بدأ الكثير من الشبّان والشابات في سوريا يتجهون نحو العمل الحرّ (الفريلانس)، لا سيما مع جهاتٍ خارجية، سعياً إلى الحصول على رواتب بالعملات الأجنبية. وأصبح كثيرون/ات يقدّمون خدماتهم مقابل أجر زهيد مقارنةً ببقية الدول، غير أنّه قد يكون ذا قيمة جيدة للكثيرين/ات داخل سوريا نظراً لتراجع قيمة العملة.
يواجه السوريون/ات في الوقت الحالي أزمة اقتصادية حادّة جعلت معها فرص العمل المحلية محدودة جداً، وغير مجدية مادياً. ويتوقع البنك الدولي في تقريره “مرصد الاقتصاد السوري”، الصادر في آذار/مارس الفائت، انكماش الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنحو 3.2% في عام 2023، بعد تراجع بنسبة 3.5% العام الماضي، نتيجة النزاعات الداخلية وارتفاع تكاليف المدخلات وشحّ المياه الذي قد يؤدي إلى الحدّ من إنتاج المحاصيل.
غياب الأساسيات
لم يكن دخول السوريين/ات عالم العمل الحرّ بهذه السهولة، فمن جانب، يوجد ضعف عام في مفهوم هذا العمل بحسب ما ذكرت دراسة قامت بها منظمة “التنمية المحلية”، وهي منظمة غير حكومية مسجلة في تركيا وتعمل في عدة أماكن في سوريا، التي أشارت إلى أنّ نسبة جيدة من السوريين/ات لم يكونوا مدركين بأنّ ما يملكونه من مهارات يمكن أن يوفّر لهم مصدراً جيداً للدخل من خلال العمل عبر الإنترنت.
ومن جانب آخر، فإنّ توفير البنية التحتية المناسبة لهذا النوع من العمل في ظلّ انقطاع الكهرباء والإنترنت، وصعوبة الحصول على الأجهزة الخلوية والحواسيب بسبب أسعارها المرتفعة، ليس بالأمر السهل أبداً. في حديث مع “سمكس”، يشرح سامر أسود، الخبير والمستشار في حاضنة “أفكار بلس” (Afkar Plus) لدعم الأفكار الريادية وتحويلها إلى مشاريع ربحية، بأنّ الأمر في سوريا “لا يقتصر على غلاء في أسعار الموبايل أو اللابتوب، بل إنّ المشكلة الجوهرية تكمن في القدرة على توفير الكهرباء والإنترنت”.
“بات توفير الكهرباء مكلفاً للغاية، فعندما تشتري بطارية ستحتاج إلى شاحن، ومن ثمّ إلى ألواح طاقة شمسية لضمان استمرار شحن البطارية، ومن ثمّ قد تريد بطارية ليثيوم لأنّ البطارية التقليدية لا تكفي، فيصل بك الأمر إلى تكبّد مبالغ كبيرة في النهاية”، يقول أسود.
المهارات أساسية
أصبح الكثير من الشركات يفضّل التعامل مع الفريلانسر “لأنّهم يعملون من بعد، ممّا يوفّر على أصحاب العمل الكثير من التكاليف على الموظف مثل السفر والتأشيرات وغيرها”، كما يقول رامي عيسى لـ”سمكس”، وهو رائد أعمال سوري مقيم في قطر.
ولكنّ الأمر أصعب في سوريا، كما يشرح عيسى، وهو مؤسّس منصّة “انطلق للعمل عن بعد” التي تربط بين الباحثين/ات عن عمل من بعد وأصحاب العمل. “فبعض المجالات تحتاج لأجهزة بمواصفات عالية مثل مجال تطوير تطبيقات ’آي أو إس‘ (iOS) التي تتطلّب امتلاك جهاز ’آبل‘، وكذلك المونتاج الذي يتطلّب جهازاً بمواصفات عالية وسعرٍ مرتفعٍ جداً بالنسبة للسوريين/ات، ولا يتوفر لها قطع تبديل دائماً”.
بالإضافة إلى ذلك، يقول عيسى إنّ الكثير من الباحثين/ات عن عمل حرّ أو الذين يعملون فعلاً بحاجة شديدة إلى التدريب على مهارات التواصل والمراسلات وكتابة الإيميلات وحتّى العقود، “فهذا جزء أساسي من العمل من بعد ويعزّز الثقة بين صاحب العمل والعامل”.
مساحات العمل المشتركة هي الحل؟
هذه المهارات أصبحت من الخدمات الرئيسية التي تقدّمها حاضنات الأعمال والمساحات المشتركة، إلى جانب الكهرباء والإنترنت. حتّى أنّ “بعض مساحات العمل أصبحت تأخذ دور الضامن بين طرفي العمل لناحية التواصل والعقود مقابل بدل مادي بنسبة معينة”، وفقاً لأسود.
هذا ما تفعله حاضنة “أفكار بلس” التي يعمل معها أسود، بعدما تأسّست عام 2013 في حماة وأصبحت تركّز أكثر على الخدمات الرئيسية للعمل من كهرباء وإنترنت، مقابل رسم دخول يومي بسيط.
بدورها، تشرح المديرة المالية والإدارية في الحاضنة، لينا الخطيب، أنّ “المساحة المشتركة بدأت منذ نحو 5 سنوات لتستضيف العاملين/ات بدوامٍ مستقل، قبل أن تتطوّر لتقدّم خدمات أخرى مثل إدارة العقود مع الشركات وحماية الحقوق”.
تجربة مشابهة نفذتها مؤسسة تطوعية في دمشق اسمها “مؤسسة سند الشباب التنموية” (Sanad Advanced)، عن طريق إنشاء مساحتين للعمل الحرّ في كل من العاصمة دمشق وحلب.
من خلال أحد المشاريع المموّلة من “صندوق الأمم المتحدة الإنمائي” (UNDP)، والذي يحمل اسم “فريلانسر هب” (Freelancer hub)، توفّر “سند” “كلّ ما يحتاجه الفريلانسر من مكاتب وطاقة، بالإضافة إلى الإنترنت السريع، حسبما يشرح يمان السابق، المدير التنفيذي للمؤسّسة. وقدّمت المؤسسة كذلك “تدريبات على مهارات مختلفة مثل التصوير والمونتاج، والبرمجة، والتصميم، وصناعة المحتوى، وصولاً إلى المهارات الأساسية للفريلانسر، وذلك بهدف إطلاق المتدرّبين/ات في عالم العمل الحرّ”، وفقاً للسابق.
حتّى لو توفّر الإنترنت…
قد تكون فكرة الحاضنة جيدة بالنسبة للبعض، إلّا أنّها ليست الحلّ المناسب للجميع، لا سيما وأنّ انتشارها ما زال محدوداً في سوريا، في وقتِ يشكّل التنقّل بحدّ ذاته عبئاً على الأفراد، ممّا يؤدي إلى خسارة الكثيرين/ات لفرص العمل الحر أو الدراسة عبر الإنترنت.
بالإضافة إلى ذلك، لا يزال الكثير من المواقع المتخصّصة بالدورات التدريبية، مثل (Coursera) و(Udemy) منذ عام 2018، وحتّى تطبيق “زووم” (Zoom) المخصّص لحضور الجلسات، محجوبة في سوريا بسبب العقوبات، ويتطلّب استخدامها استعمال تطبيقات “الشبكة الافتراضية الخاصة” (VPN). تجعل هذه التطبيقات خدمة الإنترنت سيئة للغاية، ما يحرم المستخدم/ة متعة المتابعة وخسارة جزء من المعلومات بسبب انقطاع الاتصال بشكل مستمر، بحسب ما يوضح أسود.
ويضاف إلى ذلك أنّ بعض الدورات في هذين الموقعين الشهيرين هي دورات مدفوعة، ممّا يضيف عبئاً آخر بسبب صعوبة الدفع الإلكتروني في سوريا. ومن الحلول التي يعتمدها الراغبون في حضور مثل هذه الدورات، الاستعانة بأصدقاء في الخارج كما فعل يوسف (خريج إعلام).
يقول يوسف لـ”سمكس” إنّه لم يستطع المشاركة في الدورة قبل تسديد الرسم فلجأ إلى صديق في دبي كي يجري هذه العملية. وبعدما نجح في التسجيل، لم يستطع استخدام تطبيق “زووم” فاضطرّ إلى كسر الحجب باستخدام تطبيق “سايفون ” (Psiphon) للشبكات الافتراضية الخاصة. “استخدام الفي بي إن في سوريا معاناة بحد ذاتها لأن الإنترنت البطيء أصلاً يفقد الكثير من سرعته، وكثيراً ما اضطرّ لقطع الاتصال ثم معاودته ثانية لأتمكّن من الحضور، ويزداد الأمر صعوبةً حينما يُطلب منّي المشاركة عبر الكاميرا لأنّ الأمر شبه مستحيل”، يقول متحسّراً.
يشعر الكثير من السوريين بأنّهم خارج الزمن، بخاصة من ناحية التكنولوجيا مجاراة ما يحدث في بقية دول العالم، ولحين انتهاء أزمتهم لا يملكون حلاً سوى الالتفاف على الحجب والعقوبات بكسر البروكسي عبر التطبيقات المجانية وتحمّل سوء الإنترنت والمخاطر التي قد تنجم عن استخدام تطبيقات عشوائية.
الصورة للؤي بشارة، AFP