في 29 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، تلقّى خليفة القاسمي، المراسل المحلي لإذاعة “موزاييك”، خبر الحكم عليه بالسجن مدة عام بصدمة كبيرة، وذلك على خلفية دعوى قضائية قضى بسببها مدة أسبوع في السجن منتصف آذار/مارس الماضي. أُفرِج عن القاسمي فيما بعد ليكون محلّ متابعة قضائية وهو في حالة سراح، وسط خوف المنظمات المهنية المحلية والإقليمية من توجّه الحكومة التونسية نحو تجريم العمل الصحافي.
بعد تفتيش هاتف القاسمي، توصّلت الفرق الأمنية إلى تحديد مصدر الخبر الذي نشره عن تفكيك خلية إرهابية بمحافظة القيروان وسط البلاد، ليتبيّن أنّ المصدر هو رئيس فرقة مكافحة الإرهاب بالمحافظة والمسؤول عن تفكيك الخلية الإرهابية. والآن، بات يواجه الصحافيين التونسيين منذ أكثر من سنة صعوبة بالغة في الاستعانة بمصادر رسمية، بسبب خوف تلك المصادر من العقوبات الإدارية أو الجزائية، مثلما حصل في قضية القاسمي.
سعت قوات الشرطة طيلة تسع ساعات إلى الضغط عليه من أجل تحديد هوية مصدره، ثمّ انتقمت منه حين رفض الاستجابة لضغوطها بتوجيه تهم إليه من قانون مكافحة الإرهاب، حسبما يشرح لـ”سمكس”: “أوقفتني قوات الشرطة وطُلب مني الكشف عن مصدر الخبر الذي نشرته وقيل لي إنّه سيطلق سراحي إذا قدّمت هوية المصدر. ولكنّني رفضت الإفصاح عن هويته فوُجهت لي تهمة المشاركة في عمل إرهابي وفق الفصلين 34 و62 من قانون مكافحة الإرهاب”.
خالفت الشرطة القانون بخطوتها هذه، حيث أنّ الفصل 11 من المرسوم المنظم للصحافة والنشر يضمن للصحافي حقه في سرية المصادر، وينصّ على أنه “لا يجوز تعريض الصحافي لأي ضغط من جانب أي سلطة أو مطالبته بإفشاء مصادر معلوماته من دون إذن من القاضي العدلي المختص”، وهو ما لم يحصل في قضية الصحافي خليفة القاسمي. إضافة إلى ذلك، ينصّ قانون مكافحة الإرهاب نفسه، في الفصل 37 منه، على استثناء الصحافيين من تهمة ارتكاب جريمة إرهابية تُوجه “لكلّ من يمتنع، ولو كان خاضعا للسر المهني، عن إشعار السلط ذات النظر حالا بما أمكن له الاطلاع عليه من أفعال وما بلغ إليه من معلومات أو إرشادات حول ارتكاب إحدى الجرائم الإرهابية”، ويحيل هذا الفصل القضايا المماثلة إلى المرسوم عدد 115 المنظم للصحافة والنشر في علاقة بالعمل الصحفي.
منذ إثارة الدعوى في آذار/مارس الماضي، يواجه خليفة القاسمي صعوبة في الحصول على المعلومات من مصادر رسمية خوفاً من معاقبتهم، حسبما يقول لـ”سمكس”، مشيراً إلى اعتقاده بأنّ معظم الصحافيين أصبحوا يواجهون صعوبة في تحصيل المعلومات من مصادر رسمية. “أصبحت هذه المصادر تخشى ما قد يترتّب عن تقديم معلومات”، كما يشرح القاسمي، مضيفاً أنّ “ذلك لا يقتصر على طلب معلومة تخصّ الأمن، بل وصل إلى حدّ امتناع مسؤولين في إدارات تتبع وزارة الفلاحة أو الصحة أو التعليم على سبيل المثال، عن تقديم تصريحات أو معلومات، خوفاً من الوقوع تحت طائل عقوبات أو الكشف عن هويتها”. ويعود ذلك في جزء كبير منه، وفقاً للقاسمي، إلى تصريحه بأنّ هاتفه محتجز لدى الشرطة، ما يعني “أنّهم على اطلاع على أرقام هواتف مصادري وأنهم يمكنهم النفاذ إلى بريدي الإلكتروني”.
والآن، لا يزال القاسمي ينتظر تحديد جلسة لاستئناف الحكم الصادر في حقه بالتوازي مع حكم بمنعه من السفر، آملاً أن تسقط الدعوى بخاصّة وأنّ قاضي التحقيق اعترف بخطأ في توجيه التّهم حسب تصريحه لـ”سمكس”.
قضاء يتلاعب بالتشريعات
يقول المستشار القانوني في “وحدة رصد الانتهاكات” بـ”النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين”، منذر الشارني، في تصريح لـ”سمكس”، إنّ التشريع التونسي أعطى الحق للصحافيين في سرية المصدر وسمح لهم بعدم الإفصاح عن هوية تلك المصادر من أجل حمايتهم ومن أجل ديمومتها”. ومع ذلك، برغم التنصيص على حق الصحافي في الاحتفاظ بهوية مصادره، “إلا أنّ عدداً كبيراً من الصحفيين تعرّضوا إلى الضغط خلال التحقيق معهم في مرحلة البحث الابتدائي (لدى الشرطة) من أجل الكشف عن مصادر معلوماتهم، على الرغم من أنّ القانون ينصّ على أنّ طلب الإفصاح عن المصدر يخضع لشروط وبإشراف قاض مختص لا قوات الشرطة أو قاضي التحقيق”، يشرح الشارني.
ينتقد الشارني تعامل القضاة والشرطة في قضايا النشر، ويقول إنّ “القضاة لا يسعون لتطبيق المرسوم عدد 115 الخاص بالصحافة والنشر”، مضيفاً أن على القضاة أن يقوموا بدورهم في حماية الصحافيين وضمان حقهم في الحفاظ على سرية مصادرهم لا العكس. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ القضاة يتحمّلون أيضاً المسؤولية في تأويل ما يُسمى بأسرار الدفاع الوطني أو الأمن باعتبار أن اجتهاده في التأويل يمكن أن يورّط الصحافي أو العكس أن يحميه، وفقاً للشارني.
على سبيل المثال، قد تُنسَب إلى الصحافيين تهمٌ بموجب قانون الجنايات الذي قد يعرّضهم إلى عقوبة السجن بسبب تهمة الثلب (الذمّ). ولهذا، ما انفكّت “النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين”، منذ سنّ المرسوم عدد 115 المنظم للصحافة والنشر في تشرين الثاني/نوفمبر 2011، تطالب بإحالة الصحافيين في القضايا المتعلقة بالنشر والصحافة إلى قانون الصحافة والنشر بدلاً من قانون الجنايات.
في أيار/مايو الماضي، أعلنت منظمة “مراسلون بلا حدود” عن ترتيب الدول في حرية الصحافة. تأخّر ترتيب تونس بـ21 نقطة، وفق تقرير المنظمة الذي يعتمد على مؤشرات تعامل السلطة مع الصحافة والإعلام. تبوأت تونس ذلك الترتيب المتأخّر بعد الإجراءات الاستثنائية التي اتّخذها الرئيس قيس سعيد في تموز/يوليو 2021، وعزّزها إيقاف القاسمي على خلفية عمله الصحافي.
يقول مسؤول المناصرة في مكتب شمال إفريقيا لمنظمة “مراسلون بلا حدود”، سمير بوعزيز، في تصريح لـ”سمكس”، إنّ “الشعبويّة في التعامل مع الصحافة في تونس إجمالاً لاحت منذ صعود الرئيس سعيد إلى كرسي الرئاسة في العام 2019، وتعزّزت بعد إجراءاته الاستثنائية”. إضافة إلى ذلك، “انتهجت السلطات التنفيذية نهج الرئيس التونسي في حجب المعلومة وتجفيف مصادر المعلومة عن طريق تجاهل الدستور والمراسيم الضامنة للحق في المعلومة من جهة، وسن قوانين زجرية تضيق على عمل الصحافيين”، يضيف بوعزيز. وفي حين يحمي المرسوم 115 سرية المصادر، تبقى المشكلة في الإحالات على معنى قوانين زجرية أخرى وإحالات على محاكم عسكرية”، وفقاً للمسؤول بمنظمة “مراسلون بلا حدود”.
تضييق من أعلى السلطات
بدأت مؤشرات التضييق على حرية الصحافة والنشر تظهر منذ إجراءات 25 تموز/يوليو 2021، خاصّة أنّ رئيس الجمهورية التونسي قيس سعيد جمع كلّ السلطات التشريعية والتنفيذية وجزء من السلطة القضائية بيده بعد إصدار الأمر الرئاسي عدد 117 في أيلول/سبتمبر من العام الماضي، والذي علّق بموجبه مجلس النواب وأعطى صلاحيات واسعة في إصدار القوانين.
وكان سعيد أعلن قبل ذلك رئاسته للنيابة العمومية، وهي أهم حلقات القضاء في تونس، وصولاً إلى آخر الورقات التي لعبها الرئيس التونسي لمراقبة الصحافة والنشر، والتي تتمثّل في القانون عدد 54 المتعلّق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، والذي اعتبرته النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين “تهديداً واضحاً لحرية الصحافة والتعبير وتضييقاً على المعلومة وعلى المصادر الرسمية”.
في العام الماضي، ويوم الاحتفال بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أصدرت رئيسة الحكومة التونسية، نجلاء بودن، منشوراً داخلياً يحدد شروط ظهور أعضاء الحكومة في وسائل الإعلام والاطلاع على فحوى مداخلاتهم قبل موافقتها على ظهورهم الإعلامي. لقي ذلك المنشور انتقادات من “الاتحاد الدولي للصحافيين” الذي طالب الحكومة التونسية بسحبه. وبعد أقلّ من أربعة أشهر على الانقلاب الذي قاده الرئيس قيس سعيد، لاحت سياسته في التضييق على الصحافيين في وصولهم إلى المعلومة، حتى أنه أثار سخرية الصحافيين، من ضمنهم رئيس “النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين”، بسبب عقد ندوة صحافية بين سعيد ونظيره الفلسطيني محمود عباس دون حضور الصحافيين.
ينتقد التقرير السنوي للحريات الذي أصدرته “النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين” في شهر أيار/مايو الماضي، والذي يجمع حصيلة انتهاكات حرية الصحافة، انغلاق رئاسة الجمهورية والحكومة إجمالاً. ويقول التقرير إنّ “أغلب الانتهاكات التي سُجّلت طیلة السنة ترتبط ارتباطاً وثیقاً بالإجراءات الاستثنائية التي أعلنھا رئيس الجمهورية قیس سعید في 25 تموز/يوليو 2021، والتي جمع بمقتضاها جمیع السلطات لدیه”. ويضيف التقرير أنّ الحكومة والرئاسة معاً تنتهجان سياسة اتصالية منغلقة جعلت الرئاسة المصدر الوحيد للمعلومة.
“الوضع سوداوي”، يقول بوعزيز، “فبعد أن جمّع الرئيس قيس سعيد كلّ السُّلطات بيده، وضمن غرفة نيابية خالية من المعارضين له، قد يصبح الأمر أخطر وذلك بسن تشريعات تهدد الصحافيين وتضع تضييقيات جديدة على عملهم”.
عصف الرئيس قيس سعيد وحكومته بتطلّعات الصحافيين التونسيين لسنّ تشريعات تعزز حرية الصحافة وتحمي الصحافي خلال عمله. وفي الوقت الذي كانت النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين تسعى إلى تعديل المرسوم عدد 115 بسبب وجود ثغرات وغموض في بعض فصوله (بما في ذلك الفصل 11 الذي ينص بالتفصيل على الحق في سرية المصادر والاستثناءات وشروط الكشف عنها)، بدا أنّ سقف مطالبهم قد ضاق. فهل تتلخّص المرحلة القادمة في المثل القائل ” عصفور في اليد أفضل من اثنين على الشجرة”، أم سيستمرّ كفاح الصحافيين في الدفاع عن الحرّيات من دون سقف؟