أكّد “التصنيف العالمي لحرية الصحافة” لعام 2024، الذي نشرته منظمة “مراسلون بلا حدود” في 3 أيار/مايو الموافق لليوم العالمي لحرية الصحافة، أنّ السلطات السياسية تهدّد حرية الصحافة بدلاً من حمايتها. شمل المؤشر تصنيف 180 دولة ومنطقة من حول العالم ورصد بعض القيود على الحق في الحصول على المعلومات، والتعبير عن الرأي، واستهداف الصحافيين/ات، وسنّ التشريعات المقيّدة لعمل وسائل الإعلام المستقل.
يمثل التصنيف مرجعيّة مفيدة وقاعدة بياناتٍ ترصد تحديات حرية الصحافة، وتتيح مقارنة تصنيفات الدول فيما بينها أو للدولة الواحدة على مدى السنوات، وكذلك تأثّر هذه الحريات بالأنظمة الحاكمة والظروف السياسية. لكن التفكير به يتجاوز الحديث عن صعود ترتيب دولة ما أو تراجعه، إذ لا يمكن اختزال مشهدٍ عام من في رقمٍ أو نسبة، أو أوصافٍ عمومية مثل “خطير” و”صعب” و”إشكالي” و”جيّد”.
كيف نفهم إذاً “التصنيف العالمي لحرية الصحافة” من منظور نقدي؟ وكيف يمكننا التفكير في المنهجية المتّعبة لتصنيف الدول بشكلٍ يتيح للصحافيين/ات والباحثين/ات مساءلة هذه الترتيبات ومدى تمثيلها للواقع؟
منطقة الشرق الأوسط هي الأخطر
يشير “التصنيف العالمي لحرية الصحافة” في نسخته لعام 2024 إلى تراجَع المؤشر السياسي من بين المؤشرات الخمسة التي يقوم عليها التصنيف بـ7.6 نقاط، بالتزامن مع العمليات الانتخابية والحروب والنزاعات السياسية التي تعصف بالمنطقة، وغياب المجتمع الدولي عن إنفاذ المبادئ المتعلقة بحماية الصحافيين/ات. في هذا السياق، تقول مديرة التحرير بمنظمة “مراسلون بلا حدود”، آن بوكانديه، إنّ “الدول والقوى السياسية، بغض النظر عن أطيافها وتوجهاتها، أصبحت تتلكأ عن الاضطلاع بدورها المتمثل في حماية حرية الصحافة”.
صنّف المؤشر منطقة المغرب العربي – الشرق الأوسط على أنها الأخطر لعام 2024، واصفاً الواقع بكونه “اختناق الصحافة تحت وطأة الأنظمة الاستبدادية”. احتلت موريتانيا (33) وجزر القمر (71) وقطر (84) وتونس (118) الترتيبات الأربعة الأولى (أي الأفضل) بين الدول العربية، في نتيجة مشابهة لما ورد في التقرير نفسه لعام 2023.
وتذيّلت كل من السعودية (166) والعراق (169) ومصر (170) والبحرين (173) وسورية (179) ترتيب الدول العربية. يتشابه هذا الترتيب مع تصنيف الدول المذكورة للعام الماضي، لكنه، على سبيل المثال، دلّ على تراجعٍ أكبر لحرية الصحافة في مصر الذي انخفض ستة درجات إلى الوراء. أمّا في تونس، فسُجّل تحسنٌ نسبيّ، على الرغم من الوضع الاستثنائي السياسي الذي فرضه الرئيس قيس سعيد منذ حزيران/يونيو 2021 أدى لتراجع حرية الصحافة في البلاد بعد حل البرلمان واعتقال المعارضة.
حافظت كل من ليبيا وجيبوتي على مؤشراتها، فيما تحسنت مؤشرات كل من الكويت وعُمان والمغرب والأردن عن العام الماضي بما لا يقل عن 14 درجة. يقول التصنيف إن ارتفاع المؤشر السياسي في المغرب مردُّه إلى عدم وقوع اعتقالات جديدة، لكن هذا لا يقلل من قمع الإعلاميين عبر الملاحقات القضائية. بالإضافة لذلك، يقول مراسل “منظمة مراسلون بلا حدود” في عمان، محمد شما، إنّ “احتفاء الإعلام الأردني بتقدّم الأردن 14 نقطة في مقياس الحريات الاعلامية هو أمر مضحك، لأن التقدم كلمة فيها تضليل للجمهور وما حصل فعلاً هو أن التنافس على القاع أصبح كثيرًا”. وشهد الأردن خلال العام الماضي اعتقال عشرات الصحافيين/ات ضمن الاحتجاجات المناصرة لغزة وحقوق الشعب الفلسطيني، وإقرار نسخة جديدة مغلّظة من قانون الجرائم الإلكترونية.
قد يبدو من الغريب أيضاً تراجع السودان وفلسطين بمقدار درجة واحدة فقط عن تصنيف عام 2023 رغم أن كلا الدولتين شهدتا حروباً جعلت عمل الصحفيين في غاية الخطورة مثل قيام الجيش الإسرائيلي بقتل في قطاع غزة وحده أكثر من 100 صحفي، 22 منهم على الأقل لقوا حتفهم أثناء قيامهم بعملهم. تقول المنظمة حول ذلك إن حرية الصحافة تعيش وضعاً “خطيراً للغاية” في ظل النزاع الداخلي للسودان وأصبحت فلسطين ضمن قائمة الدول العشر الأخيرة في العالم على مستوى أمن الصحفيين وسلامتهم.
انعكس قتل الصحافيين/ات الفلسطينيين/ات واستهدافهم/ن على تصنيف “إسرائيل” التي احتلت المرتبة 101 وخسرت مكانتها “كدولة رائدة في المنطقة”، بعد أن أصبح وضع حرية الصحافة فيها “صعباً” بعدما كان “اشكالياً” عام 2023، بحسب ما ورد في التصنيف. وتمتدّ القيود على حرية الصحافة من غزة إلى الضفة الغربية في السياق الفلسطيني، إذ رصدت “مراسلون بلا حدود” خلال شهر واحد من بدء العدوان في 7 تشرين الأول/أكتوبر، قيام الاحتلال الإسرائيلي باعتقال نحو 15 صحفياً فلسطينياً في الضفة الغربية، وتوقيف سبعة آخرين واستجوابهم على مدى ساعات عند نقاط التفتيش العسكرية أو الأمنية قبل إطلاق سراحهم.
تراجع تصنيف الصومال أربع درجات عن العام الماضي، فيما تراجع كل من الإمارات ولبنان ما لا يقل عن 15 درجة عن 2023. بحسب ما رصده “مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية – سكايز” (SKEYES)، الذي يُعنى بالدفاع عن حرية التعبير في لبنان، فإنّ واقع الحريات يتدهور عموماً في لبنان خاصّة بعد أن شهدت البلاد استدعاءات لصحافيين/ات وناشطين/ات، ودعاوى قضائية بحق صحافيين/ات، وغياب التحقيقات الجادة في قضايا اغتيال الصحافيين/ات، عدا عن مقتل 3 صحافيين/ات لبنانيين في قصفٍ إسرائيليّ. تناولت “سمكس” في تغطياتها قرار نقابة المحامين في بيروت حول علاقة المحامي مع وسائل الإعلام وإدانة إعلامية بجرائم القدح والذم، وهي تحركات كان من شأنها التضييق على حرية التعبير. في هذا السياق، يقول المدير التنفيذي لـ”سمكس”، محمد نجم، إنّ “لبنان شهدت العام الماضي الكثير من الهجمات ضد مجتمع الميم واللاجئين السوريين، وكذلك ضد وسائل الإعلام التي حاولت تغطية هذه القضايا بموضوعية”.
ماذا تعكس هذه الترتيبات؟
يهدف “التصنيف العالمي لحرية الصحافة” إلى المقارنة بين درجة الحرية التي يتمتع بها الصحافيون/ات ووسائل الإعلام في البلدان الـ180 التي يشملها التحليل، إذ يعتمد التصنيف تعريف حرية الصحافة على أنها “الإمكانية الفعلية للصحافيين، بشكل فردي وجماعي، لاختيار وإنتاج ونشر المعلومات التي تصب في المصلحة العامة، وذلك في استقلال عن التدخل السياسي والاقتصادي والقانوني والاجتماعي، ودون أي تهديدات ضد سلامتهم الجسدية والعقلية”. لا يحدّد التعريف فيما إذا كان يغطي الصحافيين/ات المسجّلين/ات رسمياً فحسب أم المدونين والهواة وممارسي المهنة أيضاً.
والجدير بالذكر، هو أنّه وبحسب صفحة موقع “مراسلون بلا حدود” التي نُشر فيها التقرير، يمكن إيجاد أسماء الخبراء الذين أعدّوا التصنيف، إلا أنّ غالبيّتهم، إن لم يكونوا جميعهم، لا ينتمون إلى المنطقة العربية.
يتمحور تصنيف حرية الصحافة حول خمسة مؤشرات هي السياق السياسي والإطار القانوني والسياق الاقتصادي والسياق الاجتماعي والثقافي والسياق الأمني، لكل منها أسئلة فرعية، وهو ما تعتبره المنظمة “مرآة للواقع الذي تشهده البلدان خلال السنة التقويمية السابقة لنشره”. ويقدم درجة مخصصة لكل بلد تحتسب على أساس كمي يرصد الانتهاكات المرتكبة ضد الفاعلين الإعلاميين عبر معادلة رياضية، وتحليل نوعي يقيس درجة الحرية من خلال استبيان شارك به خبراء مختصون.
تقول المحررة في مرصد “أكيد” للتحقق من مصداقية المحتوى الإعلامي، عُلا القارصلي، في حديثٍ لـ”سمكس” إنّ “فهم التصنيف العالمي لدولةٍ ما مرتبط بفهم وضعها على المؤشرات الفرعية. على سبيل المثال، تقدّم الأردن في المؤشّرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومؤشر الأمان، لكنه تراجع بمعدل درجة واحدة في المؤشر التشريعي وبمعدل 16 درجة في المؤشر السياسي.
“ينطوي التراجع في المؤشر السياسي على المزيد من الخطوط الحمراء والرقابة الخانقة على مواضيع محددة مرتبطة بالحروب، أو الفساد، أو الجرائم المالية، أو الأزمات الاقتصادية، أو وضع المرأة، أو مسألة المهاجرين، أو القضايا المتعلقة بالمجموعات العرقية والأقليات”، بحسب التصنيف.
قد تكون المؤشرات الفرعية الخمسة ممثلة لعوامل مختلفة تؤثر في عمل الصحافي/ة، لكنها يجب أن لا تُمنح الوزن نفسه في التصنيف، فالتحديات التي ينطوي عليها المؤشر السياسي أو السلامة والأمن أكثر خطورة مما يدلل عليه المؤشر الثقافي، عدا عن أنّ بعض التحديات قد تتقاطع ضمن أكثر من مؤشر، بحسب القارصلي. تراجع الأردن بمقدار درجة واحدة فقط في المؤشر القانوني أو التشريعي مثلاً بسبب إقرار قانون الجرائم الإلكترونية المقيّد للحريات، ولا يوضح التصنيف إذا كان إقرار قانون ما يعادل نقطة في المؤشر، وما الذي يجعله لا يعادل نقطتين مثلاً، في ظل سريان العمل بقوانين مقيّدة أخرى منذ عام 2012 مثل قانون المطبوعات والنشر.
استخدمت وسائل إعلامية حكومية أو شبه حكومية عدة في الدول العربية هذه الأرقام لتمجيد سقف الحريات، متجاهلة التحديات والتشريعات المقيّدة التي تلاحق الصحافيين/ات. ولذلك، إنّ اجتزاء التصنيف لدولة ما دون الحديث عن سياقه وتقييم المؤشرات الفرعية كفيل بتقديم محتوى مضلّل. تقول القارصلي إنّ التغطية الصحفية المثلى لتصنيف حرية الصحافة هي التغطية الموضوعية التي تحلل مراتب الدول ومعاني الأرقام، كما تبذل جهداً في وضع مقترحاتِ تساعد في مواجهة التحديات المذكورة. “من المفيد مثلاً مقارنة الدرجات التي حصلت عليها دولة ما في العام الماضي مع درجات هذا العام لتوضيح سياقات التقدم وسياقات التراجع، ومقارنتها مع المؤشرات العالمية، ودراسة أسباب التراجع ومحاولة البحث عن طرق تسهم في تحسين وضع الحريات الصّحفية”، بحسب قولها.
“يمكن توظيف هذه التصنيفات لخدمة أيديولوجيات سياسية بعينها”، يقول صحفي مصري فضّل عدم الكشف عن اسمه، لـ”سمكس”، مؤكداً أنّ تصدّر موريتانيا وجزر القمر تصنيف الدول العربية في مؤشر الحريات ليس دليلاً على تقدمية هذه الدول وحرية الإعلام بها، بقدر ما هو دليلٌ على غياب مشهد الصحافة بالكامل في كلٍ منها. ولذلك، فإنّ المنهجية لا تأخذ بعين الإعتبار هذا السياق. ويضيف الصحافيّ أنّ فهم حرية الصحافة في بلدٍ ما مرتبط بفهم قضايا محلية أخرى قد لا تكون صحفية في صميمها؛ يقيس التصنيف مثلاً في احدى اسئلته المندرجة تحت المؤشر السياسي “مدى الدعم الذي تحظى به وسائل الإعلام للقيام بدورها”، لكن معرفة مدى الدعم بشكل حقيقي مرتبط بدراسة تشريعات تسجيل الجمعيات وترخيص المواقع وحصولها على التمويل.
يقدم “التصنيف العالمي لحرية الصحافة” خريطة بيانية شاملة للظروف السياسية والاقتصادية والأمنية في البلدان حول العالم، يستند إليها باحثون/ات وصحافيون/ات في موادهم/ن وأطروحاتهم/ن.
يتغيّر المشهد الإعلامي والسياسي بسرعة في بلدان منطقتنا، ولهذا السبب، ينبغي على هذه التصنيفات تُحدّث بشكلٍ منتظم، وأن تأخذ السياق الإقليمي بعين الاعتبار. كما يجب على المنظمات البحثية المعنيّة بإجراء هذه التصنيفات تحرّي منهجياتٍ نوعية قادرة على تمثيل الواقع وتحدياته، بدلاً من صبّ جلّ تركيزها على المعايير كميّة والمعادلات الحسابيّة التي قد تكون بعيدة عن المشهد الميدانيّ. وأخيراً، يقع جزءٌ كبير من المسؤولية على الباحثين/ات والصحافيين/ات أنفسهم/ن، خلال تعاملهم/ن مع هذه التصنيفات والمؤشرات على أنها جزءٌ من تحليلٍ أوسع من شأنه توضيح مواطن القوة والضعف ودفع مساحات التعبير عن الرأي لمستوياتٍ متقدّمة.
الصورة الرئيسية من أ ف ب.