تسبّب القصف الإسرائيليّ المتواصل لقطاع غزّة بقطع الاتّصالات لفتراتٍ طويلة، وانقطاع تامّ للإنترنت، وتشويشٍ على خدمات تحديد الموقع الجغرافي داخل فلسطين وسائر الأراضي المحتلة، كما أثّرت على دقّة هذه التقنيّة في الدول المجاورة، وأبرزها لبنان.
تستخدم “إسرائيل” تقنيّات التشويش والانتحال للتشويش على إشارات نظام التموضع العالمي (GPS) والاتّصالات كجزءٍ من استراتيجيّتها الحربيّة. في كانون الأول/ديسمبر الماضي، أفادت وكالة الأنباء الإسرائيليّة (Ynet) أنّ أساليب التدخّل التي تتّبعها قوات الاحتلال الإسرائيلي تؤثّر أيضاً على الإشارات في الأراضي المحتلة والدول المجاورة.
وذكرت تقارير عدّة أنّ حركة الملاحة المدنيّة الدولية، البحرية والجويّة، قد تتأثّر بشكلٍ خطيرٍ بتدخّل قوّات الاحتلال الإسرائيليّ، إذ يؤثّر التلاعب بنظام التموضع العالمي على كافّة الأجهزة والتطبيقات، بدءاً من الطيران وصولاً إلى الألعاب عبر الإنترنت.
وتزعم مصادر غربيّة وإسرائيليّة بارزة أن حركة “حماس” هي المسؤولة عن هذه التدخّلات، غير أنّ تقارير عدّة تكشف عكس ذلك وتقول إنّ التشويش على نظام التموضع العالمي صادر عن قوّات الاحتلال الإسرائيليّ، ويعرّض حركة الملاحة البحريّة والجويّة المدنيّة والتجاريّة للخطر.
إليكم/ن شرحاً مبسّطاً أعدّه فريقنا حول كيفيّة عمل نظام التموضع العالمي، وأنواع التدخّل المختلفة، وكيفيّة اكتشافها.
ما هو نظام التموضع العالمي؟
يُعدّ نظام التموضع العالمي أحد الأنظمة الأكثر أهميّةً في البنية التحتيّة الحديثة، إذ تستخدمه معظم الأجهزة التكنولوجيّة المحيطة بنا، بدءاً من ماكينات الصرّاف الآلي والساعات الذكيّة وصولاً إلى الهواتف والسيارات والطائرات.
نظام التموضع العالمي هو نظام ملاحة قائم على الأقمار الصناعيّة، يساعد في تحديد الموقع الجغرافي الدقيق للأجهزة (والأشخاص الذين يستخدمونها) أينما كانت على هذا الكوكب، وهو نظامٌ مملوكٌ لحكومة الولايات المتّحدة، تشغّله القوّة الفضائيّة الأميركية. وتُعتبر هذه التكنولوجيا ضروريّة للنقل الجوّي والبحري.
كيف يعمل نظام التموضع العالمي؟
تدور عدّة أقمارٍ لنظام التموضع العالمي حول الأرض، منها 30 قمراً نشطاً حالياً. تبثّ هذه الأقمار الصناعيّة باستمرار إشاراتٍ تحمل معلوماتٍ حول موقعها الحاليّ.
تحتوي الهواتف الذكيّة وأنظمة الملاحة على أجهزة استقبال لنظام التموضع العالمي تلتقط الإشارات من أقمارٍ صناعيّة متعدّدة لهذا النظام، ويحتسب جهاز استقبال نظام التموضع العالمي المسافة إلى كلّ قمرٍ صناعيّ بناءً على الوقت الذي تستغرقه الإشارات للوصول إلى الأجهزة.
يمكن لجهاز الاستقبال تحديد الموقع ثنائي الأبعاد الخاصّ به (خطّ العرض وخطّ الطول) عن طريق احتساب المسافة من ثلاثة أقمار صناعيّة على الأقلّ، وتسمح إضافة قمرٍ صناعيٍّ رابعٍ بتحديد موقع ثلاثيّ الأبعاد بناءً على احتساب الارتفاع. هذه هي المتطلّبات الدنيا لتحديد موقع جهازٍ يستقبل نظام التموضع العالمي على الأرض بدقّة.
ويمكن تحسين دقّة النظام من خلال الاتصال بمزيدٍ من الأقمار الصناعيّة، فكلّما زاد عدد الأقمار الصناعيّة التي يمكن لجهاز الاستقبال أن يتّصل بها، تمكّن من تحديد موقعه بشكلٍ أفضل. صُمّم نظام التموضع العالمي ومجموعات الأقمار الصناعيّة بحيث تكون أربعة أقمارٍ صناعيّةٍ على الأقلّ مرئيّةً ويمكن الوصول إليها بواسطة جهاز الاستقبال من أيّ نقطة على الأرض.
تُعدّ الإشارات التي تستخدمها البنية التحتيّة لنظام التموضع العالمي ضعيفةً جداً على مستوى الأرض، ويمكن التغلّب عليها بسهولةٍ عن طريق عمليّات الإرسال غير المرغوب فيها. وقد يحدث هذا النوع من التداخل عن طريق الصدفة أو بسبب عطلٍ يؤدّي إلى تعارض الإشارة مع عمليات إرسال نظام التموضع العالمي الأخرى.
تتعاون الحكومات في كافّة أنحاء العالم في إطار الاتّحاد الدولي للاتصالات (ITU) لتجنّب هذه التدخّلات. وقد تأسسّ الاتّحاد في العام 1865 لتنظيم وسائل الاتّصال، من التلغراف إلى عالم الأقمار الصناعيّة والهواتف المحمولة والإنترنت الحديث.
ولكن، قد تكون التدخّلات مقصودةً أيضاً، وتهدف إلى الإضرار بالاتّصال أو منعه. وكثيراً ما يُلجأ إلى هذا النوع من التدخّلات في المباني الحكوميّة التي تحتوي على بياناتٍ حسّاسة متعلّقة بالدولة أو في مناطق تتمتّع بإجراءاتٍ أمنيّة مضاعفة، كما تُستخدم في الحروب وفي إطار عمليات تخريبٍ تقودها دولةٌ أخرى.
التدخّل في نظام التموضع العالمي
يُعدّ تشويش نظام التموضع العالمي وانتحاله طريقتين لتعطيل إشاراته أو خدعها. ويحصل ذلك عن طريق إرسال إشارات التردّد اللاسلكيّ نفسها التي تستخدمها الأقمار الصناعيّة لنظام التموضع العالمي، ولكن بقوّةٍ أعلى بكثيرٍ تتغلّب على إشارات نظام التموضع العالمي الأضعف، ما يؤدّي إلى حظرها أو التشويش عليها. أي بمعنى آخر، تخيّل أنّك تحاول إجراء محادثة في غرفةٍ مكتظة يتحدّث فيها الجميع بصوتٍ عالٍ، لدرجة يستحيل عليك أن تسمع الشخص الآخر. في الحرب، يمكن أن يؤدّي تشويش إشارات نظام التموضع العالمي إلى منع قوات العدو من التنقّل بدّقةٍ بواسطة أنظمة موجّهة بنظام التموضع العالمي، مثل الصواريخ أو المسيّرات أو المركبات.
إلى جانب ذلك، يُعدّ انتحال نظام التموضع العالمي تقنيّةً أكثر تعقيداً تولّد إشاراتٍ زائفةً تحاكي نظام التموضع العالمي لخداع أجهزة الاستقبال وجعلها تعتقد أنها في موقعٍ أو مسارٍ مختلف، وكأنّكم تعطون أحدهم إشارات طريقٍ زائفةٍ لتضليل مساره. في حالات القتال، يُستخدم انتحال نظام التموضع العالمي لتضليل جنود العدو أو أصوله من خلال إقناعهم بأنّهم في مكانٍ مختلف، أو دفعهم بعيداً عن المسار أو باتّجاه فخٍ محكم.”
يمكن استخدام الأسلوبين بشكلٍ استراتيجيّ للتفوّق على العدوّ من خلال التدخل في قدرته على التنقّل بفعالية أو تضليله عن موقعه أو مساره، والجدير بالذكر أن التشويش وانتحال إشارات نظام التموضع العالمي عادةً ما تعتبران غير قانونيتين.
الاستخدام المتواصل لتزييف نظام التموضع العالمي (GPS) والتشويش
يرسم موقع “جي بي إس جام” (Gpsjam)، لمنشئه جون وايزمان، خرائط لتداخلات نظام التموضع العالمي حول العالم مع تحديثاتٍ إقليمية يومية. يستخدم الموقع بيانات شبكة “ADS-B Exchange” لإنشاء خرائط تظهر تداخلات نظام التموضع العالمي بناءً على دقّة النظام الملاحي من تقارير الطائرات.
وبحسب الموقع، يبثّ عددٌ كبيرٌ من الطائرات رسائل لاسلكيّة رقميّة (ADS-B) تحتوي على معلوماتٍ حول دقّة نظام التموضع العالمي الخاصّ بها. تتألّف شبكة “ADS-B Exchange” من عشّاق/عاشقات الإشارة الذين يرسمون في الوقت الفعلي بياناتٍ سجّلت دقّة منخفضة لنظام التموضع العالمي.
في حين أن هذه التقارير لا توضح سبب انخفاض دقّة نظام التموضع العالمي، إلّا أنها تتوافق بشكلٍ كبيرٍ مع المناطق التي يحدث فيها التشويش أو الانتحال. ومع أنّ مناطق جنوب لبنان لا تُظهر باستمرار دقّة منخفضة لنظام التموضع العالمي، إلا أنّ التحليل الإضافي لبيانات الموقع يشير إلى أنّ بيروت تظهر باستمرار أعلى تركيزٍ لأخطاء نظام التموضع العالمي، ما يعرّض أنظمة الملاحة القريبة للخطر.
كيفيّة اكتشاف مصدر التدخّل
قد يشكّل اكتشاف التدخّل تحدّياً صعباً لأنّه يمكن حجب إشارات نظام التموضع العالمي بواسطة الأشياء أو الجدران داخل المباني. في حالة فقدان إشارة الاستقبال من جهازٍ يعمل عادةً بشكلٍ جيّد، من المحتمل أن يكون هناك تداخل في الإشارة، إذ تتمتّع الأقمار الصناعيّة لنظام التموضع العالمي بدرجةٍ عالية من الموثوقيّة تجعل من المستحيل أن تفقد أجهزة استقبالٍ متعدّدة إشارة الاستقبال في آن معاً.
تُجهّز البنى التحتيّة الحيوية بأنظمةٍ تعتمد على خدمات نظام التموضع العالمي لمراقبة مدى توفّر الإشارة وإطلاق الإنذار في أثناء انقطاعها، ويشير فقدان إشارة نظام التموضع العالمي من أنظمةٍ عدّة في الوقت نفسه إلى احتمال وجود تداخلٍ في الإشارة.
وفقاً لوكالة سلامة الطيران الأوروبيّة (EASA)، أدّت حوادث التشويش والانتحال إلى تهديد سلامة خدمات التموضع عبر أوروبا الشرقيّة والشرق الأوسط بشكلٍ متزايدٍ في السنوات الأخيرة. وفي أوروبا، اتُّهمت روسيا بأنّها مصدر عددٍ من هذه الحوادث، بما في ذلك التشويش على نظام التموضع العالمي الذي أبلغ عنه طيّارون بلغاريّون في منطقة البحر الأسود في العام الماضي وطائراتٌ تسلك مساراتٍ في بولندا أو منطقة البلطيق؛ بالإضافة إلى حوادث مماثلة أبلغت عنها رومانيا عندما اندلعت الحرب في أوكرانيا.
كما أُبلغ عن انتحال نظام التموضع العالمي في منطقة غرب آسيا-شمال أفريقيا، مصدره أجهزة إرسالٍ مجهولة قرابة الحدود الإيرانيّة-العراقيّة واللبنانيّة-الفلسطينية اكتشفته الإدارة البحريّة الأمريكيّة.
وأُبلغ أيضاً عن انتحال نظام التموضع العالمي في لبنان من قبل المنظمات التي تتتبّع مجاله الجويّ. إذ أبلغت مجموعة “OPSGROUP” وخدمة معلومات الطيران اللبنانيّة “OLBB FIR” عن عدّة أعطالٍ ملاحيّةٍ خطيرة على متن طائراتٍ غادرت تل أبيب وجرى توجيهها نحو لبنان.
ووفقاً للمدير التنفيذي بالإنابة لوكالة سلامة الطيران الأوروبيّة، لوك تيتغات، يجعل ازدياد هذا النوع من الهجمات السفر الجويّ أقلّ أماناً. وشدّد على ضرورة تحسين معدّات الطائرات وأنظمتها لضمان مقاومة حالات الاحتيال والتشويش.
التعطيل غير القانوني لسلامة الاتّصالات في دولةٍ أخرى
تتمتع “إسرائيل” بعضوية الأمم المتّحدة، وتالياً، عضوية الاتحاد الدولي للاتصالات. تنصّ المادّة 45 من دستور الاتّحاد أنّ على الدول الأعضاء “اتّخاذ الخطوات اللازمة لمنع إرسال أو تداول إشارات الاستغاثة أو الطوارئ أو السلامة أو تحديد الهوية الكاذبة أو الخادعة، والتعاون في تحديد المحطّات التي تبثّ هذه الإشارات الخاضعة لولايتها وموقعها.”
تنتهك “إسرائيل” المادة 45 من دستور الاتّحاد الدولي للاتّصالات من خلال التدخّل في نظام التموضع العالمي وإشارات وتردّدات الاتّصالات في لبنان والدول المجاورة. كما أصدر الاتّحاد تحذيراً للدول الأعضاء في آب/أغسطس من العام 2022 بشأن التدخّلات المتعمّدة في نظام التموضع العالمي وكافّة إشارات الاتّصال الأخرى.
بناءً على ما سبق، ينبغي على الدول المتضرّرة من الأساليب الإسرائيليّة إبلاغ الاتّحاد الدولي للاتّصالات عن هذه الحوادث، وإذا لزم الأمر، استشارة محكمة العدل الدوليّة أو مجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة لوضع حدٍّ للانتهاكات الإسرائيلية التي تعرّض السفن والطائرات وحياة المدنيين/ات للخطر.
الصورة الرئيسية من أ ف ب.