّة، بحسب المرازيق، وذلك فقاً لقرارات محكمة الجنايات الكبرى ومحكمة التمييز. وتطبّق على “هتك العرض الإلكتروني” المادة 296 من قانون العقوبات، التي تنصّ على أنه كل من هتك بالعنف أو التهديد عرض إنسان عوقب بالأشغال الشاقة مدة لا تنقص عن أربع سنوات، بالإضافة لنص المادة 15 من قانون الجرائم الإلكترونية.
السلطات تنتهك الدستور
من دون أيّ مسوّغاتٍ قانونيّة، أوقف عمر (اسم مستعار)، وهو طالبٌ في الجامعة الأردنية ، بناءً على توجيهات الأمن الوقائي الأردني، إثر دعوته للمشاركة لتجمعات “غير مشروعة” عبر حساب ” فيسبوك” الخاص به للتضامن مع غزة، بحسب محامي الدفاع مالك طهراوي.
بعد توقيفه، جرى تفتيش هاتف عمر، وفقاً لما قاله طهراوي لـ”سمكس”، وكُتب تقريرٌ فنّي حول محتوياته، وجرى كلّ ذلك من دون إذن المدعي العام، ودون موافقة الموقوف.
يؤكّد المحامي لؤي عبيدات، عضو لجنة الحريات في نقابة المحامين، ما جاء به طهراوي، مستشهداً بقضيةٍ يعمل عليها حالياً في محكمة التمييز، متعلّقة بتفتيش الهواتف من دون مذكّرات: “طعنت في هذا الإجراء أمام المحكمة، إلا أنه لغاية الآن لم نصل إلى مرحلة تسجيل جريمة متعلّقة بتفتيش الهواتف، لكننا نحاول إثبات عدم شرعيّة هذا الإجراء أمام المحكمة”.
ويدعو عبيدات الموقوفين إلى عدم تسليم هواتفهم لأجهزة الضابطة العدلية دون مذكرة من المدعي العام، أو ببساطة تلبية الاستدعاءات من دون أخذ هواتفهم معهم.
ينصّ البند (2) من المادة 7 من الدستور الأردني على أنّ “كل اعتداء على الحقوق والحريات العامة أو حرمة الحياة الخاصة للأردنيين جريمة يعاقب عليها القانون”. فكيف لا يعتبر تفتيش الهواتف، التي تحتوي على كثيرٍ من تفاصيل الحياة الخاصة، انتهاكاً للدستور؟
يتفق المحامي المختص في القوانين والتشريعات الإعلامية خالد خليفات مع المرازيق، مؤكداً على أنّ للفرد الحقّ في تقديم شكوى في حال حدوث تجاوز في حدود التفتيش، ونشر معلومات من البيانات التي تم الاطلاع عليها لأغراض التحقيق، وأنّه لا يجوز سحب أيّ بيانات، سواء كانت خاصة أو عامة، ليس لها علاقة بالموضوع قيد البحث.
في الوقت نفسه، يشير خليفات إلى أنّ ما حصل في الشارع الأردني مع المتظاهرين بعد الحرب على غزة من تفتيش هواتف، والعبث في المعلومات والبيانات الشخصية، يجعل من عملية التفتيش برمّتها باطلة. علاوةً على ذلك، في بعض حالات غياب مذكرة التفتيش، تستطيع الضابطة العدليّة القول إنّ هناك ما دفع لارتكاب جريمة في الهاتف ويمكن تالياً إمساكه بالجرم المشهود، وتدعم هذه الحجة المادة 28 من قانون أصول المحاكم الجزائية، التي تنضّ على أنّ الجرم المشهود “هو الجرم الذي يشاهد حال ارتكابه أو عند الانتهاء من ارتكابه”.
كما ينصّ البند (2) من المادة على أن “تلحق به ايضاً الجرائم التي يقبض على مرتكبيها بناء على صراخ الناس إثر وقوعها، أو يضبط معهم أشياء أو أسلحة أو أوراق يستدلّ منها أنّهم فاعلو الجرم، وذلك خلال أربع وعشرين ساعة من وقوع الجرم”.
ويلفت خليفات إلى إمكانية ارتكاب العديد من “الجرائم” باستخدام الهاتف، منها التصوير، أو التسجيل الصوتي السري، والاحتيال، والسرقة المالية، مؤكداً أن الهاتف هنا سيعتبر أداة جريمة، وسيتم ضبطه وتفتيشه.
وتشير المادة 32 (بند 2) من قانون الجرائم الإلكترونية الأردني، أنّه ومع مراعاة الشروط والأحكام المقررة في التشريعات النافذة وحقوق المشتكى عليه، لموظفي الضابطة العدلية، بعد الحصول على إذن من المدعي العام المختص أو من المحكمة المختصة، الحق في تفتيش وفحص الأجهزة والأدوات والبرامج وأنظمة التشغيل والشبكة المعلوماتية والوسائل التي تشير الدلائل في استخدامها لارتكاب أي من تلك الجرائم.
ويلفت خليفات هنا إلى أنّ المواد 21 و22 من قانون حماية البيانات الشخصية الأردني تنصّ على معاقبة من يخالف أحكام القانون، مضيفاً أنّ المادة 22 تشمل أفراد الضابطة العدلية في حال أساؤوا استخدام البيانات.
هل تحقيق التوازن بين حماية الأمن الوطني وخصوصية الأفراد ممكن؟
يعتبر الأردن “من الدول المتقدمة إقليمياَ وعالمياً في وصول الإنترنت للأفراد”، بحسب تصريحٍ سابق لوزير الاقتصاد الرقمي والريادة أحمد الهناندة، إذ أنّ نسبة الوصول تجاوزت المتوسط العالمي للانتشار.
بحسب خبير التكنولوجيا والمعلومات، عمر عربيات، أنّ قانون حماية البيانات الشخصيّة الأردني لم يغطِّ جزئيّة الممارسات المتعلّقة بالأمن الوطني والحقوق والقضايا الجزائية. وانطلاقاً من هذا المأخذ، يشدّد عريبات على ضرورة “التطبيق الشامل لقواعد حماية البيانات الشخصية، وشمل الأفراد، والشركات، والقضاء فيها، بالإضافة إلى تطبيق جزئي في القضايا المتعلقة بالإخلال بالأمن الوطني، وإفساح المجال أمام الاستثناءات ضمن ضوابط واضحة لضمان عدم استغلالها”.
يختلف رئيس لجنة الاقتصاد النيابية، عمر النبر، مع عربيات، ويؤكّد في حديثٍ مع “سمكس” أنّ “القانون (أي قانون حماية البيانات الشخصية) وُضع ليحمي بيانات الأفراد الشخصية من الشركات الكبرى، مثل شركات تكنولوجيا المعلومات وشركات الاتصالات، وليس لحماية البيانات من الدولة”.
ويرى النبر في حديثه لسمكس” أنّ الأمن الوطني محفوظُ بعدة قوانين، “بما فيها قانون حماية البيانات، وذلك من خلال وجود ممثل عن الأجهزة الأمنية في مجلس البيانات”.
يلعب قانون حماية بيانات الأفراد الشخصية دوراً محورياً في تعزيز الأمن الوطني، إذ يضمن نظرياً عدم انتهاك الخصوصية حتى لحماية الأمن الوطني. ويوضح المحامي عيسى المرازيق هنا لـ”سمكس”، أنّ تحقيق التوازن بين تعزيز الأمن الوطني وحماية الحريات الشخصية يتطلب تبنّي سياساتٍ تضمن الحفاظ على الأمن دون المساس بالحقوق الأساسية للأفراد، إلا أنّ التحدّي يكمن في أنّ كل فرد ينظر إلى هذه القيم من زاويته الخاصة.
ومع ذلك، يدور حول قانون حماية البيانات الأردني الكثير من التساؤلات التي ترى أنّه كان متماسكاً في نسخه الأولى قبل إجراء التعديلات عليه، مثلما حصل مع مجلس حماية البيانات. تشير المادة 16 من قانون حماية البيانات (أ) إلى أن “يشكل مجلس يسمى مجلس حماية البيانات الشخصية برئاسة الوزير وعضوية كل من مفوض المعلومات نائبا للرئيس، المفوض العام لحقوق الإنسان، رئيس المركز الوطني للأمن السيبراني، ممثل عن البنك المركزي، ممثلين إثنين عن الأجهزة الأمنية يسميها مديرو تلك الأجهزة بناء على طلب الوزير، أربعة أشخاص من ذوي الخبرة والاختصاص يسميهم مجلس الوزراء على أن يكون من بينهم ممثل عن قطاع الاتصالات وممثل عن قطاع البنوك وممثل عن قطاع تكنولوجيا المعلومات.
تثير هيكليّة “مجلس حماية البيانات” شكوكاً وتساؤلات حول مدى قدرة هذا المجلس على القيام بدوره بحيادية، إذ أنّ هيكلية المجلس الحالية يتكون معظمها من السلطة التنفيذية ما قد يتسبّب بتضارب في المصالح وتقليل القدرة على محاسبة الجهات الحكومية في حال انتهاكها للبيانات خصوصاً أنّها من أكثر الجهات التي تجمع وتعالج، كما تخالف المعايير الدولية لحماية البيانات التي ترى أهمية الاستقلالية حتى يتمكن المجلس من القيام بدوره وضمان تطبيقه الممارسات الفضلى.
لم يتماشَ قانون أصول المحاكمات الجزائية في الأردن مع القوانين الحديثة المتعلقة بحماية البيانات، مثل قانون حماية البيانات الشخصية وقانون الجرائم الإلكترونية؛ وقد زاد هذا الواقع من تعقيد المشهد القانوني، الذي بات أساسياً في جميع دول العالم، ومن بينها الأردن، التي ارتفعت نسبة انتشار استخدام الإنترنت فيه من 15.6%عام 2007 إلى 90.5% لعام 2022، للتجاوز تتجاوز المتوسط العالمي البالغ 66.3%.
الصورة الرئيسية من أ ف ب.