“أعتقد أنّ العمل في هذا المجال بات أصعب من ذي قبل، فنحن نعمل 12 ساعة في اليوم من أجل أن نتقاضى أجراً بالكاد يسدّ حاجاتنا اليومية. هذا كلّه في كفّة والخطر المحدق بنا ليلاً بسبب السّرقات التي نتعرّض لها نحن السّائقين ليلا في كفّة أخرى”.
ازدادت الأعباء على كتف عبد الله، أحد عمال التوصيل، وغيره سواء من زملائه أو العاملين في مجال النقل عبر التطبيقات أو في أيّ مهنة تتطلّب اتّصالاً مستمرّاً بالإنترنت في لبنان، لا سيما بعدما رفعت الحكومة اللبنانية الأسعار قرابة 5 أضعاف.
أصبحت تعرفة الإنترنت تقلق هؤلاء العمّال، بعدما كانوا يتوجّسون سابقاً من تداعي قطاع الاتّصالات وانهياره ممّا يؤدّي إلى فقدانهم لأعمالهم. فالآن، “زادت تعرفة الإنترنت وزادت مشاكلنا لا سيّما وأنّ ما نجنيه بالكاد يستوفي شروط الحياة اليوميّة في لبنان”، يقول أحد سائقي “بولت” لـ”سمكس”.
في الأوّل من تمّوز الماضي طبّقت وزارة الاتصالات قرار زيادة التعرفة على خدمة الاتصالات والإنترنت، لتصبح الأسعار وفق منصّة “صيرفة” التي يسعّر مصرف لبنان سعر صرف ليرتها أقلّ من سعر صرف السوق وأكثر من سعر الصرف الرسمي. حدث ذلك من دون تشكيل أيّ خطّة كاملة تتطلّب مسحاً شاملاً للوظائف في القطاع العام بكافة أسلاكه، وإعادة النظر بأسس التوظيف وتصحيح الأجور.
وفي ظلّ تدهور العملة المحلية واستمرار حاد لتقلّبات أسعار الصرف (لا يزال سعر الصرف الرسمي عند 1500 ليرة للدولار الواحد، وسعر صيرفة يساوي حالياً 29800 ليرة، في حين يساوي الدولار في السوق السوداء نحو 38000 ليرة)، ونسب تضخّم فاقت 200%، وركود اقتصادي على مدى أربعِ سنوات متتالية، فإنّ قطاع الاتصالات والإنترنت لايزال يعدّ اليوم المشغّل الأساسي لخدمات النقل العام وتوصيل الطلبات وغيرها من القطاعات والوظائف الخاصّة بذوي الدّخل المحدود.
ومع رفع التعرفة، انعدمت القدرة على التشبيك والاتصال لدى فئة كبيرة من اللبنانيين، وتقلّصت إلى أكثر من النصف لدى فئة أخرى. وذلك يعني ببساطة أنّ من كان يدفع ثمن خدمة 30 جيغا بايت، مبلغ 150 ألف ليرة بات الآن يدفع 15 دولاراً، أي أكثر من 500 ألف ليرة؛ ممّا يعني أنّ خدمة الإنترنت قد زادت أكثر من خمسة أضعاف.
تعدّ الفترة التي يتأرجح خلالها سعر الدولار نزولاً وصعوداً، فترة صعبة على السائقين الذين يرتبط عملهم ارتباطا وثيقا بكلتا شبكتيّ الإنترنت والاتّصالات. “يحدث ذلك بسبب التغيير التصاعدي لسعر صرف الدولار على المنصّة، وأحياناً إذا ما كانت الشبكة ضعيفة، يكون عملنا ضعيفاً أيضاً”، يقول عبد الهادي، وهو سائق درّاجة ناريّة يعمل مع شركة “بولت” في توصيل الطلبات.
تتّسع تداعيات انقطاع الاتصالات لتطال القطاعات المالية وفروع المصارف ومؤسّسات الدولة، وحتى الأعمال التي لا ترتبط مباشرةً بالإعلام أو العمل الإداري، مثل النقل وغيره، والتي تقوم في معظمها على الاتصالات والتطبيقات المجانية. وفي هذا الصدد، قد ينقطع عمل بعض عمال النقل وصغار التجّار بسبب انقطاع الإنترنت ما يقولون لأنّه “لن تكون هناك طلبات توصيل دون خدمة الهاتف”.
لا تراجع عن قرار رفع التعرفة
“في خضمّ هكذا قرار لا يمكن التفكير باستثناءات”، يقول وزير الاتصالات جوني القرم لـ”سمكس”، مضيفاً أنّه “إذا أردنا التفكير في استثناءات، لكان 80% من الشّعب اللّبناني يحتاج إليها”.
يستطيع لبنان ألّا يكون بعيداً عن مواكبة الثورة الرقمية الحاصلة في العالم، لكنّ الظروف القاسية التي يمر بها والتحديات الاقتصادية التي يشهدها محلياً وعالمياً تقف عائقا أمام مواكبته لمتطلّبات التطوّر الإلكتروني.
تحتاج المنصّات الإلكترونيّة المستعملة من قبل شركات توظيف السّائقين مثل “توترز” (Totres) و”بولت” (Bolt) إلى شبكة انترنت متينة لتحقيق غايتها في توصيل الطلبات والزبائن، الّا أنّ خدمات الاتصالات والإنترنت قد توقّف عملها في مطلع أيلول الجاري. حدث ذلك بسبب إضراب موظفي هيئة “أوجيرو” الذي استمرّ لنحو ثلاثة أسابيع ما أدّى إلى شلل كامل في الوظائف المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بهذا القطاع.
ومع زيادة ارتباط خدمات الإنترنت والإتصالات بقطاعات أخرى كقطاع الصحّة والتعليم والخدمات العامّة، فمن السّهل علينا توقّع حجم الضرر الذي يمكن أن ينجم عن سوء إدارة هذا القطاع.
بحسب الوزير قرم “لا رجعة عن القرار في الوقت الحاضر”، وزيادة الأسعار هدفها “تأمين استمرارية الاتصالات والإنترنت في لبنان، وليس تأمين أموال إضافية للخزينة العامة”. ويعزو وزير الاتصالات اللبناني المشكلة الرئيسيّة إلى حاجة قطاع الاتصالات لتشغيل مولّدات كهرباء لكلّ مركز على اتّساع رقعة لبنان بسبب “شحّ الوقود المخصّص لتشغيل معامل الطاقة الكهربائية الرسمية”.
ماذا عن الخيارات الأخرى؟
على عكس ما تقدّم به وزير الاتصالات، إذ يؤكّد خبير الاتصالات ومدير عام شركة “تاتش” السابق، وسيم منصور، في حديث مع “سمكس”، أنّ “الهدف من رفع أسعار الخلوي ليس مرتبطاً بالقدرة الشرائية للمستهلكين ولا باستمرارية تقديم الخدمات، بل بتحسين إيرادات الخزينة بالفعل”.
كما يشير منصور إلى أنّ “الأسعار لا تُرفع بشكل مباشر إلّا في حالات قليلة جدّاً، أبرزها التضخّم المُفرط لاقتصاد الدولة، وذلك من خلال تعديل مرسوم تعرفة تصدره السلطات المعنيّة بمعزل عمّا إذا كان القطاع مملوكاً منها أو من شركات خاصّة”.
ثمّة خيارات متعدّدة يمكن اعتمادها بخلاف رفع التعرفة وبمعزل عن أسعار السوق، يقول منصور. على سبيل المثال، يمكن للوزارة اعتماد “خدمة التجوال محلّي” (national roaming)، ونظام التشارك بالمحطّات (co-location) بين شركتي الخلوي، ممّا يخفّف كلفة التشغيل والصيانة والحاجة إلى المحروقات. “فالناشونال رومينغ يتيح لمشتركي أيّ شبكة باستخدام الشبكة الثانية عند انطفاء المحطّة الخاصّة بالشبكة الأولى”، يشرح منصور.
تستسهل الحكومات رفع الأسعار أوّلاً بدلاً من النظر في أرقام القطاع وإجراء الإصلاحات والتحسينات المطلوبة، ولكنّ القطاع يحتاج إلى أكثر من مجرّد رفع التعرفة لا سيمّا وأنّه قبل الأزمة المالية والاقتصادية وانهيار سعر الصرف، لم تستثمر الشركات والدولة في تطوير القطاع كما ينبغي بل ذهب قسم كبير من الإيرادات هدراً.
يوضح تقرير ديوان المحاسبة حول قطاع الاتصالات في لبنان، الصادر في شباط/فبراير من هذا العام، نسبةً كبيرةً من الهدر على الصيانة والتشغيل تصل إلى 6 مليارات دولار خلال 10 سنوات بين 2010 و2020. ويمكن تلخيص أبرز التوصيات التي رفعها ديوان المحاسبة بما يخصّ قطاع الاتصالات، بأنّه يجدر “اعتماد المناقصات المفتوحة والشفافة والعلنية في جميع النفقات التشغيلية والرأسمالية وعرض المشاريع بشكل مسبق على ديوان المحاسبة”، كما وينبغي “خفض النفقات المضخّمة وغير الضرورية”.