كشف أحدث تقرير قطري لجمعية الإنترنت (ISOC) عن مفارقةٍ جوهريّة في صلب منظومة الإنترنت في لبنان. فعلى الرغم من أن 90٪ من السكان يفيدون بأنّهم يستخدمون الإنترنت، وهي نسبة تفوق بكثير المعدل الآسيوي البالغ 62٪، إلا أن البُنية التحتية الأساسية تُعاني من التقادم وهشاشة التعرّض لاختراقات سيبرانية.
المصدر: التقرير القطري للبنان الصادر عن جمعية الإنترنت (ISOC)
بحسب التقرير، تبلغ سرعة الإنترنت الثابت وعريض النطاق في لبنان 9.21 ميغابت في الثانية فقط، وهي سرعة لا تُلبّي الحد الأدنى من معايير الوصول الموثوق والسريع إلى الشبكة. ونتيجةً لذلك، يلجأ معظم المستخدمين إلى الاعتماد على بيانات الهاتف المحمول، التي تُوفّر سرعة أعلى (30.83 ميغابت في الثانية)، ولكن بتكلفة مرتفعة جداً.
تُغطّي شبكة 4G (الجيل الرابع) 95٪ من الأراضي اللبنانية، في ما تقلّ نسبة مستخدمي شبكة 5G (الجيل الخامس) عن 1٪، ما يُشير إلى اعتمادٍ مُفرط على بنى قديمة بدون أي استعدادٍ فعلي للتكيّف مع الطلب المتزايد على الشبكة في المستقبل.
بالإضافة إلى ذلك، تبيّن أنّه يمكن الوصول إلى 8٪ فقط من المواقع الإلكترونية التي تتلقّى أكبر عدد زيارات في لبنان (وهي 1000 موقع إلكتروني) عبر خوادم داخل البلاد، مقارنةً بنسبة 50٪ كمعدل في العالم وآسيا. هذا يعني أنّه يجب جلب المحتوى من خوادم خارجية وإعادة تحميله في كل مرة، ما يسبب بطئاً في التصفح وزيادة في الكُلفة.
ومن الناحية الأمنية، لا تتعدّى درجة الأمن السيبراني في لبنان 30.44 من أصل 100، ما يشير إلى ضعفٍ كبير في الحماية، كما ولا تتجاوز نسبة تبنّي بروتوكول IPv6، وهو الإصدار الأحدث والأكثر أماناً من عناوين بروتوكول الإنترنت، نسبة 1٪، مقارنةً بنسبة 40٪ في آسيا.
تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الفجوات تتخذ طابعاً بنيوياً وجندرياً على حد سواء، إذ تُظهر الأرقام أنّ 8٪ فقط من النساء في لبنان يستخدمن الإنترنت، مقابل 12٪ من الرجال.
لعلّ أكثر المؤشرات وضوحاً في هذا السياق هي درجة “مرونة الإنترنت” العامة في لبنان، والتي بلغت 38% فقط (نسبة متدنّية وفقاً للمعايير العالمية)، علماً أنّها تشمل الأداء والبُنية والأمن والاستعداد السوقي لشبكة الإنترنت.
حلول مؤقتة وغياب الاستثمارات
يعكس بطء الإنترنت في لبنان غياب الإرادة الحكومية لبناء بُنيةٍ تحتية موثوقة لشبكة الإنترنت الثابتة وعريضة النطاق. في المقابل، تعتمد الدول المتقدمة رقمياً على شبكات سريعة وقوية كركيزة للمنظومة الرقمية الوطنية. والأسوأ من ذلك أنّ الحكومة غائبة عن أبرز مجالات الاستثمار، فعلى سبيل المثال، تتوفر فقط أربعة مراكز تشغيلية للبيانات في البلاد، ونقطتا تبادل للإنترنت (IXPs)، مقارنةً بالمتوسّط الآسيوي الذي يبلغ خمسة.
تشكّل نقاط تبادل الإنترنت (IXPs) عناصر أساسية في البُنية التحتية الرقميّة، إذ تتيح تبادل البيانات محلياً، ما يُخفّف من الاعتماد على المسارات الدولية المُكلفة. ويُشير التقرير أيضاً إلى ضعف تنوّع المسارات الدولية للبنان، أي عدد المسارات المباشرة التي تربط لبنان بالإنترنت العالمي. عملياً، يعني ذلك أنّ البلد يعتمد على عددٍ قليل جداً من المسارات، ويؤدي انقطاع كابل واحد أو اضطراب إقليمي إلى عزل لبنان رقمياً بشكل تام.
أُطر أمنية هشة في ظل هجمات رقمية متصاعدة
لا شكّ أنّ السياق الأمني الحالي متوتر، وتُخيّم عليه الاضطرابات الإقليمية والتهديدات السيبرانية المتزايدة. لذا، يُفترَض أن يكون لبنان من الدول الأكثر استعداداً من حيث الأمن الرقمي، إلّا أنّ الواقع يُشير إلى العكس. لا يتعدى أداء لبنان في مؤشر الأمن السيبراني العالمي 30.44 من أصل 100 درجة، أي أنّ ملايين المستخدمين في البلد هم عرضة لتهديدات كالتصيّد الإلكتروني، والبرمجيات الخبيثة، والتجسس الرقمي.
ترجمة المستند:
لبنان |
---|
النسخة الخامسة لمؤشر الأمن السيبراني: الملف القطري |
نقاط القوة النسبية |
التدابير التنظيمية |
التدابير القانونية |
مجالات التحسين |
التدابير التقنية |
تدابير بناء القدرات |
تدابير التعاون |
مستوى الأداء |
---|
المستوى الرابع: قيد التطوّر |
المستوى الخامس: قيد الإنشاء |
المستوى الثالث: قيد التأسيس |
المستوى الثاني: في طور التقدّم |
المستوى الأول: القدوة |
الالتزام بالأمن السيبراني |
أداء الدولة (من أصل ٢٠ نقطة لكل ركيزة) |
---|
التدابير القانونية – 12.08 |
التدابير التقنية – 1.39 |
التدابير التنظيمية – 10.52 |
تنمية القدرات – 5.02 |
تدابير التعاون – 3.36 |
الدول مصنفة وفقاً لموقع www.itu.int |
المصدر: مؤشر الأمن السيبراني العالمي 2024 – الاتحاد الدولي للاتصالات
مع أنّ بروتوكول امتدادات أمان نظام اسم النطاق (DNSSEC) – المعيار الخاص بحماية أسماء النطاقات من التزوير والاستيلاء – مُفعّل تقنياً في لبنان، إلا أنّ أقل من 1٪ من النطاقات التي تنتهي بالامتداد .lb تخضع فعلاً لحماية هذا المعيار.
بالتالي، لا تتجاوز حركة الإنترنت المحمية عبر DNSSEC في لبنان نسبة 24٪، وهي أقل بكثير من متوسط آسيا البالغ 35٪. ومن باب المقارنة، تبلغ النسبة في العراق 78٪، ما يعكس فرقاً شاسعاً في قدرة التصدي للهجمات الرقمية.
من بين الأمور المثيرة للقلق أيضاً أنّ نطاقات .lb غالباً ما ترتبط بمواقع حكومية تخزّن بياناتٍ حساسة لملايين المستخدمين. لذا، قد يؤدّي أي خرق لهذه النطاقات إلى انتهاكاتٍ واسعة، كما حدث عند تسريب معلومات مُعلّمي المدارس الرسمية أو فضح ثغرات البرنامج الوطني لدعم الأسر الأكثر فقراً التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية.
اليوم، يتصفّح معظم المستخدمين في لبنان الإنترنت، ولكنّهم يجهلون أنّه يمكن اختراق طلبات البحث التي يجرونها. وبدون تطبيق بروتوكول DNSSEC عملياً، يُمكن إعادة توجيه طلبات زيارة مواقع حكومية أو مصرفية إلى جهات مزوّرة أو خبيثة.
معدل تفعيل بروتوكول DNSSEC حسب الدولة. المصدر: مختبرات APNIC
يُعاني لبنان أيضاً من ضعفٍ كبير في تبنّي بروتوكول IPv6، وهو الجيل التالي من عناوين بروتوكول الإنترنت، الذي يوسّع نطاق الشبكة عبر عددٍ أكبر من العناوين، كما يحسّن الكفاءة والأمان. بنسبة تبنٍّ تقل عن 1٪، مقارنة بـ 40٪ في آسيا، يتخلّف لبنان عن مواكبة التطورات التقنية اللازمة لاحتضان تقنيات ناشئة مثل الحوسبة السحابية والبُنى الذكية.
من يدفع ثمن المنظومة الرقمية الهشّة؟
يتحمّل المستخدمون عبء غياب البُنية التحتية المرنة، إذ يدفعون أسعاراً أعلى لقاء خدمة بطيئة، ويواجهون انقطاعات متكررة، ويتعرضون لمخاطر الشبكات غير المؤمّنة، ما ينعكس سلباً على جودة حياتهم.
على الرغم من أنّ الإنترنت تُعتبَر خدمة تجارية، لا يمكن إعفاء الدولة من مسؤوليتها في إنشاء وصيانة البُنية التحتية الأساسية التي تضمن اتصالاً آمناً وسريعاً وبأسعار منطقية.
تُعدّ كُلفة الإنترنت في لبنان من الأعلى في المنطقة، أي أنّه من المفترض أن تدرّ عوائد ضخمة على خزينة الدولة، غير أنّ تقرير ديوان المحاسبة لعام 2022 أشار إلى هدر مليارات الدولارات في قطاع الاتصالات، إذ قُدّرت الخسائر بحوالى 6 مليارات دولار أميركي جرّاء الإنفاق العشوائي، وسوء الإدارة، والإفلات من المحاسبة.
على سبيل المثال، بدأت عملية طرح شبكة الجيل الثالث 3G لدى شركة “تاتش” (touch) بميزانية أولية بلغت 25.6 مليون دولار، لكنها وصلت في النهاية إلى 128 مليون دولار. وبالمثل، انطلقت شركة “ألفا” (Alfa) بمشروعها بكلفة تقديرية بلغت 41.6 مليون دولار، وانتهت بكُلفة 170 مليوناً نتيجة الفساد وسوء الإدارة.
تحدّثت الحكومة اللبنانية عن خطط طموحة للتحوّل الرقمي، وتبنّت استراتيجيات ترتكز على الذكاء الاصطناعي، وتعهدت بتفكيك الشبكات غير الشرعية للإنترنت، وخاضت أيضاً نقاشات مع شركة “ستارلينك” (Starlink). مع ذلك، يبقى السؤال الجوهري: كيف يُمكن لبلدٍ أن يُحقّق هذه الأهداف الواعدة من دون بُنية تحتية رقمية آمنة من الأساس؟
لكي يزدهر التحوّل الرقمي في لبنان فعلاً، لا بدّ من التعامل مع الإنترنت كحق، لا كترفٍ وحكرٍ على الفئات الميسورة. ويجب اعتبار الاتصال بالإنترنت مصلحة عامة متاحة للجميع، آمنة، وعادلة. وفي حين يُسجّل التقرير أنّ درجة الاستعداد للتحول إلى حكومة الإلكترونية تبلغ 59.38، وهي درجة متوسطة قابلة للتحسّن، يبقى واضحاً أنه لا يُمكن رسم أيّ مسارٍ مستقبلي فعّال من دون إصلاحات حوكمة جذرية واستثمارات فعلية في البُنية التحتية الحيوية.
الصورة الرئيسية بعدسة جو قصيص من موقع Pexels