في مناطق مثل شمال وشرق سوريا باتت مصادر الإنترنت شحيحة، وفي ظلّ الفوضى والحرب التي تعيشها المنطقة تحت أثر تهديد المنظمات المتشدّدة وصراع النفوذ على امتداد مساحات المنطقة الواسعة، بات الوصول إلى الإنترنت في ظلّ تلك الظروف العصيبة، تعتبر مشكلةً بحدّ ذاتها.
بعد وصول الاحتجاجات في عام 2011 إلى منطقة شمال وشرق سوريا، قطعت السلطات خطوط الإنترنت والهواتف الخليويّة التي تغذّي تلك المناطق الأمر الذي أثَّر على التواصل لفترةٍ زمنيَّة لم تكن بقصيرة، قبل إيجاد البديل واستجرار الاتصالات والإنترنت من الدول المجاورة مثل تركيا.
تمثَّل حلّ تغذية المنطقة بالانترنت بسحب خطوط إنترنت من المناطق الحدوديَّة من الجانب التركي مع سوريا، وهي عبارة عن نواشر إنترنت موضوعة على الجانب التركي، ومُستقبِلات على الجانب السوري، ومن ثمَّ تغذية البيوت والمؤسسات ووسائل الإعلام المحلية. يتّفق على تركيب هذه الأدوات مندوبون سوريون وآخرون أتراك من دون أي تدخُّل رسمي من قبل الجهات الحكوميَّة في الطَّرفين.
سبق ذلك استخدام أجهزة استقبال وتوجيه نقّالة (3G modems)، المودم الذي يمنح خدمة الإنترنت عبر شريحة هاتف من شركتي “فودافون” (Vodafone) و“توركسيل” (Turkcel) التركيَّتين، سوى أنَّ الطريقة تلك لم تستمرّ طويلاً على خلفيَّة تكلفتها الباهظة ورداءة جودتها. في المقابل، ترسّخت طريقة سحب الخدمة عبر أبراج بين الطرفين التركي والسوري، حيثُ بات هناك أكثر من مندوب في الجانب السوريّ يمدّدون شبكات إنترنت لاسلكيَّة للبيوت عبر الموجِّهات والنواشر الصغيرة المنتشرة في الأحياء، باحتسابٍ ماديّ على أساس الميغابايت المسحوب.
عمد بعض وسائل الإعلام المحليَّة وبعض المستخدمين المحليين إلى استخدام تقنية “تو واي” (Tooway) لاستخدام الإنترنت عبر الصحون اللاقطة والذي يوفّر سرعات أكبر من تلك المتوفِّرة للمستخدمين. ولكن حتَّى هذا النوع من مزوِّد الخدمة لم يدم طويلاً على خلفيَّة الاشتراك السنوي الباهظ، ناهيك عن صعوبة جلب القطع الخاصَّة بهذا المزوِّد بحكم الحصار المفروض على المنطقة من كلِّ الجهات الحدوديَّة.
رقابة تركية على الإنترنت التركي في شمال سوريا
استمرَّ هذا الحلّ قرابة خمسة أعوام، أي ما بين الفترات الممتدَّة من نهايات العام 2011 وحتَّى بدايات العام 2019، ولكن في خلال تلك الفترة كانت الدولة التركيَّة تمارس دوراً رقابياً متشدّداً على الإنترنت، وخصوصاً فيما يتعلّق بالجانب الكردي-السوري، أي مناطق شمال وشرق سوريا. كانت السلطات التركية تمارس الحجب على عدّة مواقع إلكترونية أخبارية عربية وحتّى محلّية، مثل وكالة أنباء “هاوار” (HAWARNEWS) المحليَّة التي تنقل أخبار شمال وشرق سوريا، وصولاً إلى حذف أغان كرديَّة عن الويب.
من جهة ثانية، كان يشتكي مستخدمو/ات وسائل التواصل من مراقبة السلطات التركية لحساباتهم والإبلاغ عنها. وقد وصل الحدّ مع الجهات الأمنيَّة التركيَّة إلى إرسال طلبات محاكمة لعدّة ناشطين كرد سوريَّين على موقع “تويتر” بتهم مختلفة، كان من أبرزها الحضّ على كراهيَّة الدولة التركيَّة عبر الشبكة العنكبوتيَّة مثلما حصل مع المصوّر الصحافي الكردي، رودي سعيد، الذي يعمل مع وكالة رويترز للأنباء ضمن مناطق شمال شرق سوريا. يؤكّد سعيد في حديث مع “سمكس” هذا الأمر، ويقول: “وصلتني رسالة من محكمة تركيَّة عبر بريدي الإلكترونيَّ تطلب رسميّاً من إدارة موقع تويتر إغلاق صفحتي التي تعرَّضت للحجب ولا يمكن حاليَّاً لأي مستخدم شبكة أنترنت تركية الوصول إليها”.
بالإضافة إلى ذلك، عُرف عن الجهات الأمنيَّة التركيَّة استهداف مستخدمي الإنترنت المستقدَم من تركيا والذي يستخدمه سكّان شمال سوريا بتطبيقات تجسّس. ففي آذار/مارس 2018، كشف مختبر “سيتيزن لاب” (CitizenLab) في “جامعة تورنتو” بكندا، وهو مختبر يركّز على كشف عمليات المراقبة عبر الإنترنت، في تقرير له عن وجود مجموعة من “الأجهزة الوسيطة” (middleboxes) ضمن شبكة “تورك تيليكوم” (Turk Telecom) تُستخدم لإعادة توجيه المستخدمين الذين يحملون برامج من الإنترنت إلى نسخ أخرى مدمجة من البرنامج تحتوي على البرنامج المطلوب وبرنامج تجسّس في الوقت نفسه. ويشرح الخبير التقني المقيم خارج سوريا، هفكر إبراهيم، لـ”سمكس”، أنّ المشكلة كمنت آنذاك في تحويل المستخدمين في تركيا وسوريا إلى نسخ خبيثة تحتوي فيروسات، حتّى عند لجوء المستخدمين إلى تحميل برامج مضادة للفيروسات من موقعها الرسمي”.
مصدر آخر للإنترنت بدءاً من العام 2019
في 11 آذار /مارس 2019، أصدرت الإدارة الذاتيَّة في شمال وشرق سوريا قراراً يمنع التعامل مع الإنترنت المستقدَم عبر شبكة الاتصالات التركيَّة، بعدما وفّرت بنفسها حلّاً غير خاضع للسيطرة التركية، لتبدأ مرحلة مختلفة لقطاع الاتّصالات الذي تتغيّر الجهة المسيطرة عليه للمرّة الثالثة.
بدأت شركة “روجافا سيل” (Rojava Cell) (أو “آر سيل” RCell)، وهي شركة رخّصت لها الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا العمل منذ عام 2018، بسحب الإنترنت عبر خطوط ضوئيّة وأبراج من مدينة السليمانية في إقليم كردستان العراق وبثّه في مناطق شمال وشرق سوريا في بدايات العام 2019. وأصبحت شركة “آر سيل” تؤمّن اليوم خدمة “دي إس إل” (DSL) عبر كابلات ضوئيَّة تصل من المصدر إلى مدينة المالكية/ديرك لتوزّع فيما بعد على القامشلي والرقة ودير الزور وغيرها من المناطق، حيث تستلم التوزيع هيئة الاتصالات التابعة للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، ومنها إلى الوكلاء والمندوبين ومن ثمَّ إلى مزوّدي البيوت والأحياء، عبر بيع المستهلكين باقات إنترنت مفتوحة بالميغات.
في حين أوصلت “آر سيل” إنترنت بسرعات أكبر ممّا كانت عليه سابقاً، يشكو المستخدمون من أنّ تغطية “آر سيل” للمناطق ضعيفة ولا تشمل الأرياف، ولكنّ الشركة تقول إنّها تسعى لتحسين انتشار خدماتها. وفي حين لا يزال مشهد الأمن الرقمي ضبابياً مع مجيء الشركة الجديدة، ينصح إبراهيم باستخدام تطبيقات “الشبكة الافتراضية الخاصة” (VPN) دائماً.
الصورة الأساسية قبل التعديل من “ويكيميديا كومونز“.