المنهجية
توصّلنا إلى جميع النتائج والتحليلات في هذا المقال بعد إجراء مراجعة للمعلومات المتاحة علناً، بما في ذلك المقالات المنشورة على الإنترنت، والأوراق البحثية، وإعلانات الاستثمارات، والتقارير الإخبارية.
استفدنا من وسائل إعلام ومنصات بحثية معترف بها دولياً مثل “رويترز” (Reuters) و”بلومبيرغ” (Blomberg) و”فايننشال تايمز” (Financial Times) و”تيليكوم ريفيو” (Telecom Review) للحصول على معلومات دقيقة وحديثة حول الشراكات العالمية والإحصاءات المتعلقة بالاستثمارات. ولغرض وضع هذه النتائج في سياقها الإقليمي والتحقق من دقتها، نظرنا أيضاً في مصادر محلية وخليجية مثل “أرابيان جلف بيزنس إنسايت” (Arabian Gulf Business Insight) وموقع “زاوية” الإخباري و”ميدل إيست إيه آي نيوز” (Middle East AI News) و”جلف بيزنس” (Gulf Business).
قارنّا حيثما أمكن الإحصاءات وإعلانات الاستثمارات عبر عدّة مصادر لضمان اتساقها. ولكن، بسبب محدودية البيانات الرسمية الصادرة عن الحكومات أو الإفصاحات المالية المفصلة، اضطررنا في بعض الحالات إلى تقدير مبالغ الاستثمارات أو تفاصيل المشاريع أو استندنا إلى تقارير صادرة عن وسائل إعلام موثوقة. ولم نُجرِ أي مقابلات مباشرة، كما لم نعتمد على أيّ مستندات داخلية أو سرية في إطار هذا البحث.
المقال
أصبحت دول “مجلس التعاون الخليجي”، ولا سيما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر وسلطنة عُمان، مراكز متنامية للاستثمار في مجال الذكاء الاصطناعي. وقد أعلنت هذه الدول عن طموحاتها على هذا الصعيد في رؤى استراتيجية مثل “رؤية السعودية 2030” و”استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي 2031“. وبناءً عليها، تضخّ الحكومات وجهات القطاع الخاص في المنطقة مليارات الدولارات في هذا المجال، سعياً منها لتأكيد مكانتها الريادية في الابتكار التكنولوجي وتنويع الاقتصاد. تقدّم هذه التطورات فرصاً اقتصادية كبيرة، إلّا أنها تثير تساؤلات جوهرية حول الحقوق الرقمية والمراقبة.
في السعودية، أطلق ولي العهد محمد بن سلمان “رؤية 2030” في العام 2016، وهي خطة التنمية الوطنية في المملكة العربية السعودية والتي تهدف إلى تقليل اعتماد المملكة على النفط وتنويع اقتصادها. وتضع هذه الخطة إطاراً واسعاً للإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الرامية إلى تحديث البلاد وتوفير مصادر دخل جديدة خارج قطاع النفط.
ومن جهة ثانية، تُمثل “استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي 2031” الخطة طويلة الأمد التي وضعتها دولة الإمارات العربية المتحدة لتصبح رائدة عالمياً في مجال الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2031. أُطلقت هذه الاستراتيجية في العام 2017، وكانت من أولى استراتيجيات الذكاء الاصطناعي الوطنية في العالم، علماً أنّها جزء من خطة الإمارات الأشمل لتنويع الاقتصاد والتحوّل الرقمي.
تتّسم الاستثمارات في الذكاء الاصطناعي في منطقة الخليج العربي بأنّها متعدّدة الأوجه، إذ تعكس طموحات السياسات التنموية التي تضعها الدولة، وتجسّد أيضاً الانخراط المتزايد للقطاع الخاص في هذا المجال. ولا تقتصر هذه الاستثمارات على قطاع واحد، بل تشمل مجموعة واسعة من القطاعات الأساسية التي تضمن استدامة اقتصادات دول الخليج في المستقبل. ومن أبرز هذه القطاعات الطاقة، والرعاية الصحية، والمالية، والمدن الذكية، والصناعات الدفاعية، وهي قطاعات يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعزّز فيها الكفاءة ويقلل التكاليف، أو حتّى أن يضعها في طليعة الريادة التكنولوجية العالمية، كما تأمل الحكومات المعنيّة.
وليس من المستغرب أن تملك الهيئات الحكومية نسبة كبيرة من هذه الاستثمارات أو أن تدعمها. على سبيل المثال، يؤدّي “صندوق الاستثمارات العامة” في السعودية، الذي تأسس عام 1971 كصندوق للثروة السيادية وأصبح من الأكبر عالمياً، دوراً محورياً في تمويل مشاريع الذكاء الاصطناعي ودفع أجندة “رؤية 2030” إلى الأمام. أمّا في دولة الإمارات العربية المتحدة، تُعد “شركة مبادلة للاستثمار“، وهي صندوق للاستثمار السيادي مقره أبو ظبي وتفوق قيمة أصوله 280 مليار دولار، جهةً فاعلةً رئيسية في توجيه الاستثمارات في هذا المجال. وإلى جانب شركة مبادلة، برزت شركة “جي فور تو” (G42)، وهي شركة ذكاء اصطناعي وحوسبة سحابية تأسّست عام 2018 في أبوظبي، كلاعب رئيسي في مشهد الذكاء الاصطناعي في المنطقة، من خلال مشاريع تتعلق بالرعاية الصحية والمراقبة والبُنى التحتية للبيانات. وتعمل هذه الهيئات على ضمان انسجام تقنيات الذكاء الاصطناعي مع الأهداف الاستراتيجية الوطنية، مثل تنويع الاقتصاد وتحقيق الاكتفاء التكنولوجي.
لا يقتصر انتشار هذه المبادرات على المستوى المحلي، وجزء كبير من الاستراتيجيات الاستثمارية تقوم على بناء شراكات عالمية من خلال مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي، ومراكز الأبحاث، ومكوّنات المدن الذكية، على الرغم من أنّ كثيراً من مشاريع الذكاء الاصطناعي تهدف إلى ترسيخ الوجود المادي والبنيوي القوي داخل منطقة الخليج. وتنطوي هذه الشراكات على التعاون مع عمالقة التكنولوجيا في الغرب، مثل “آي بي إم” (IBM) و”داتا بريكس” (Databricks) و”سيريبراس” (Cerebras)، وعلى تمويل مشاريع وشركات ناشئة في الخارج. ومن الأمثلة على ذلك استثمار قطر في شركة “بيلدر إيه آي” (Buidler.ai)، وهي منصة تطوير برمجيات مقرّها لندن. ويخدم هذا النهج المزدوج القائم على الاستثمار في القدرات المحلية والشراكات الدولية عدة أهداف، ومنها تمكين دول الخليج من التأثير في شركات التكنولوجيا الكبرى، وتوسيع نفوذها الجيوسياسي الناعم، واستيراد الخبرات التقنية الضرورية إلى أراضيها. وفي الوقت نفسه، يعكس هذا النهج خطراً كبيراً، وهو أن تستخدم الحكومات تقنيات الذكاء الاصطناعي لتعزيز ممارساتها السلطوية في إطار انتقالها من اقتصاد يعتمد على النفط إلى حوكمة مدفوعة بالبيانات. يُنظَر إلى هذا التحوّل غالباً على أنّه تقدّم مُحقّق، ولكنّ تركّز التقنيات المتقدّمة في أيدي أنظمة سياسية معروفة بشفافيتها المحدودة، وضعف المحاسبة، وسجلّها الطويل في قمع المعارضة، يُشكّل خطراً لا يمكن تجاهله. وقد سبق أن استخدمت هذه الحكومات تقنيات مراقبة مستوردة لرصد المعارضين السياسيين والصحافيين، بل وحتى أفراداً من العائلة الحاكمة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك استخدام برنامج التجسس “بيغاسوس” (Pegasus) الذي طورته مجموعة “إن إس أو” (NSO Group) الإسرائيلية، والذي استُخدم من قِبل عدد من دول الخليج لاختراق هواتف الأشخاص ومراقبتهم بدون علمهم. وفي إحدى القضايا التي أثارت ضجة واسعة، قيل إنّ أحد أفراد العائلة الحاكمة في الإمارات استخدم “بيغاسوس” (Pegasus) للتجسس على زوجته السابقة وفريقها القانوني خلال نزاع على حضانة الأطفال في المملكة المتحدة. واللافت أنّ هذه الأنظمة، المعروفة أصلاً بإساءة استخدام سلطات المراقبة، باتت اليوم تصل إلى أدوات ذكاء اصطناعي متقدّمة، مثل تقنيات التعرّف على الوجه، وتحليلات السلوك، والنمذجة التنبؤية.
يقود عدد من الشخصيات والجهات البارزة عملية توسيع نطاق الذكاء الاصطناعي في الخليج. على سبيل المثال، وزير الدولة للذكاء الاصطناعي في الإمارات، عمر بن سلطان العلماء، يتصدّر الاستراتيجيات الوطنية، بينما تتولى “الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي” (سدايا) جهود دمج الذكاء الاصطناعي في الخدمات الحكومية. وتقوم شركات إقليمية، أهمها “جي فور تو” (G42) في الإمارات، بدور محوري في توجيه أجندات الذكاء الاصطناعي بالشراكة مع شركات تكنولوجية عالمية مثل “آي بي إم” (IBM) و”مايكروسوفت” (Microsoft).
لا شكّ في أنّ السردية الاقتصادية الحالية واعدة، لكنّ السجلّ الحافل لدول الخليج في مجال المراقبة وانتهاك الحقوق الرقمية يُلقي بظلاله على تطورات الذكاء الاصطناعي. وقد أثار منتدى حوكمة الإنترنت (IGF) الذي عُقد في الرياض، جدلاً واسعاً بسبب المخاوف المرتبطة بالمراقبة الشاملة والقمع الرقمي. دعا المنتدى إلى الاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي من خلال “إعلان الرياض للذكاء الاصطناعي“، إلا أنه تعرّض لانتقادات بسبب التناقض بين التصريحات العلنية وتاريخ المملكة الموثّق في مجال حقوق الإنسان، والذي يشمل إساءة استخدام تقنيات مثل “بيغاسوس” ضد الناشطين.
بالتالي، لا بدّ أن تودّي كثرة الاستثمارات في الذكاء الاصطناعي إلى مفاقمة المخاوف المتعلقة بالمراقبة وسوء استخدام البيانات. فمن خلال دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في منظومات المراقبة، مثل تقنيات التعرّف على الوجه، والتحليلات التنبؤية، وأنظمة الهوية الرقمية، تتزايد مخاطر انتهاكات حقوق الإنسان، وبخاصة انتهاك الخصوصية والمراقبة التمييزية ضد الفئات المهمّشة أو مجتمعات الناشطين.
تفتقر دول الخليج حالياً إلى أطر تنظيمية متينة تضمن الشفافية والمساءلة في ما يتعلق بأنظمة الذكاء الاصطناعي. وفي غياب التشريعات الشاملة، قد يؤدّي التوسع في استخدام هذه التقنيات إلى تفاقم أنماط المراقبة الحكومية القائمة، ممّا يهدد الخصوصية الفردية، وحرية التعبير، وسائر الحقوق الإنسانية الأساسية.
بناءً على ما سبق، يمكن الاستنتاج أنّ التوجّه الطموح لدول الخليج نحو الذكاء الاصطناعي يشكّل سيفاً ذا حدّين. فمن جهة، يقدّم هذا الطموح إمكانات اقتصادية هائلة، ومن جهة أخرى، يؤدّي إلى تحديات كبيرة أخلاقية وحقوقية رقمية كبيرة. وللتوفيق بين التقدم التكنولوجي وحماية حقوق الإنسان، تحتاج الدول المعنيّة إلى حوكمة شفافة، وتنظيم صارم، ومشاركة فعالة للمجتمع المدني والجهات الدولية صاحبة المصلحة. وبدون هذه الضمانات، قد يعاني مستقبل الذكاء الاصطناعي الواعد في المنطقة من تحديات الرقابة المتزايدة وإساءة استخدام البيانات.
القسم الأوّل: أهمّ الاستثمارات في الذكاء الاصطناعي
لا تكمن مشكلة الذكاء الاصطناعي في طبيعته كابتكار تكنولوجي أو استراتيجية استثمارية، بل في معضلة “الملكية”. فالمخاطر المرتبطة بالذكاء الاصطناعي لا تنبع فقط من قدراته، بل من السياق الذي يُطبَّق فيه، والهياكل التي تتحكم في تطويره واستخدامه. وفي الدول حيث مؤسسات المجتمع المدني ضعيفة، والتعبير السياسي مُجرَّم، والشفافية غائبة، قد يساهم تركز بُنى الذكاء الاصطناعي في أيدي الكيانات الحكومية أو شبه الحكومية في القمع الممنهج وواسع النطاق.
من هنا، تبرز أهمية التحقيق في الجهات الفاعلة والمستفيدين الأساسيين من موجة الاستثمارات في الذكاء الاصطناعي. وقبل الغوص في تحليل أعمق للعلاقة بين التكنولوجيا وحقوق الإنسان في المنطقة، من الضروري وصف المشهد الحالي للاستثمارات في دول “مجلس التعاون الخليجي”.
تتصدّر المملكة العربية السعودية حالياً الاستثمار في مجال الذكاء الاصطناعي مقارنةً بسائر دول الخليج، وتقود موجةً كبيرة من المشاريع التكنولوجية في المنطقة. ففي مؤتمر “ليب” LEAP 2025، وهو مؤتمر تكنولوجي مهم يُعقد سنوياً في الرياض، أعلنت السلطات السعودية عن مبادرات بقيمة 14.9 مليار دولار أميركي في مجال الذكاء الاصطناعي، ممّا يعزز مكانتها الرائدة في السوق العالمية. ومن أبرز المشاريع السعودية “نيوم” (NEOM)، المدينة الذكية المقدَّرة تكلفتها بـ500 مليار دولار، والمدعومة من “صندوق الاستثمارات العامة السعودي“. استثمرت “نيوم” مؤخراً 100 مليون دولار في شركة “بوني إيه آي” (Pony.ai)، وهي شركة صينية متخصصة في تكنولوجيا المركبات ذاتية القيادة، تأسّست عام 2016 ومقرها غوانغتشو وكاليفورنيا. ويشمل اتفاق الاستثمار خططاً لتطوير بنى تحتية للنقل الذاتي في نيوم ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عموماً، بما في ذلك إنشاء مركز إقليمي للبحث والتطوير والتصنيع.
ويبرز أيضاً دور الشركات المملوكة للدولة، مثل “أرامكو” (ARAMCO)، وهي شركة النفط الوطنية السعودية وإحدى أكبر شركات الطاقة في العالم. ففي السنوات الأخيرة، وسّعت “أرامكو” اهتماماتها وتجاوزت الوقود الأحفوري، تماشياً مع “رؤية السعودية 2030″، لتنويع أنشطتها والتوجّه نحو الطاقة المتجددة والبتروكيماويات والتقنيات الرقمية. وعقدت “أرامكو” شراكةً مع “سيريبراس سيستمز” (Cerebras Systems)، الشركة الأمريكية المتخصصة في معدّات الذكاء الاصطناعي والمعروفة بتطويرها أكبر شريحة إلكترونية في العالم مُصمَّمة لتسريع عمليات الذكاء الاصطناعي. وركّزت هذه الشراكة مع “سيريبراس سيستمز”، والتي تتّخذ من كاليفورنيا مقرّاً لها، على ابتكار حلول مستندة إلى الذكاء الاصطناعي ضمن قطاع الطاقة، في خطوة ترمي إلى دمج تكنولوجيا جديدة في الصناعات التقليدية.
تسلك دولة الإمارات العربية المتحدة مساراً مشابهاً. ففي صميم استراتيجيتها الطموحة في مجال الذكاء الاصطناعي، نصادف شركة “جي فور تو” (G42) وشركة الاستثمار الحكومية “إم جي إكس” (MGX)، التي تأسّست عام 2024 لإدارة الأصول المتعلقة بالذكاء الاصطناعي. وتشارك “إم جي إكس” مثلاً في مشروع “ستارغيت” (Stargate) البالغة قيمته 500 مليار دولار. و”ستارغيت” هو مبادرة ضخمة للبنية التحتية في مجال الذكاء الاصطناعي أعلن عنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في كانون الثاني/يناير 2025، وتنطوي على شراكات مع شركات تكنولوجيا عالمية مثل “أوبن إيه آي” (OpenAI) (شركة أبحاث الذكاء الاصطناعي الأميركية التي طوّرت “تشات جي بي تي” ChatGPT) وشركة “أوراكل” (Oracle) (شركة أميركية متخصصة في خدمات الحوسبة السحابية وقواعد البيانات)، و”سوفت بنك” (SoftBank) (تكتّل ياباني معروف باستثماراته في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي).
بالإضافة إلى ذلك، أطلقت مجموعة “بولينوم” (Polynome)، وهي مجموعة استثمارية وتقنية مقرها الإمارات، صندوقاً بقيمة 100 مليون دولار لدعم الشركات الناشئة في مجالات مثل الروبوتات وبرمجيات الذكاء الاصطناعي. ويهدف الصندوق إلى مساعدة ما يصل إلى 40 شركة خلال خمس سنوات، للمساهمة في نمو منظومة الذكاء الاصطناعي المحلية.
أما في قطر، فقد استثمر “جهاز قطر للاستثمار” (QIA)، وهو صندوق الثروة السيادي الذي تأسس عام 2005، بمبلغ 250 مليون دولار في شركة “بيلدر إيه آي” (Builder.ai)، وهي منصة تطوير برمجيات مقرها لندن وتتيح للشركات تصميم تطبيقات برمجية مخصصة من دون الحاجة إلى خبرة في البرمجة. وبالمثل، وسّعت شركة “داتا بريكس” (Databricks)، الشركة الأميركية المتخصصة في الذكاء الاصطناعي وتحليلات البيانات والمعروفة بمنصتها الموحدة للبيانات، نشاطها في منطقة الخليج من خلال Azure Qatar (شراكة مع منصة Azure السحابية التابعة لشركة Microsoft) في خطوة محورية لدمج الشركات العالمية في المشهد التكنولوجي المحلي.
ويُسجَّل أيضاً اهتمام متزايد في سلطنة عُمان، حيث دعا إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي لشركتي “تسلا” (Tesla) و”سبيس إكس” (SpaceX)، خلال فعاليات حضرها في مسقط، إلى زيادة الاستثمارات في الذكاء الاصطناعي. كما أفادت تقارير بأن “جهاز الاستثمار العماني” (OIA) قد استحوذ على حصة في شركة “إكس إيه آي” (XAI) التابعة لماسك، ما يشير إلى احتمال توسّع موجة الاستثمارات لتشمل دولاً خليجية أخرى خارج السعودية والإمارات.
وبعيدًا عن التطوير المحلي، تستثمر دول الخليج في شركات تكنولوجيا عالمية بهدف تعزيز نفوذها واستيراد الخبرات. ومن الأمثلة على ذلك هو الشراكة بقيمة 100 مليون دولار بين شركة Open Innovation AI، وهي شركة ناشئة مقرها أبو ظبي تركّز على أنظمة تشغيل الذكاء الاصطناعي، وشركة World Wide Technology (WWT)، وهي شركة أميركية متخصصة في خدمات التكنولوجيا والاستراتيجيات الرقمية والبنى التحتية لتقنية المعلومات. وتهدف الشراكة إلى تحقيق التكامل بين منصة Open Innovation AI وعمليات WWT في قطاعات مثل الاستدامة والتعليم.
تكشف أنماط الاستثمار هذه عن استراتيجية واضحة لدول الخليج تسعى من خلالها إلى ترسيخ مكانتها ضمن شبكات الذكاء الاصطناعي العالمية. فبفضل مزيج من مشاريع البنية التحتية المحلية والشراكات الدولية، تسعى هذه الدول إلى توسيع نفوذها في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، واكتساب المعرفة التقنية اللازمة لدعم طموحاتها على المستوى المحلي.
القسم الثاني: الجهات صاحبة المصلحة والأشخاص المؤثرون
في الإمارات العربية المتحدة، تؤدي كل من شركة “مبادلة” للاستثمار وG42 دوراً محورياً في توجيه الاستثمارات نحو تقنيات الذكاء الاصطناعي. وتحت مظلة MGX، التي أُنشئت عام 2024، تسعى شركتا مبادلة وG42 إلى إدارة أصول تصل قيمتها إلى 100 مليار دولار وتتركّز على الاستثمارات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي.
وبالمثل، نشط “صندوق الاستثمارات العامة” في المملكة العربية السعودية في مجال الذكاء الاصطناعي، وأطلق صندوقاً بقيمة 40 مليار دولار مخصصاً للمبادرات في هذا المجال. وتشمل استراتيجية الصندوق جذب شركات التكنولوجيا العالمية لإنشاء مقارّ لها داخل المملكة، بهدف تعزيز التطوير المحلي للذكاء الاصطناعي.
وقد كان لعدد من الشخصيات البارزة دور حاسم في دفع عجلة الذكاء الاصطناعي في الخليج. ففي الإمارات، يتولى الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان، مستشار الأمن الوطني، رئاسة شركة G42، ويؤثّر بشكل كبير في توجيه استراتيجية الدولة في هذا المجال. وفي السعودية، فقد أشرف ياسر الرميان، محافظ صندوق الاستثمارات العامة، على استثمارات كبيرة في قطاعات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا.
حتى الآن، لا يزال دَور القطاع الخاص في استثمارات الذكاء الاصطناعي في الخليج العربي محدوداً مقارنة بالجهات الحكومية، إلا أنّه برزت بعض المؤشرات التي تدلّ على النمو التدريجي لهذه الاستثمارات. كانت الاستثمارات الرأسمالية في الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي في الشرق الأوسط متواضعة نسبياً، إذ أشارت التقارير إلى أنّ إجمالي الاستثمارات بلغ حوالي 700 مليون دولار حتى نوفمبر 2024. بعد ذلك، وخلال الربع الأول من عام 2025، بدأ نشاط المستثمرين من القطاع الخاص يُظهر بوادر توسّع، ما يدل على نمو بطيء لكن مستقر في مشاركة هذا القطاع. ونشأت صناديق وحاضنات أعمال جديدة (منظمات توفر بيئة داعمة ومساعدة للمشروعات الصغيرة والشركات الناشئة)، وبدأت الشركات الناشئة في المنطقة تجذب انتباه المستثمرين المحليين والدوليين، رغم أنّ حجمها لا يزال صغيراً مقارنة بالمبادرات الحكومية.
من اللافت أنّ شركات التكنولوجيا العالمية أقامت شراكات مهمة مع دول الخليج. وقد يكون أحد دوافع هذه المبادرات هو التنافس المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين للفوز بالهيمنة الاقتصادية في الخليج.
أصبحت منطقة الخليج العربي الآن ساحةً رئيسية في التنافس التكنولوجي المستمر بين الصين والولايات المتحدة، ويسعى كل من الطرفَين إلى زيادة نفوذه في ما يتعلق بمستقبل الذكاء الاصطناعي، والبنى التحتية السحابية، والخدمات الرقمية في منطقة جنوب غرب آسيا وشمال إفريقيا. ومن الجدير بالذكر أنّ المنطقة تتمتّع بأهمية استراتيجية، إلى جانب مواردها المالية الكبيرة وحاجتها إلى التطوير التكنولوجي، ما زاد من جاذبيتها كمركز للاستثمار من الولايات المتحدة والصين. فقد كثّفت شركات التكنولوجيا الأميركية، مثل “مايكروسوفت” (Microsoft) و”آي بي إم” (IBM) و”غوغل” (Google) و”أمازون” (Amazon)، من حضورها في الخليج. شركة “مايكروسوفت” وحدها، مثلاً، استثمرت 1.5 مليار دولار في شركة G42، بهدف تعزيز قدرات الذكاء الاصطناعي وترسيخ وجود الشركة في البنية التحتية الرقمية في المنطقة. في الوقت نفسه، وسّعت الصين حضورها من خلال شراكات مثل صفقة الحوسبة السحابية بقيمة 238 مليون دولار بين “علي بابا” (Alibaba) و”شركة الاتصالات السعودية” (STC)، واستثمار الصندوق السعودي Prosperity7 بقيمة 400 مليون دولار في شركة Zhipu AI الصينية، إحدى أبرز الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي. علاوةً على ذلك، دفعت شركات صينية مثل “هواوي” (Huawei) و”تينسنت” (Tencent) و”بايدو” (Baidu) باتجاه التوسّع في الخليج. على سبيل المثال، تخطط شركة “بايدو” لإطلاق خدمة “أبولو غو” (Apollo Go) للمركبات ذاتية القيادة في دبي، بما يشكّل أول إطلاق دولي لخدماتها في هذا المجال. ومؤخرًا، أطلقت “تينسنت كلاود” (Tencent Cloud) الصينية أول منطقة سحابية لها في الشرق الأوسط في المملكة العربية السعودية، وأعلنت الشركة عن نيتها استثمار أكثر من 150 مليون دولار في السعودية خلال السنوات القادمة.
القسم الثالث: فوائد الاستثمار المحلي
رغم جدية المخاوف المتعلقة بهيمنة الدولة وفرض الرقابة، يبقى من المحتمل جداً أن يقدّم الذكاء الاصطناعي في الخليج ومنطقة جنوب غرب آسيا وشمال إفريقيا فوائد ملموسة. لقد تم تطوير جزء كبير من البنية التحتية الحالية لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك منصات التواصل الاجتماعي، وأدوات تعديل المحتوى، والنماذج اللغوية، في سياقات غربية، وتشكّلت أساسًا وفقًا للأطر التنظيمية الأميركية والأوروبية، وافتراضاتها الثقافية، وتحيّزاتها اللغوية. وغالباً ما تفشل هذه الأنظمة في فهم لغات المنطقة ولهجاتها وسياقاتها الاجتماعية بشكل دقيق، ما يؤدي إلى سوء التفسير، أو حذف المحتوى عن طريق الخطأ، أو الانحياز الخوارزمي ضد تعبيرات ثقافية أو سياسية معيّنة.
لسدّ هذه الفجوة، يجب تطوير نماذج ذكاء اصطناعي محلية قادرة على معالجة اللهجات العربية، والفارسية، والتركية، والكردية، وسواها من لغات المنطقة بدقة أعلى. ويساعد تدريب الذكاء الاصطناعي محلياً على فهم الفروقات اللغوية والثقافية والاجتماعية الفريدة للمنطقة، ويقدّم فرصة لتصميم أنظمة تخدم المجتمعات المحلية بشكل أفضل، سواء في مجالات الرعاية الصحية أو التعليم أو التواصل الرقمي.
بالإضافة إلى ذلك، أدّت هيمنة منصات التكنولوجيا الغربية، وخصوصاً تلك التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها، إلى فشل متكرر في التعامل مع التعقيد اللغوي والثقافي لمنطقة جنوب غرب آسيا وشمال إفريقيا. فقد تعرّضت شركة “ميتا” (Meta)، على سبيل المثال، لانتقادات واسعة بسبب ممارساتها في الإشراف على المحتوى، التي تفرض رقابة مفرطة على المحتوى العربي مقابل رقابة مُتساهلة على المحتوى العبري، لا سيما في السياقات السياسية الحساسة مثل الوضع في فلسطين. ولا تعود هذه الفجوة فقط إلى سياسات منحازة، بل أيضًا إلى خيارات مقصودة في التصميم الهيكلي. فقد أسندت شركة “ميتا” (Meta) تاريخياً مهام الإشراف على المحتوى العربي إلى مشرفين منخفضي الأجر لا يتمتعون بتدريب كافٍ على اللهجات المحلية أو على الحساسيات السياسية الإقليمية. إلى جانب ذلك، فإن الخوارزميات التي تُستخدم في تنفيذ قرارات الإشراف مدرّبة في الغالب على اللغة الإنجليزية وعدد قليل من اللغات الغربية السائدة، ولا تراعي الفروقات في اللكنة أو الأبعاد الاجتماعية والسياسية. ومن أكثر الأمثلة على ذلك محاولة “ميتا” (Meta) حظر استخدام الكلمة العربية “شهيد” عبر جميع منصاتها. واعتمدت “ميتا” (Meta) أيضاً على “قائمة المنظمات الخطرة والأفراد الخطرين (DOI)” في عمليات الإشراف على المحتوى، ما أدى إلى تقييد غير متناسب لخطاب الفلسطينيين وسواهم من النشطاء العرب، إذ يجري، في كثير من الأحيان، الخلط بين النشاط السياسي والتطرف. وتسلّط هذه الثغرات المنهجية الضوء على الحاجة المُلحّة والمستمرة إلى تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي محلية بحيث تكون قادرة على فهم التنوع اللغوي والواقع الاجتماعي والسياسي في المنطقة بشكل أدق. ومن شأن تطوير أدوات كهذه في الخليج وفي منطقة جنوب غرب آسيا وشمال إفريقيا أن يُحسّن الدقة والإنصاف وأن يُعزز حرية التعبير في منطقة يعاني فيها المعارضون أصلاً من الرقابة الحكومية.
لا مهرب إذاً من المخاوف المرتبطة بالحقوق الرقمية، ولكن، يمكن تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر وعياً بالسياق المحلي وأكثر كفاءة لغوياً لتحسين البيئات الرقمية في منطقةٍ لطالما تأثّرت بالجهات الخارجية.
القسم الرابع: التهديدات المحتمَلة وتأثيرها على الحقوق الرقمية
في ظل توسّع قدرات الذكاء الاصطناعي في دول الخليج، تزداد المخاوف من أن تُستخدم هذه التكنولوجيا لتعزيز بنى المراقبة القائمة وتوسيعها. فلدول الخليج سجلّ طويل في استخدام الأدوات الرقمية للمراقبة والتحكم الاجتماعي، وغالباً ما وظّفتها ضد صحافيين وناشطين ومدافعين عن حقوق الإنسان. وتزيد أنظمة الذكاء الاصطناعي، وبخاصة تلك المعتمدة على التعرّف على الوجه والتنبؤ بالجريمة (التنبؤ الشرطي) وتحليل البيانات البيومترية، من مخاطر توسيع هذه الممارسات وأتمتتها وتقويض شفافيتها.
من أبرز هذه المخاطر انتهاك الخصوصية وسوء استخدام البيانات الشخصية. فمن خلال دمج تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في الأنظمة الأمنية أو المدن الذكية أو الخدمات العامة، يمكن معالجة كميات ضخمة من المعلومات الحساسة، غالباً بدون الحصول على موافقة مناسبة من الأفراد. وفي غياب الحماية القانونية الفعالة، يمكن استغلال هذه البيانات لمراقبة المعارضين السياسيين أو الفئات المهمشة تحت ذرائع الأمن القومي. وتزداد هذه التهديدات خطورة في ظل افتقار الأطر التنظيمية المعتمدة حالياً في دول الخليج إلى آليات رقابية أو تنفيذية مستقلة.
في دول الخليج، وبخاصة السعودية والإمارات، سبق أن تم توثيق عدّة حالات انتهاكات حقوق الإنسان باستخدام أدوات مراقبة متقدّمة تدعمها الدولة، أهمها استخدام برنامج “بيغاسوس” (Pegasus) الذي طوّرته شركة NSO الإسرائيلية لاستهداف صحفيين ومحامين وناشطين معارضين سياسيين. ومن بين الحالات البارزة مراقبة الناشطة السعودية في مجال حقوق المرأة، لجين الهذلول، التي تم اختراق هاتفها ببرنامج “بيغاسوس” (Pegasus) قبل اعتقالها. كذلك استهداف المدافع الإماراتي عن حقوق الإنسان أحمد منصور عدة مرات باستخدام البرنامج ذاته، قبل اعتقاله وسجنه في ظروف قاسية داخل الإمارات. وواجه ناشطون في البحرين، من بينهم أعضاء من مركز البحرين لحقوق الإنسان ومعهد البحرين للحقوق والديمقراطية، أيضاً اختراقات ببرنامج “بيغاسوس” (Pegasus) عرّضت اتصالاتهم للمراقبة الحكومية.
وفي قضية الصحافي جمال خاشقجي، كشفت التحقيقات الجنائية أن البرنامج نفسه استُخدم لمراقبة خطيبته خديجة جنكيز وأشخاص آخرين مقرّبين من خاشقجي، قبل وبعد اغتياله في إسطنبول عام 2018. وتشير تقارير أخرى إلى أن صحافيين ونشطاء عُمانيين تعرّضوا أيضاً لهجمات تجسسية، وإن كانت هذه الحالات تحظى باهتمام دولي أقل.
وبينما تستمرّ دول الخليج في تبنّي تقنيات مراقبة مستنِدة إلى الذكاء الاصطناعي، مثل التعرّف على الوجه والتنبؤ بالجريمة، يزداد احتمال تفاقم الانتهاكات بشكل كبير. فهذه التكنولوجيا الجديدة قد تزيد من أتمتة المراقبة وانتشارها وصعوبة كشفها، ما يُشكّل تهديداً إضافياً لخصوصية وسلامة كل مَن يعارض القمع. وفي ظل غياب الإشراف المستقل والضمانات القانونية الفعالة، قد يؤدّي توسّع استخدام الذكاء الاصطناعي إلى ترسيخ هذه الانتهاكات وبيئة رقمية معادية لحرية التعبير وحقوق الإنسان.
في الواقع، طبّقت الإمارات بالفعل نظاماً من هذا النوع في دبي بحيث أطلقت شرطة الإمارة في عام 2018 برنامج “عيون”، وهو خطة مراقبة شاملة تهدف إلى نشر 300 ألف كاميرا في المدينة بحلول عام 2023. ويجمع هذا البرنامج بين تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وشبكة واسعة من كاميرات المراقبة بهدف تعزيز السلامة العامة وتسهيل عمليات إنفاذ القانون. ويستخدم “عيون” تقنيات مثل التعرّف على الوجه، وقراءة لوحات السيارات، وتحليل السلوك، لرصد وتحليل البيانات في الوقت الفعلي من مواقع متعددة، مثل الشوارع، ووسائل النقل العامة، والمناطق التجارية.
وأصبحت المُدن الحضرية الخليجية مختبرات ضخمة لتجارب السيطرة الاجتماعية واستخراج البيانات وذلك بسبب الخوارزميات وبُنى المدن الذكية وأنظمة المراقبة المستمرة المزروعة في أنحاء الخليج. ففي هذه البيئات، تُدمَج تقنيات المراقبة في تفاصيل الحياة اليومية، وتوفّر قدرة غير مسبوقة للسلطات على مراقبة السكان وتحركاتهم وسلوكهم. ويشبه هذا النموذج ما يُستخدم في مناطق أخرى، مثل الأراضي الفلسطينية، حيث وُجهت انتقادات إلى إسرائيل بسبب تحويل مدن كبرى في الضفة الغربية إلى ساحات اختبار لتقنيات عسكرية وأدوات مراقبة. وفي مثل هذه الحالات، يتيح دمج تقنيات التعرّف على الوجه، والتنبؤ بالجريمة، والتتبع البيومتري، المراقبة المستمرة وتحديد الفئات المستهدفة.
في هذا السياق، سلّطت فعاليات مثل منتدى حوكمة الإنترنت (IGF) لعام 2024 ، الذي عُقد في الرياض، الضوء على واقع بيئة المراقبة. وخلال المنتدى، وجّه ناشطون انتقادات لسجلّ السعودية في مجال حقوق الإنسان، ولكن بعد وقت قصير من الحدث، اختفى من المنصات تسجيل فيديو رسمي للأمم المتحدة يتضمّن جلسة مداخلات من عائلات معتقلين. وقد أُزيل التسجيل من أرشيف الأمم المتحدة الإلكتروني أيضاً، ما أثار موجة استنكار من قبل منظمات حقوق الإنسان، التي اعتبرت الحادثة مثالاً على ثقافة الرقابة والسيطرة الأوسع التي قد تعمّقها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في حال بقيت بدون إشراف.
بالإضافة إلى ذلك، ارتبطت كل من G42 وأرامكو، وهما من الجهات المحورية في استثمارات الذكاء الاصطناعي في الخليج، بنقاشات تتعلّق بحقوق الإنسان والمراقبة الرقمية. فقد واجهت G42، ومقرّها أبو ظبي، تدقيقاً بسبب علاقاتها التاريخية مع شركات تكنولوجيا صينية مثل “هواوي” (Huawei) و”سينس تايم” (SenseTime)، واللتين وُجّهت إليهما اتهامات بتوفير تقنيات مراقبة تُستخدم في انتهاكات ضد أقلية الإيغور في الصين. وعلى الرغم من أنّ G42 حدّت بعضاً من هذه الشراكات تحت الضغط الدولي، فإن انخراطها في قطاعات حساسة مثل البيانات الصحية، والتعرّف على الوجه، وأنظمة المراقبة المستنِدة إلى الذكاء الاصطناعي، لا يزال يثير مخاوف بشأن الخصوصية وحرية التعبير في الإمارات. وتورّطت G42 بفضيحة تطبيق ToTok، وهو تطبيق مراسلة ظهر للعلن كتطبيق بريء، لكن تبيّن لاحقًا أنه أداة مراقبة جماعية يُشتبه بأن السلطات الإماراتية استخدمته للتجسس على المواطنين والأجانب. إذاً، لم تعُد المخاوف مجرد افتراضات نظرية لأنّ التهديدات المحتملة أصبحت واقعاً ملموساً في بعض الحالات وبعض المناطق.
واستُخدمت تقنيات المدن الذكية لتتبع الأقليات العرقية وفرض نقاط تفتيش رقمية في شينجيانغ في الصين. كذلك، استخدمت إسرائيل تقنيات التعرّف على الوجه وبنى المراقبة المؤتمتة في الضفة الغربية لمراقبة حركة الفلسطينيين وتقييدها. وتثير رؤية مشروع نيوم، التي تتضمن تكاملاً بيومترياً شاملاً، مخاوف من تكرار هذه النماذج في سياق الخليج.
ربما من أكثر السيناريوهات المثيرة للقلق هو استثمار شركة “إم جي إكس” (MGX) التي تتخذ من الإمارات مقراً لها، في مشروع “ستارغيت” (Stargate)، والذي يتضمّن شراكات مع مطوّري ذكاء اصطناعي عالميين مثل OpenAI وشركة “أوراكل” (Oracle) و”سوفت بنك” (SoftBank). فقد يُتيح هذا الاستثمار لحكومات الخليج التأثير في طريقة تدريب النماذج الأساسية واستخدامها. ويجب الإشارة إلى أنّ النماذج الأساسية ليست محايدة بطبيعتها، إذ إنّ البيانات التي تُدرَّب عليها تؤثّر في مخرجاتها، كما أنّ القرارات المتعلقة بما يجب تضمينه أو استبعاده في التدريب هي قرارات سياسية. وإذا شاركت جهات ذات سجل سيء في مجال حقوق الإنسان في توجيه طريقة بناء هذه النماذج، يبرز خطر أن تُصمّم أنظمة الذكاء الاصطناعي لتعزيز الرقابة، أو قمع السرديات الناقدة للدولة، أو التقليل من شأن معاناة المجتمعات المضطهدة. ويمكن أن تُضبط النماذج اللغوية لكبح استخدام مصطلحات معيّنة أو إعادة تأطير قضايا سياسية، ما يؤدّي إلى بيئات رقمية تُقصى فيها المعارضة بصمت، ويُسمح فيها فقط بتداول الخطاب المعتمد من الدولة.
تكمن في صميم هذه المخاوف أيضاً مسألة ملكية البنية التحتية، لا سيما في ما يتعلّق بأشباه الموصلات وشرائح الذكاء الاصطناعي. كشفت أزمة النقص العالمية في الشرائح الإلكترونية خلال السنوات الأخيرة عن هشاشة سلاسل توريد التكنولوجيا، وعن الأهمية الاستراتيجية لتصنيع هذه الشرائح. وتشكّل شرائح الذكاء الاصطناعي عالية الأداء، مثل تلك التي تُنتجها “إنفيديا” (NVIDIA) أو”أي دي أم” (AMD)، أدوات حوسبة يمكن استخدامها لتنفيذ عمليات مراقبة جماعية، وتحليل البيانات في الوقت الحقيقي. وقد دعا بعض الخبراء وصناع السياسات في الولايات المتحدة إلى تقييد تصدير هذه الشرائح المتقدمة ومنع وصول الحكومات الأجنبية إليها، نظراً إلى ما تنطوي عليه من اعتبارات سياسية واقتصادية. إن زيادة نفوذ الأنظمة السلطوية قد يفتح الباب أمام موجات جديدة من الرقابة والقمع، هذه المرة على مستوى عالمي. على سبيل المثال، إذا جرى دمج هذه الشرائح في منصات المراقبة، قد تتمكن الأنظمة الاستبدادية من توسيع قمعها بسرعة ودقة غير مسبوقين.
ويُشكّل التوسع في امتلاك تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي من قِبل جهات مثل G42 وأرامكو خطراً كبيراً ويزيد من مخاوف حقوق الإنسان القائمة في المنطقة، لأنّ انخراطها في شراكات عالمية يمنحها إمكانية الوصول إلى أنظمة متقدّمة قد تُستخدم لترسيخ سيطرة الدولة وتوسيع أدوات المراقبة.
ورغم كل ما سبق، لا يزال العالم العربي أمام فرص كبيرة ناتجة من تطوير التكنولوجيا المتقدّمة، لا سيمّا أنّ المنطقة افتقرت تاريخياً إلى بنى تحتية رقمية. على سبيل المثال، بإمكان الأنظمة الذكية المطوّرة محلياً أن تُساهم في الحد من الانحياز الثقافي، وتحسين الدقة اللغوية، وإنشاء فضاءات رقمية تعكس بشكل أفضل واقع الحياة اليومية وتنوّع الأصوات في المنطقة. ويمكن أن تؤدي هذه الجهود إلى أنظمة أكثر عدالة، وحماية أفضل لحرية التعبير، وتحوّل تدريجي بعيداً عن هيمنة المنصات الغربية التي غالباً ما تفشل في فهم السياقات المحلية أو الاستجابة لها بشكل فعّال.
لكنّ مصدر القلق الأكبر لا يكمن في التكنولوجيا نفسها، بل في هوية الجهات التي تقود هذا التقدّم وسجلاتها. فعندما تكون المؤسسات الحكومية المعروفة بالقمع والرقابة وكبح المعارضة هي المحرّك الرئيسي للتطوّر التكنولوجي، يكون الخطر في أن تُستخدم هذه الأدوات الجديدة ليس للتمكين، بل للسيطرة. لذلك، يجب أن يُقابَل وعد الابتكار الإقليمي باليقظة والوعي، والشفافية، وضمانات قوية كي لا يتحقق النمو التكنولوجي على حساب الحقوق الأساسية.