بعد انقضاء نحو شهرين على وقف إطلاق النار في لبنان، ما زالت بعض المناطق في الضاحية الجنوبية لبيروت بلا إنترنت، والسبب، بكلّ بساطة، هو الفوضى في معالجة ملفّ فائق الأهمية كهذا، وغياب الخطط الفعالة والوضوح. وبينما تتقاذف “أوجيرو” والبلديات المسؤوليات والتهم فيما بينها، يقع الناس ضحية تلاعب واستغلال أطراف أخرى دخلت على خطّ الأزمة.
مع عودة النازحين/ات إلى منازلهم في تشرين الثاني/نوفمبر 2024، بدأت تفاصيل المشكلة تتكشّف: خطوطٌ مقطوعة، وإمداداتٌ ضعيفة، وأفقٌ خالٍ من الحلول القريبة. في القرى الجنوبية التي تمكّن الناس من العودة إليها، بدأ الإنترنت بالعودة تدريجياً وبدأ التحسن الملحوظ في خدمة الإنترنت الثابت (DSL). أمّا في الضاحية الجنوبية والأحياء التابعة لسنترال المريجة تحديداً، فالوضع ليس بهذه السهولة.
في حديثٍ مع “سمكس”، يوضح مدير عام هيئة “أوجيرو” عماد كريدية أنّ الأضرار التي لحقت بسنترال المريجة من جرّاء القصف هائلة، إلا أنّها خارجية وتطال الكابلات الموجودة في محيط المركز فقط.
وفيما يعد كريدية المتضررين بالحصول على شبكة ألياف ضوئية ترفع من مستوى الخدمة، يعاني هؤلاء حتى الآن من انقطاعها تماماً. ووفقاً لكريديّة، فإنّ “أوجيرو” “بانتظار اتحاد بلديات الضاحية لإنجاز مهمة تصليح البنى التحتية في المنطقة”، وبعد ذلك، يمكن للهيئة العمل على إعادة الخدمة خلال مدة 45 يوماً.
استغلال المواطنين/ات في ظلّ غياب الحلول
بالعودة إلى المشكلة الأساسيّة، وهي فخ الاستغلال الذي يقع فيه الناس، يشرّع غياب الخدمة أبواب البدائل غير الشرعية. يعمل موزعو خدمة الانترنت غير الشرعيين جاهدين للاستفادة من الأزمة، فينشط نتيجةً لذلك سوق “كايبل الحي” مع كل ما يحمله من احتكار. ويحاول نحو 10 آلاف مستخدمة ومستخدم في هذه المنطقة تدبّر أمورهم ريثما وجدت الدولة حلولاً للفوضى الي تسود مؤسساتها، فاصطدموا بواقع موازٍ لا يقل صعوبة: ارتفاع تعرفة الخدمات وتراجع جودتها.
بحسب كريديّة، لا جديد في ملف التعرفة، أي لا زيادات على الإطلاق. وبحسب موزعي خدمة الإنترنت غير الشرعيين، فإنّ زيادة التعرفة مصدرها موزع الخدمة الرئيسي (DPL). أما عن الجودة، فالتذرّع بالحرب والقصف أمرٌ لا بدّ منه. وفي خضمّ رحلة البحث عن الإنترنت في الضاحية، يجد الفرد نفسه مجبراً على دفع تعرفة أعلى، وبدل تغيير شريط أو استبدال “راوتر” بأخرى، وغيرها من اقتراحات يقدّمها “مزود الحي” من أجل “تحسين جودة الخدمة”. ولدى سؤالنا عن كل ذلك، يؤكّد كريديّة إنّ للمواطن الحق في تقديم شكوى بحق هؤلاء، وعلى ضوئها يمكن التحرّك.
يخبرنا حسّان عن تجربته السيئة مع موزعي الإنترنت غير الشرعيين في منطقة الكفاءات، الذين أسرعوا لتوصيل الكابلات وجمع الاشتراكات من الناس، لكن بتعرفة أعلى وجودة أقل. يعاني حسان حتى اليوم لتحصيل خدمة لائقة، وكلما استدعى الفريق التقني، يتذرّع أفراده إما بـ”الشريط القديم”، أو بـ”الراوتر القديمة”، ويعمدون إلى اقتراح بدائل مكلفة: تصليحات مدفوعة وتغيير الباقة لرفع الجودة.
الشركات المعتمدة للتوزيع: تجاهل متعمد للأزمة وزيادة الأعباء على المشتركين
ليس أداء الشركات المعتمدة لتوزيع الإنترنت أفضل بكثير. خلال فترة الحرب، واصلت شركة “آي دي إم” (IDM) عملها بشكل طبيعي، ووصل بها الأمر حدّ إرسال رسائل نصية للمواطنين تذكرهم بوجوب دفع فواتيرهم.
عندما تواصلنا معها، قالت الشركة إنّ تلك “الرسائل آلية وترسل بشكل تلقائي”. وبغض النظر عن أداء فريق التسويق الذي كان بإمكانه اقتراح جدولة رسائل من نوع آخر تدعم المشتركين في مناطق الحرب، استمرّ هذا الخطأ الذي “سقط سهواً” إلى حين توقّف الحرب. فلدى عودة الناس، فوجئوا بتوقف حساباتهم بسبب انقضاء الفترة اللازمة للدفع.
جرى توقيف حساب محمد، في منطقة حي ماضي التابعة لسنترال الشياح، وحاولت الشركة بشكل مؤتمت إجباره على دفع تعرفة مالية لاسترجاعه، إلا أنّ اعتراضه على ذلك من خلال شكوى هاتفية حال دون ذلك.
أمّا نور، المقيمة في منطقة الجاموس التابعة لسنترال المريجة، فتقول إنّ “الرسائل الآلية خلال الحرب كانت مزعجة جداً، ولكنّ المزعج فعلاً هو طلب الشركة دفع ما يقارب 150 ألف ليرة لبنانية بدل عودة الحساب (في المنطقة التي لا تغطية فيها أصلاً)”. ولدى تقديمها الشكوى، تراجعت الشركة عن طلب المبلغ وأعادوا تفعيل الحساب. ولكنّ السؤال هنا: كم مواطن اضطر إلى دفع هذه التعرفة لاستعادة حسابه؟ وكم 150 ألف ليرة جمعت الشركة لإعادة تفعيل حسابات توقفت بسبب الحرب؟
لم تقف المشكلة عند هذا الحدّ. فبحسب نور، ولدى تفعيلها للحساب ودفع تعرفة تشغيله، اكتشفت انقطاع الخدمة أصلاً. تواصلت مع الشركة مجدداً وتقدّمت بشكوى، فجاء الرد بأنهّم سيعوّضون لها تعرفة الشهر فور عودة الخدمة. ولكن السؤال هنا أيضاً، لماذا لم توضع خطة لمعالجة ملف الحرب في الشركة؟ لماذا ترك الناس لمواجهة كل تلك العراقيل؟ كم اشتراكاً شهريّاً دُفع تلقائياً دون التعويض لأصحابه؟ وكم هو المبلغ الذي جمع جمعه المستفيدون بفضل كل هذه الفوضى؟
من بديهيات الأمور أن تبادر الشركة إلى تجميد الحسابات غير الفعّالة والواقعة ضمن نطاقٍ جغرافي معين خلال الحروب، أو إعفاء المستخدمين بشكلٍ تلقائيّ من كل تلك الرسوم والإجراءات البيروقراطية، أو حتى إبلاغ المواطنين عبر رسائل نصية بآليّة التعامل مع المرحلة الراهنة. آثرت الشركة اعتماد الفوضى، واستيفاء الأموال من أولئك الذين لا يرفعون صوتهم أو لا علم لهم/ن بآليات الاعتراض. ويتناقض هذا النهج تماماً مع جوهر قرار وزير الاتصالات، الذي وجّه هيئة أوجيرو إلى تعليق إصدار الفواتير الشهرية ووقف استيفاء الرسوم والاشتراكات الشهرية المستحقة على المشتركين العائدين إلى النطاق الجغرافي التابع للسنترال المتضرر.
على حساب “آي دي إم” على “فيسبوك”، كتبت إحدى المشتركات للشركة: “عايشين معنا بنفس الكوكب؟ إذا ما في حدا بالبيت ليش بدنا نجدّد الاشتراك؟ وبحال جدّدنا الاشتراك ما حيكون في إنترنت لأن سنترال العمروسية مطفي”. هذا واحد من مئات التعليقات التي تشتكي سوء الخدمة. ما يعنينا الآن هو الفشل في إدارة ملف الإنترنت بعد الحرب، وما تبعه من عراقيل وتقاضي أموال بشكلٍ غير مبرر من الناس المنكوبة.
وقد حاولنا التواصل مراراً مع الشركة لفهم ما يحدث، لكن لم نلقَ تجاوباً.
أوجيرو والبلديات: تقاذف المسؤوليات وتأخير الحلول
وعلى هامش لا يمكن اعتباره ثانوياً، برز ضعف التنسيق بين الجهات المعنية بشكل جليّ، إذ يعرب رئيس اتحاد بلديات الضاحية الجنوبية، محمد درغام، عن استغرابه خلال حديثه مع “سمكس” من انتظار “أوجيرو” للاتحاد، قائلاً: “نحن أيضاً ننتظر من الهيئة تزويد البلدية ببعض المستلزمات الضرورية لمدّ الشبكات”، متفاجئاً من المعلومات التي قدمها كريديّة لـ “سمكس”، ليطلب بعد ذلك رقم هاتفه للتواصل معه مباشرةً.
يرسم استغراب درغام لتصريحات كريدية بحدّ ذاته علامة استفهام كبرى، لكن الأكثر إثارة للدهشة هو غياب التواصل المباشر بين الطرفين. وقد علمنا أن اجتماعاً عُقد لاحقًا بعد تسليط الضوء على هذه الثغرة، إلا أن تداعياته لم تتّضح بعد، ونأمل أن يشكل نقطة تحول تفضي إلى حلول عملية للأزمة العالقة.
وفي خضمّ كل هذا “الأخذ والردّ”، يعيش سكان الضاحية الجنوبية رهينة تجار الأزمة الذين يحاولون اصطياد الأرباح بشتى الطرق، مستغلين انشغال الناس وإرهاقهم وحاجتهم الماسة للخدمات.
تتطلّب المرحلة الراهنة أعلى درجات التنسيق والتعاون، ولكننا مع الأسف نجد أنفسنا أمام ضياعٍ تام وضعف بإدارة الأزمة. وبعد انقضاء شهرين منذ عودة الناس إلى بيوتهم/ن، وخمسة أشهر على بدء الحرب، وأكثر بكثير على إعلان الدولة عن خطة طوارئ للأزمة المحتملة، لا زلنا مكانك راوح.
الصورة الرئيسية من AFP.