(تنويه: تم تحديث المقالة في 23/3/2022)
في أواخر العام 2021، نشرت صفحات فيسبوكية روايات تمسّ من حياة القاضي التونسي عفيف الجعيدي الشخصية، مدّعية أنّها تملك حججاً وتفاصيل تثبت “مثلية هذا القاضي”، وذلك على إثر ظهوره في برنامج إذاعي. لم يكن القاضي عفيف الجعيدي الضحية الوحيدة لحملات التشهير المنتشرة في تونس حالياً والتي تقودها غالباً صفحات مؤيّدة للحكم تعمل مثل لوبيات الضغط، وتتّهم مخالفين/ات في الرأي ومعارضين/ات للحكومة، بما يسمى “الفساد الأخلاقي”، أو تنشر روايات عن “تورّط شخص أو جهة معينة في قضايا فساد”.
“القضاة الموقعون”
بعد التوقيع على عريضة في كانون الثاني/يناير من العام الماضي لعزل القاضي طيب راشد، المتّهم بقضايا تبييض أموال من قبل عدّة قضاة، “بدأت حملة التشهير ضد بعض القضاة الموقّعين وفق خطط محكمة”، وفقاً للقاضي في محكمة التعقيب التونسية، حمادي الرحماني. يعرب الرحماني في حديث مع “سمكس” عن اعتقاده “بأنّها عملية مُحكمة لتشويه قضاة معيّنين يقف وراءها رجال أعمال ولوبي سياسي أيضاً”. ويلفت إلى أنّ “الأمر تطوّر حين عارضنا الانقلاب الذي قاده قيس سعيّد، فأصبحوا يتعقبون القضاة المعارضين للرئيس في أي موقف يعلنونه لينسجوا روايات خيالية تمس أعراض القضاة رجالاً ونساء على حد سواء”.
ازدادت حملات التشهير التي قادها مدافعون عن الرئيس قيس سعيّد بعد بيان وقعه بعض القضاة في 8 آب/أغسطس الماضي، اعترضوا فيه على قرارات سعيّد بترؤسه النيابة العمومية وسعيه للسيطرة على القضاء. بعد هذا البيان، ارتفعت وتيرة حملات التشهير لتطال “القضاة الذين لا علاقة لهم بالشأن العام، وتنسج ملفات أخلاقية لتشويه سمعتهم”، حسبما يقول القاضي الرحماني الذي يؤكّد أنّ “لتلك الحملات أهداف معيّنة، مثل التمهيد لقبول قرارات يتخذها الرئيس سعيّد لإحكام قبضته على القضاء، أو التبرير لقرار معين يخصّ القضاء”. أما الهدف الأول والأخير حسب الرحماني فهو “تشويه القضاء وهدم البيت فوق رؤوس الجميع حتى يتمكن الرئيس من كسب بعض الشرعية لتلك القرارات”.
يستنكر القاضي الرحماني ما وصفه “تخاذل” السلطة في محاسبة الصفحات والشخصيات الافتراضية التي تشوّه صورة القضاة، مؤكّداً أنّ “ناشطاً على موقع فيسبوك، مؤيد للرئيس سعيّد، سبق أن اعترف بتوفير أموال مقابل حملات التشويه ضد خصوم الرئيس”. “لماذا لم تتحرّك الرئاسة التي جمعت كل السلطات في قبضتها؟ من الواضح أنّ الرئيس سعيّد صَمت لأنه مستفيد من تلك الحملات”، يضيف الرحماني.
تشهير أم حرية تعبير؟
يعتقد كثيرون أنّ التشهير ممارسة لحرية الرأي والتعبير التي حُرم منها التونسيون طيلة أكثر من نصف قرن، فقد سبق لمنظمة “هيومن رايتس ووتش” أن انتقدت العقوبات السجنية للتشهير، ودعت في العام 2013، تونس إلى تعديل تلك العقوبات لتتماهى مع معايير حقوق الإنسان خاصة إذا تعلق الأمر بشخصيات عامة.
يعتبر شوقي قداس، رئيس “الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية”، وهي هيئة حكومية تراقب حماية المعطيات الشخصية، في تصريح لـ”سمكس”، أنّ “القانون الجزائي هو الكفيل بتتبع المتهمين بالتشهير والتشويه، في حين تسعى الهيئة لتقديم نصائح بخصوص الاستخدام الآمن والسليم لهذا الفضاء”.
وتعرّف “المجلة الجزائية” (أو قانون العقوبات التونسي) جريمة التشهير بأنّها “كلّ من افترى على شخص أو نسب إليه أمرًا غير موجود فيه أو هتك عرضه”، وتصل عقوبتها في المجلة الجزائية إلى السجن مدة عامين وغرامة مالية قيمتها 80 دولاراً، فيما خص الفصل عدد 128 من القانون ذاته تشويه سمعة موظفي الدولة بعقوبة سجنية مماثلة.
وقد ارتأت الهيئة أنّ “الاستخدام الآمن” لمنصة “فيسبوك” يتمثل في منع خاصية التعليق على منشوراتها لأنّها تعتبر أنّ “فيسبوك فضاء غير آمن”، حيث يشير قداس إلى “تحفّظ عام لدى الهيئة بخصوص قواعد فيسبوك”.
في هذا السياق، تعتبر يسر الجويني، المتخصّصة في الأمن الرقمي، أنّ “الحق في الخصوصية شرط أساسي لممارسة حرية التعبير، وبالتالي يمكن للتدخّل غير المبرّر في خصوصية الأفراد أن يحدّ بشكل مباشر وغير مباشر من حرية الرأي والتعبير ويكرّس الرقابة الذاتية”. وفيما يتعلّق بالشخصيات العامة، تشرح الجويني لـ”سمكس” أنّ “الحسم في مسألة الحقّ في الخصوصية وأسبقيّته على حرية التعبير يختلف من حالة إلى أخرى، وحسب الحقائق التي ستُكشَف أيضاً”.
ومع ذلك، تُستخدَم تهم التشهير لمعاقبة أصحاب الرأي الآخر. في ديسمبر /كانون الأول الماضي، انتقدت “هيومن رايتس ووتش” توجّه السلطات في تونس بالتحرّك ضدّ منتقدي قرارات الرئيس بتهمة التشهير، وقالت إنّ من بين القضايا التي اطلعت عليها في ذلك الشهر يوجد خمس قضايا تتعلّق “بالتشهير بالجيش والإساءة للرئيس”.
تعقيب (23/3/2022) يعتبر المدير التنفيذي لمنظمة “سمكس”، محمد نجم، أنّ “التشهير جزء من حرية التعبير عندما يتوجه لأصحاب النفوذ والسياسيين المسيطرين على حياة الناس، أمّا ما يحصل في تونس مثلاً فهو شبكات تعمل لصالح أصحاب النفوذ والسياسيين من أجل التشهير بمن ينتقدهم”. ويشرح أنّه “من المهم أن نلحظَ ونَعي الاختلاف بين ديناميات القوة في المجتمع لكي نحمي المواطنين العاديين وخطابهم وأن نحدّ من سطوة أصحاب النفوذ والسياسيين المسيطرين على الفضاء العام وتهديد الأفراد العزّل الذين يُشهَّر بهم/ن ممّا يعرّضهم/ن للإساءة المعنوية أو الجسدية، وهذه معايير واضحة في المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية”.
هل الاعتذارات كافية؟
يُستخدَم التشهير في تونس لأهداف سياسية بين مختلف الأفرقاء. في شهر كانون الثاني/يناير الماضي، هاجم الممثل التونسي عاطف بن حسين، وهو أحد أعضاء الحملة التفسيرية لبرنامج الرئيس التونسي قيس سعيّد، المذيعة صفاء الضفلاوي في تعليقٍ مسيء نشره على “فيسبوك”، والتي بدورها رفعت دعوى ضدّه بسبب “الطعن بالشرف”. تعتقد الضفلاوي في حديث مع “سمكس” أنّ سبب مهاجمته لها يعود إلى “عدم استساغته لكلامي واعتباره دفاعاً عن نور الدين البحيري، نائب حركة النهضة، خصوصاً وأنّني قلت إنّ زوجته امرأة قوية بغضّ النظر عن تفاصيل قضية زوجها”. بعد ذلك تراجعت الضفلاوي عن دعواها بعد تدخّل الأصدقاء المشتركين وبثَ قناة “تونسنا” لفيديو الاعتذار.
وفي 15 كانون الثاني/يناير، خطب نائب “حركة النهضة”، بشر الشابي، وسط مجموعة من الرافضين للانقلاب، قائلاً إنّ “تنصيب كمال الفقيه في منصب محافظ تونس العاصمة، هو قرار نتيجة علاقة جنسية بين رضا شهاب الدين المكي، صديق الرئيس سعيّد، وزوجة الوالي سنية الشربطي”، وهي إحدى المقربين من الرئيس. لا ترغب الشربطي في التعليق على ذلك الادّعاء “لأنّه تافه” حسب قولها لـ”سمكس”، مضيفة “أنّ العقلية الذكورية السياسية أزعجت نساء كثيرات من مراجع فكرية مختلفة، واستخدام هذه اللغة يعود إلى العجز عن مقارعة الفكرة بالفكرة”. قدمت الشربطي دعوى قضائية ضد نائب حركة النهضة في مجلس النواب المجمّد، في حين اعتذر الشابي في تدوينة على حسابه على “فيسبوك”، قائلاً إنّ حديثه “أُخرِج من سياقه”.
وفي مجلس النواب الذي جمده الرئيس التونسي، كان النائب فيصل التبيني هدفاً لحملة تشهير بعدما سَرّب النائب عن ائتلاف الكرامة في المجلس راشد الخياري، في حزيران/يونيو الماضي، فيديو جنسياً نَسبه إلى التبيني، كما نشر الخياري صوراً لمحادثات حميمة زعم أنّها جمعت النائب المذكور مع إحدى النساء. يقول التبيني لـ”سمكس” إنّه رفع تسع قضايا ضدّ كلّ من له علاقة بالفيديو من ضمنها قضيتين ضد الخياري، متّهماً النائبين راشد الخياري وسيف الدين مخلوف بتركيب الفيديو والمحادثات، بعد انتقاده في العام الماضي رئيس مجلس النواب ومبادرته لجمع التواقيع على عريضة سحب الثقة منه في رئاسة المجلس.
يستفيد الخصوم السياسيون من حملات التشهير التي غالباً ما تكون مادة دسمة للصفحات المتّهمة بتلقي تمويل مقابل تلك الحملات، لا سيما وأنّ عدد مستخدمي “فيسبوك” في تونس كبير جدّاً وبلغ أكثر من 7 ملايين مستخدم/ة. على سبيل المثال، في عام 2019، نشرت الصفحات الفيسبوكية الداعمة للمرشّحين في الانتخابات الرئاسية لذلك العام نحو 334 منشوراً على “فيسبوك” روّجت فيها لمرشّحين عن طريق التشهير بخصومهم، من خلال توجيه اتهامات مثل “الفساد وتشكيل المافيات والإرهاب وارتكاب جرائم القتل والاحتيال والسرقة”.
مع انتشار التشهير كوسيلة سياسية و/أو انتقامية في تونس، لا يجد الأشخاص المستهدفون لحماية أنفسهم سوى اللجوء إلى القضاء في الكثير من الحالات. ومع ذلك، يتّفق كثيرون على أنّ القضاء لا يتحرّك بسرعة إلّا في حال “ارتكاب أمر موحش ضد رئيس الجمهورية” أو “هضم جانب موظف عمومي” أو “تحقير الجيش والحط من معنوياته”.
للمزيد، شاهدوا هذه الجلسة التي عقدتها “سمكس” حول “حملات التشهير الفيسبوكية في تونس: من يقف وراءها وكيف نتصدّى لها؟”