في 22 أيلول/سبتمبر الماضي، جلس المراسل الصحافي التونسي عادل الفتيتي أمام مساعد وكيل الجمهورية (وكيل النيابة) بمحكمة القيروان وسط البلاد، لسماعه في دعوى قضائية رفعها ضده مستشار بلدي ببلدية القيروان. وكان الفتيتي أوقف على خلفية نشر الصحافي مقطع فيديو حول استحواذ المسؤول المحلي على حاويات للفضلات تعود ملكيتها للبلديّة، متهماً المسؤول الصحافي المذكور بتشويهه، حسب رواية الفتيتي لموقع “سمكس”.
خُتم التحقيق مع عادل الفتيتي بجملة قالها مساعد وكيل الجمهورية “من حسن حظك أن الدعوى رُفعت في 12 أيلول/سبتمبر،أي قبل يوم من ختم المرسوم عدد 54، حينها كان يمكن أن تُسجن سنوات. يجب عليكم توخي الحيطة بعد صدور المرسوم”.
وبالفعل، صدر المرسوم الذي يتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال بعد أيام في 17 أيلول/سبتمبر الماضي. وقد لاقى المرسوم الذي عُرف في تونس اختصاراً بالمرسوم العدد 54 انتقادات من المدافعين عن حقوق الإنسان وتخوّفاً من قمعٍ شديد لحرية الرأي والتعبير.
ضرب لمعايير حقوق الإنسان
يتضمّن المرسوم العدد 54 ثمانية وثلاثين فصلاً موزعة على خمسة أبواب، نصّ أغلبها على عقوبات بالسجن تصل إلى ستّ سنوات، بالإضافة إلى خطايا مالية تصل إلى ما يقرب العشرين ألف دولار، ضدّ كل من يرتكب الجرائم التي نصّ عليها المرسوم مثل نشر الأخبار الزائفة والإشاعات وإنتاجها، أو ما أسماه “الوثائق المصطنعة أو المزورة”.
واجهت أغلب فصول المرسوم انتقادات بسبب تضييقها على حرية التعبير والعقوبات المجحفة التي يواجهها مرتكبو “الجرائم” التي نص عليها القانون والمتعلقة أساساً بالنشر، خاصة أنّ الفصل الأول منه شدّد على أنّ أحكام المجلة الجزائية، ومجلة الإجراءات الجزائية، ومجلة المرافعات والعقوبات العسكرية والنصوص الجزائية الخاصة -وهي جميعها مجموعة قوانين الجنايات في تونس- تنطبق على “الجرائم” التي نص عليها المرسوم الجديد “دون أن يمنع ذلك من تطبيق العقوبات الأشد”.
بالإضافة إلى ذلك، أثار الفصل 24 من القانون قلق المنظمات التي اعتبرته خرقاً صارخاً للحق في حرية التعبير. ينصّ هذا الفصل على عقوبة بالسجن مدة خمسة أعوام وبخطية مالية تصل إلى أكثر من 15 ألف دولار “لكلّ من يتعمّد استعمال شبكات وأنظمة معلومات واتصال لإنتاج، أو ترويج، أو نشر، أو إرسال، أو إعداد أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو وثائق مصطنعة أو مزوّرة أو منسوبة كذبا للغير بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني”. هذا وتُضاعف العقوبة إذا كان المتضرر من ذلك موظّف أو مسؤول في الدولة!
يقول أيمن الزغدودي، المستشار القانوني في منظمة “المادة 19” (Article19)، لـ”سمكس”، إنّ الفصل 24 من المرسوم العدد 54 “خطير جداً”، فهو يشكل ردّة على مكتسبات حرية الصحافة وانتهاك للمرسوم العدد 115 المنظم للصحافة والنشر. ويضيف أنّ “هذا الفصل لغم يعصف بكل المعايير الدولية التي وردت في الاتفاقات التي وقعت عليها تونس، لأنه يضع مجموعة من الجرائم المتنوعة تحت طائلة عقوبة واحدة وهي خمس سنوات سجناً.
وينتقد الزغدودي مضاعفة العقوبة إذا كان الشاكي موظفاً عمومياً أو مسؤولاً في الدولة، معتبراً ذلك “ضرباً للمعايير الدولية لأن الأصل هو العكس، فمسؤولو الدولة هم شخصيات عامة قبلت بمسؤولية عامة وعليها أن تبدي تسامحا أكبر تجاه الانتقادات”، مشيراً إلى أن هذا البند مناقضٌ للدستور الجديد الذي ينصّ على مبدأ تناسب العقوبة مع حجم الضرر.
في التاسع عشر من أيلول/سبتمبر الماضي، دعت النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين في بيان أصدرته إلى سحب ذلك القانون بسبب “مخالفته للدستور و التزامات تونس الدولية، ولتنافيه مع معايير حرية الصحافة والتعبير وحقوق الإنسان ومبدأ تناسب الجريمة مع العقاب”، مهددة باللجوء إلى القضاء الإداري للطعن في القانون.
تقول ريم سوودي، عضو المكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، لـ”سمكس” إنّ “المرسوم العدد 54 صدر في سياق عام يستهدف حرية التعبير وحرية الصحافة بالأساس، وهو سياق انطلق بشكل واضح منذ الخامس والعشرين العام الماضي”. ولكنّ القوانين قد تكون سلاحاً للحد من حرية التعبير، فمنذ أكثر من عام، تحاول السلطة في تونس فرض سياسة الرأي الواحد، وهو ما لن نقبل به، لذلك دعونا صلب النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين إلى سحب المرسوم عدد 54″.
تجسس على المعطيات وتهديد طالبي اللجوء
خصص المرسوم عدد 54 باباً كاملاً لشروط وكيفية معاينة الجرائم التي نصّ عليها، وأعطى مجالاً واسعاً للشرطة العدليّة بمعاينة المعطيات التي أُلزم مزوّدو خدمات الاتصالات (ISPs) بتخزينها لمدة غير محددة وفق القانون. وينصّ الفصل التاسع من المرسوم على أنه يمكن “لوكيل الجمهورية أو قاضي التحقيق أو مأموري الضابطة العدلية المأذونين في ذلك كتابياً أن يأمروا بتمكينهم من البيانات المعلوماتية المخزّنة بنظام أو حامل معلوماتي، أو المتعلّقة بحركة اتصالات، أو بمستعمليها، أو غيرها من البيانات التي من شأنها أن تساعد على كشف الحقيقة”.
يرى الزغدودي أن تخزين البيانات مسألة مشروعة، لكنّه يخشى من غياب الضمانات الكافية لحماية تلك البيانات التي يمكن أن تستعملها الدولة لضرب خصوم سياسيين أو بيعها لضرب شركات أو أشخاص. “لا يكتفي الباب الثالث من القانون بخرق الحقّ في حماية المعطيات الخاصة، لكنّه يمسّ أيضاً حقّ الصحافي في حماية مصادره، وهو ما يفترض أنّ المرسوم المنظم للصحافة والنشر قد حصّنه بثلاثة شروط متلازمة، وهي إذن قضائي، وتوفر شرط تجنب حصول جريمة، وإثبات القاضي أنه سعى بكل الوسائل للحصول على المعلومة ولم يتمكن من ذلك”.
ولكن، بمقتضى المرسوم الجديد، أصبح “يمكن الحصول على المعطيات المخزنة دون احترام أي شرط من الشروط الثلاثة التي يضمنها المرسوم العدد 115″، وفقاً للزغدودي.
بصورة عامة، قد يكون المرسوم يخرق المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنيّة والسياسية الذي وقعت عليه تونس، حسبما حذّرت منظّمات محلية ودولية في تونس، منها النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين والاتحاد الدولي للصحافيين ومنظمة “أكسس ناو”.
“المرسوم كارثي”، يقول شريف بلقاضي العامل بمنظمة “أكسس ناو” بتونس، في تصريح لـ”سمكس”. “هذا القانون الذي دعينا إلى سحبه يضرب المعايير الدولية، والفصل السادس الذي يلزم مزوّدي خدمات الاتصالات بحفظ بيانات مستخدمي الأنترنت أو الهاتف الجوال يكتسي خطورة كبيرة، لأنه لم يحدد المدة المسموح بها بتخزين المعطيات، ويفسح المجال لانتهاك سرّية مصادر الصحافي دون أي حماية”.
علاوة على ذلك، إنّ الباب الرابع المعنون “دعم المجهود الدولي لمكافحة الجرائم المتّصلة بأنظمة المعلومات والاتصال”، “يهدّد طالبي اللجوء في تونس والمهاجرين غير النظاميين، لأنه يجيز تسليمهم إذا ارتكبوا الجرائم التي نصّ عليها المرسوم”، وفقاً لما يقوله رمضان بن عمر، المتخصص في الهجرة مع “المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية”، في تصريح لـ”سمكس”.
يشرح بن عمر أنّه “لا يمكن ضمان عدم التسليم، بخاصة وأنّ تونس متحفّظة على بعض الاتفاقات، مثل الاتفاقية العدد 104 لـ”منظمة العمل الدولية” لإلغاء العقوبات الجزائية المترتبة على اخلال العمال بعقود الاستخدام. ورغم أن الفصل 34 من المرسوم 54 ينص على مراعاة الاتفاقيات الدولية، فإنه لا يمثل ضمانة كافية لأنه لا ينص على الإلزام. لذلك، يمكن أن يتعرّض الأجانب في وضعيات هشة إلى خطر التسليم إلى بلدانهم التي من المفترض أنهم فروا منها بسبب خطر ما يهدّد حياتهم”.
يخضع تنظيم جرائم النشر والصحافة إلى تجاذبات سياسية جعلت وزارتين في الحكومة ذاتها تقدّمان مشروعين لمجلة رقميّة مماثلة في العام 2019، وهما وزارتا العدل التي كان يقودها آنذاك وزير مستقلّ، وتكنولوجيا الاتصال التي تخضع الوزارة الأخيرة إلى سلطة حركة النهضة.
يعود الزغدودي، وهو أستاذ مختص في القانون العام، ليتساءل هنا عن جدوى سنّ قانون يخص الجرائم الرقمية، في الوقت الذي لا تخلو فيه الترسانة التشريعية من قوانين منظمة للفضاء الرقمي، مقابل إعداد مشروع جديد لمجلة رقمية ستنص على الجرائم نفسها التي جاءت في المرسوم العدد 54.
فهل تشرعن السلطات القمع بكثرة القوانين والمراسيم؟