عادت مسألة “التوقيع الإلكترونيّ” إلى الواجهة من جديد في لبنان بعد غيابٍ دام لسنوات. ففي الأشهر القليلة الماضيّة، كثُرت ورش العمل التشاوريّة التي نظمها كلّ من مكتب وزير الدولة لشؤون التنميّة الإداريّة، ووزارة العدل، ولجنة تكنولوجيا المعلومات حول هذا الموضوع، وارتفعت الأصوات المطالبة بضرورة وضعه على سكّة التنفّيذ في وقت قريب، رغم كلّ الأزمات التي تعصف بالبلاد منذ أكثر من أربع سنوات.
وكان مجلس الوزراء اللبناني قد أقرّ في 10 شباط/فبراير 2024 مرسوم الأسناد الرسميّة الإلكترونيّة والتوقيع الإلكترونيّ، سندًا للمادة 8 من قانون المعاملات الإلكترونيّة والبيانات ذات الطابع الشخصيّ رقم 81 الذي أقرّ عام 2018 لتنظيم المعاملات الإلكترونيّة.
يكاد يكون مرسوم الأسناد والتوقيع الإلكترونيّ من أوّل النصوص القانونيّة وأوّل الغيث في رحلة التحوّل الرقميّ وتطبيق الاستراتيجيّة التي أقرّتها الحكومة اللبنانيّة عام 2022، وفق عددٍ من الخبراء الذين تواصلت معهم/ن “سمكس” لمناقشة هذا الملف.
يطرح هذا الواقع تساؤلاتٍ كثيرة حول ماهيّة التوقيع الإلكترونيّ، وأهمّيته والهدف منه، وكيف سينعكس على المواطن، أين أصبح وكم يحتاج من الوقت، أين سيتمّ حفظ هذه التواقيع وهل ستكون آمنة، وهل سينجح في غايته المرجوة أم أنه سيكون لزوم ما لا يلزم.
التوقيع الإلكترونيّ
يمكن القول إنّ التوقيع الإلكترونيّ ببساطة هو الوسيلة المستحدثة لتوقيع المعاملات الرسميّة إلكترونياً بدل الاعتماد على خط اليد، مثل إخراج القيد الذي تدوّن فيه المعلومات الأسرية والسجل العدليّ الذي تدون فيه المعلومات القضائية للأفراد. يعتبر استخدام التوقيع الإلكتروني غير مكلف، إذ يُعتمد التوقيع نفسه في كلّ مرة يريد فيها المواطن إنجاز معاملة رسميّة، وتكمن أهمّيته في أنّ له دوراً كبيراً في تحويل المعاملات الرسميّة إلى الصيغة الإلكترونيّة بعيداً عن أيّ تعاطٍ مباشر مع الموظف.
وبذلك، يكون المواطن قادراً على إنجاز معاملاته دون تأخيرٍ أو استغلال، وفي وقت قياسيّ، وبأقل كلفة ممكنة. كما يرى المعنيون أنّ تطبيقه سيساهم في وضع حدٍّ لمشاهد الطوابير أمام الدوائر الرسميّة وحالات الرشوة على حدٍّ سواء، فبحسب منظمة “Trace international” الدوليّة، المعروفة في مجال مكافحة الرشوة، احتلّ لبنان المرتبة 5 إقليمياً والـ130 عالمياً بنتيجة 58 على لائحة مخاطر الرشوة، الصادرة عام 2023.
هذا ما يُعرف بنظام المعاملات عن بعد الذي تُجرى المعاملة بموجبه وتُوقّع إلكترونياً، ليكون ردّ الإدارة المعنيّة إلكترونياً أيضاً. وهو نظامٌ مطبّق في عددٍ من دول المنطقة، منها الإمارات العربيّة المتحدة.
أهميته وأبرز التحديات
يقول مقرّر لجنة تكنولوجيا المعلومات، النائب الياس حنكش، إنّ التّوقيع الإلكترونيّ “سيمكّننا من إخراج الإدارة من البيروقراطيّة التي تعدّ أحد أهمّ أسباب غياب الإنتاجيّة في لبنان”، ويضيف في حديثٍ مع “سمكس”: “لدينا أملٌ في أنّنا سنتخلّص من الرشوة والفساد داخل الإدارات العامة في حال تطبيقه”.
ولهذا السبب تحديداً، “يجب أن نخطو خطوة بالاتجاه الصحيح، ونصبّ كلّ تركيزنا من أجل وضعه قيد التطبيق في أسرع وقتٍ ممكن”، وفق النائب حنكش.
وكما بات معلوماً، هناك تحدياتٌ تشوب تنفيذ وتطبيق تقنيّة التوقيع الإلكترونيّ. يعلّق على هذه النقطة النائب وعضو لجنة تكنولوجيا المعلومات رازي الحاج في حديثٍ لـ”سمكس”، الذي يشير إلى أنّ “العقدة لا تزال قائمة في ما يخصّ اختيار مديرٍ لملفّ التحوّل الرقميّ في لبنان، وفي ظلّ غياب جهةٍ مستقلّة تقوم بهذا العمل، سنبقى نتخبّط بميزان صلاحياتٍ ومشاكل سياسيّة تظهر في إطارٍ تقنيّ”، لا سيما وأنّ هناك حواراً دائراً حول الصلاحيات، وتشكيكاً في مدى صحة إسناد ملف التحوّل الرقميّ إلى وزير قد يتبدّل في الحكومات اللاحقة.
كذلك يؤكد حنكش أنّ “هناك مقاومة شرسة ضد تطبيق أيّ إجراء أو وسيلة إصلاحيّة تخفّف من المدخول اللاشرعي للكثير من الموظفين في القطاع العام، وليس فقط الإسناد والتوقيع الإلكترونيّ.
وفي هذا السياق، تقدم النائب الحاج باقتراح قانون لإنشاء “الوكالة الوطنيّة للتحوّل الرقميّ” التي من شأنها تولّي تطبيق استراتيجيّة الدولة في مجال التحوّل الرقميّ وتحديثها، وتطويرها، وتنفّيذها، ووضع أطرها القانونيّة والإداريّة، وإدارة وتوجيه كافة السياسات والخطط والمشاريع الخاصة بالتحوّل الرقميّ.
ويفترض أنّ تتمتع هذه الوكالة بالصلاحيّة والخبرة والكفاءة التي تمكّنها من وضع أفضل المعاييّر لضمان آلية تطبيق وتنفّيذ فعالة، وكذلك استدامة التحوّل الرقميّ وتطوير الخدمات الرقميّة وحماية البيانات الشخصيّة.
ضمان حماية البيانات وسلامتها
هل ستكون تواقيع اللبنانيّين محميّة ومحفوظة بشكل آمن وصحيح؟ وما هي الإجراءات التي ستتخذها الجهات المعنيّة لضمان ذلك؟ أسئلة وإشكاليات كثيرة تُطرح في هذا الخصوص، ولا أجوبة واضحة لها حتّى الآن.
في هذا السياق، يضيف حنكش لـ”سمكس” أنّ “حماية البيانات الشخصيّة مسألة مهمّة للغاية. يجب أن يتوفر مركز بيانات وأن تحفظ التواقيع بطريقة آمنة”، مؤكّداً أنّ هذا الأمر “كان محل نقاشٍ وجدلٍ طويل مع المعنيين في هذا الملف” علماً أنّه في لبنان سُجلت مؤخراً عدّة قضايا تتعلق بتسريب بياناتٍ شخصيّة لمواطنين/ات. ولا يمكن تجاهل استراتيجيّة الأمن السيبرانيّ التي لم تنفّذ بعد على الرغم من إقرارها.
وتناول “حنكش” في حديثه مسألة جهات الاستضافة وهويّتها. برأيه، تستطيع “أوجيرو” القيام بهذه المهمة، في حين يرى الحاج أنّه في حال لم يتمّ إنشاء الوكالة المذكورة، أو أيّ جهة مستقلة أخرى، فإننا لن نحقق سوى النقاشات ليس أكثر”.
وهكذا، لا خطوات ملموسة حتّى الساعة لجعل التوقيع الإلكترونيّ آمنًا لجهة سرية المعلومات والبيانات وضمان استخدامها بشكلٍ سليم.
“ما يحدث اليوم لا يضع مسألة التواقيع في الأولويّة، إذ أنّنا نعيش في لبنان حرباً وأزمة اقتصاديّة في ظلّ غياب الإصلاحات المطلوبة، كما أنّ الحياة الدستوريّة والديمقراطيّة والقانونيّة متوقّفة، فضلاً عن القضاء المعطل بنسبةٍ كبيرة” وفقاً لحنكش، الذي لا يعتقد أنه سيتمّ تطبيق التوقيع الإلكترونيّ في وقتٍ قريب، لكن “كلجنة تكنولوجيا المعلومات علينا مسؤولية الدفع نحو التطبيق، ومزامنته مع سلسلةٍ من الإصلاحات”.
جاهزية القطاع العام
ينظر بعض الحقوقيين/ات إلى التوقيع الإلكترونيّ على أنّه خطوة جيدة في مسار التطوّر التكنولوجي، إلا أنّهم/ن يتساءلون عن مدى جاهزية الإدارات الرسميّة لهذا التحوّل، في ظلّ استعداد جزءٍ من القطاع الخاص لاعتماده ولو داخلياً.
وفي هذا السياق، يؤكد المحامي علي عباس في مقابلةٍ مع “سمكس” أنّ التّوقيع الإلكترونيّ على أهميته، إلّا أنّ مساره، كما التحوّل الرقميّ ككل، لا يزال طويلاً في لبنان، وأنّ تطبيقه يحتاج إلى العمل على أكثر من جهة”. “برأيي، ستواجه خطة التطبيق على أرض الواقع صعوباتٍ كثيرة، إذ أنّ النظام الإلكترونيّ في لبنان مهترئٌ وإمكانيّة خرقه والتلاعب بالبيانات المحفوظة فيه واردٌ جداً”.
ويؤكّد عباس أنّنا “نحتاج حالياً إلى تجهيز أرضيّة قانونيّة وبنية تحتيّة إلكترونيّة قبل اعتماد التواقيع في المعاملات الرسميّة، فهذا كله يحتاج إلى تنظيم ورشات عمل قانونيّة مكثّفة، وليس إقرار مرسومٍ تطبيقيّ بينما تبقى البيانات في الإدارات الرسميّة غير ممكننة ولا يمكن الوصول إليها إلا عبر التفتيش بين الأوراق”، بحسب عباس.
وأخيراً، يبدو واضحاً أنّ تطبيق التوقيع الإلكترونيّ في لبنان يحتاج إلى المزيد من الوقت والكثير من الجهد، خاصّة لجهة تجهيز الأرضيّة المناسبة له، وإلّا فإنه سيكون غير قابل للتنفيذ. فهل سيتمكّن اللبنانيون/ات من استخدام هذه التقنيّة ولو بعد حين، أم أنها ستبقى خارج معاملاتهم الرسميّة فيما تستمرّ السلطات باعتماد المستندات الورقيّة؟
الصورة الرئيسية من أ ف ب.