نُشرت هذه المقالة أولاً على موقع “صفر”
تعمّدت السياسات الحكومية منذ سنوات طويلة إلى تحويل خدمة الخلوي الأساسية والحيوية إلى ما يشبه الضريبة المفروضة على المستهلكين، وباتت تشكّل أحد مصادر الدخل الكبرى للخزينة العامّة. وفي هذا السياق، تأتي خطوة شركة «تاتش» الرامية إلى تعديل باقات الإنترنت المسبقة الدفع، اعتباراً من اليوم، على أن تلحقها شركة «ألفا»، وفق تأكيد مصادر في قطاع الاتصالات، كجزء من هذه السياسات، التي تؤدّي إلى تضييق الخيارات أمام المستهلكين وإجبارهم على دفع كلفة إضافية على باقات ليست مصممة لتلبية احتياجاتهم.
يجري تسويق هذه التعديلات تحت عنوان «التحديث» و«إعادة التنظيم»، بهدف تحسين العروض وتخفيض الكلفة على المشتركين، باعتبار أنها توفّر للمشتركين بيانات أكثر في مقابل سعر أعلى بقليل. ولكن المقارنة بين الصيغة الحالية للباقات المطروحة وأسعارها وبين الصيغة السابقة تكشف أن التعديلات المقررة هي ذات طابع إقصائي، وقد تؤدّي إلى توسيع الفجوة الرقمية، والحدّ من الوصول العادل إلى الإنترنت، وعرقلة قدرة لبنان على اللحاق بالمعايير العالمية للاتصالات.

وهم القيمة: تسويق مُضلّل يخفي أعباءً أكبر
أولاً، تعكس التعديلات الجديدة تضليلاً في القيمة، إذ أنّ باقة وحيدة جديدة توفّر كمّية بيانات أكبر بكلفة أقل، وهي باقة 1GB الجديدة التي أصبحت بسعر باقة 500MB القديمة، أي بنصف الكلفة لكلّ ميغابايت، ولكن باقي الباقات لم تعتمد المنطق نفسه. إذ تظهر المقارنة أنّ بعض الباقات، مثل باقة 22GB بدلاً من 20GB، شهدت زيادة فعلية في كلفة الميغابايت بنسبة 1.5%، بينما حافظت الباقات الأخرى، على الكلفة نفسها تقريباً. وبالتالي الادعاء بأنّ المستخدم يستفيد من «كرم البيانات» هو في معظمه إعادة تغليف تجاري، لا تعكس حاجات استهلاكية فعلية، بل تهدف إلى فرض أسعار أعلى بزيادات شكلية في الحجم.
ثانياً، تعكس الزيادات الجديدة تلاشياً في مرونة التسعير. تقدّم العروض السابقة باقات صغيرة ومتوسّطة الحجم بأسعار متدرّجة، تتيح للمستهلك ضبط استهلاكه وميزانيته، بدءاً من 500MB و1.75GB و6GB. أمّا اليوم، فقد أُلغيت هذه المستويات واستُبدلت بخيارات تبدأ من 1GB وتنتقل فجأة إلى 7GB ثم إلى 22GB، وهي قفزات غير منطقية في الاستخدام اليومي، خصوصاً لذوي الدخل المحدود. على سبيل المثال، المستخدم الذي كان يكتفي سابقاً بباقة 20GB في مقابل 13 دولار، أصبح الآن مُجبراً على استهلاك باقة 22GB بسعر 14.5 دولار، وهو ما يشكّل زيادة بنسبة 11.5% في الفاتورة، من دون أن يكون المشترك بحاجة لهذه الزيادة في الاستهلاك.
التأثير الحقيقي: من هم الخاسرون؟
يعتبر المستخدمون الصغار من ضمن الأكثر تضرّراً. لا يحتاج هؤلاء الأشخاص لأكثر من 500 ميغابايت شهرياً فقط، ولكن بدلاً من توفير هذه الباقة بسعر أقل، بات عليهم الاكتفاء بخيار واحد يبدأ من 1GB في مقابل السعر نفسه، حتى وإنّ كانت حاجتهم الفعلية أقل بكثير. وهذا ما يعني تلاشي القدرة على إدارة الاستهلاك والميزانية بشكل تدرّجي.
يليهم المستخدمون المتوسطون، إذ بات عليهم الانتقال من 1GB إلى 7GB بكلفة 5.5 دولار إضافية، أي زيادة بنسبة 157% في مقابل 6GB إضافية فقط. لا توجد خيارات وسطية بين الباقتين، ما يخلق فراغاً تسعيرياً حرجاً لملايين المستخدمين.
وأخيراً يعتبر البلد ككلّ متضرّراً. فمعدّل استهلاك البيانات الخلوية في لبنان يبقى في حدود 2 إلى 4 غيغابايت شهرياً لكل مستخدم، بينما يتجاوز المعدل العالمي 15 إلى 20 غيغابايت. ومن غير المرجّح أن يؤدي النموذج الحالي إلى تقليص هذه الفجوة، بل على العكس، قد يثبّت التراجع.
تراجع استراتيجي لا تقدّم حقيقي
على الرغم من اللغة الترويجية المُستخدمة، لا يهدف نموذج التسعير الجديد إلى تمكين المستخدم، بل يُظهر بوضوح تقليص عدد الباقات المُتاحة، ودفع المستخدمين نحو باقات أغلى من دون بدائل منطقية، وذلك من أجل تحقيق أرباح تشغيلية أكبر من دون أي تجديد حقيقي في المنتجات أو البنية التحتية.
في النموذج السابق، توفّرت 11 باقة تُغطّي مجموعة واسعة من أنماط الاستخدام. أمّا في النظام الجديد، فقد تمّ حصر الخيارات بـ 7 باقات فقط، ما أدّى إلى إلغاء مبدأ التدرّج في الاستهلاك، وفرض حدٍّ أدنى من الإنفاق لا يمكن تجاوزه نزولاً. ففي بلدان مثل الأردن والمغرب ومصر، تُقدّم شركات الاتصالات عروضاً يومية وخفيفة، وباقات تطبيقات، وحوافز على الاستخدام. أما في لبنان، فيعبّر تقليص الباقات عن قصور تجاري وتسويقي واضح، وافتقار إلى رؤية شاملة للشمول الرقمي. في حين أن أي سياسة تسعير خلوية فعّالة وطموحة في لبنان يجب أن تتضمّن باقات يومية صغيرة (100MB أو 300MB)، وباقات أسبوعية للتطبيقات الاجتماعية، وحوافز وبيانات إضافية على أساس الاستخدام، ومقارنة جدية مع نماذج الأردن والمغرب ومصر.
فرصة ضائعة بهيئة تحديث
تُقدّم باقات الإنترنت الخلوي في لبنان كتحدي، غير أنّها تخفي في الحقيقة زيادات فعلية في الأسعار، وتقضي على مبدأ التدرّج والمرونة في التسعير، وتُقصي الفئات الأكثر هشاشة من إمكانية الوصول الرقمي المنتظم. وفي بلد يعاني من فقر رقمي متزايد، ومن فجوة صارخة بين متوسط الاستهلاك المحلي والمعايير العالمية، يُمثّل هذا النموذج خطوة تراجعية تُكرّس الانفصال بين سياسات التسعير ومبادئ الشمول والعدالة الرقمية. ما يحتاجه لبنان ليس تبسيط عدد الباقات أو تحسين الصورة التسويقية، بل تبنّي سياسة تسعير عادلة وتدريجية ومتنوّعة، تُشجّع على الاستخدام وتوسّع قاعدة الوصول، بدلاً من إعادة إنتاج نموذج إقصائي مموّه تحت عنوان «التحديث».