لم يعُد المؤثّرون/ات في المملكة العربية السعودية قادرين/ات على العمل في مجال صناعة المحتوى عبر الإنترنت كما كان الأمر في السابق. اليوم، بات كل صانع/ة محتوى يحقّق مردوداً مالياً من خلال الإعلانات مُلزَماً بتقديم طلب للحصول على ترخيص رسمي من الهيئة العامّة للإعلام المرئي والمسموع. وعلى الرغم من أنَّ الإجراءات الجديدة هي جزء من برنامجِ جديد أُطلق عليه اسم “موثوق”، ويهدف إلى “تنظيم النشاط التجاري للمؤثّرين/ات”، قد تكون وراءه أهداف خفيّة أخرى، مثل التحكُّم بحرّية التعبير عبر الإنترنت.
بدأَ العمل بالتصريح الرسمي الجديد في مطلع شهر تشرين الأوّل/أكتوبر، وتَصِل كلفته إلى حوالي 4000 دولار أمريكي (15000 ريال سعودي) لثلاث سنوات من الاستخدام. وفقاً للإرشادات الجديدة التي نشرتها الهيئة العامّة للإعلام المرئي والمسموع، لا يُفرَض الترخيص إلّا على المؤثّرين/ات الذين يُعتبَر نشاطهم عبر الإنترنت مصدراً للدخل المادّي. على سبيل المثال، إنَّ المُستخدِم/ة الذي يُروِّج لصور أو ملابس غير تجارية على حسابه الشخصي لا يحتاج إلى الترخيص، في حين أنَّ قناة “يوتيوب” التي تُقيِّم خدمة معيّنة أو منتجاً معيّناً، مثل مطعم أو مقهى – حتّى لو بدون مقابل – تتطلّب ترخيصاً.
يعدّ الترخيص إلزامياً لكلّ صانع/ة محتوى يزيد عمره عن 18 عاماً ويستخدم “تويتر” أو “انستغرام” أو “يوتيوب” أو “تيك توك” أو “سناب تشات” أو “فيسبوك”، وينطبق على جميع أنواع المواد الإعلانيّة (صور، أو مقاطع الفيديو، أو مقاطع الصوتية، أو نصوص). ويُعاقَب صاحب/ة أيّ إعلانٍ تجاري غير مرخّص بغرامات تَصِل إلى خمس ملايين ريال سعودي وعقوبة بالسجن لمدّة أقصاها خمس سنوات. وإذا كانَ الشخص المعني أجنبياً، يُرحَّل من المملكة العربية السعودية.
بعد الحصول على التصريح، يجوز للمُستخدِم/ة أن يُروِّج لأيّ منتج وأن يعمل مع أيّ جهة لمدّة ثلاث سنوات. الشرط الوحيد هو الامتناع عن مخالفة قوانين المملكة و”قِيَمها” من خلال الترويج لمحتوى من شأنه “الإضرار بالأمن القومي أو الإساءة إلى الأخلاق العامّة أو تشويه سمعة المملكة العربية السعودية”.
تنظيم سوق جديد
اعتبرَ مؤثّرون/ات في المملكة العربية السعودية أنَّ هذا التصريح هو إجراءٌ يهدف إلى إضفاء بعض التنظيم على سوقٍ عشوائي وغير مُنظَّم، ولا يرون فيه بالضرورة أيَّ تهديدٍ لحقوقهم/ن أو حرّياتهم/ن.
“بصراحة، الأمر ليس سيّئاً إلى هذه الدرجة. ربّما يخلق القانون الجديد حاجزاً أمام حرّية التعبير لأنَّه دليلٌ على أنَّ الحكومة تُشرِف على أعمالك، لكنَّ هذه القيود ستحمي المؤثّرين/ات لاحقاً وستسمح بإجراء حوار شفّاف مع الشركات”.
وُلِدَت تاتيانا في بيروت وهي مقيمة الآن في العاصمة السعوديّة الرياض، وتُعرَف على موقع “انستغرام” باسم tatianatabet@ أو @tbeaute.official، وهي واحدة من المؤثّرين/ات الذين يحقّقون دخلاً مادياً من عملهم/ن في المملكة العربية السعودية. “هنا، المواطنون/ات ناشطون جداً على مواقع التواصل، وخصوصاً “تيك توك” و”انستغرام”، ما يفتح المجال للاحتيال والانتهاكات. فالشخص الذي لا يملك أيّ ترخيص يمكنه بيع أيّ منتج ويطلب منك تحويل الأموال إلى حسابه، ثمّ يختفي”، تضيف حلال.
تعتبر تاتيانا أنّ الهدف الأوّل من تطبيق هذا الترخيص هو ضبط سوق جديد غير مُنظَّم. وفقاً للمادّة 5 من نظام العمل السعودي، إنَّ نشر الإعلانات عبر مواقع التواصل من دون ترخيص يُعتبَر جُرماً لأنَّه وسيلةٌ لكسب دخلٍ غير مُصرَّح به.
ولكن، هل هناك أسباب أخرى تقف وراء القرار؟
مدخول جديد للمملكة
ينطوي هذا الإجراء على مصلحة اقتصادية واضحة. انتشرَ المؤثّرون/ات على الإنترنت وازدادَ استهلاك المحتوى الذي يُروِّجون إليه بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة. فقرّرت المملكة أن تستفيد من هذا القطاع المزدهر كفرصة لتحقيق المزيد من الإيرادات واستكمال اعتمادها على النفط.
من جهتها، قالت بيثاني الحيدري، وهي مسؤولة في “مؤسّسة حقوق الإنسان” ومديرة القضايا السعودية في “مبادرة الحرّية”: “أعتقد أنَّ الحكومة تُحاوِل ببساطة كسب المزيد من الأموال من الناس. أرى أنَّها مجرّد طريقة لكسب المال لأنَّ الحكومة السعودية تُحاوِل منذ فترة طويلة تنويع مصادر دخلها بدلاً من الاعتماد على قطاع النفط”.
في سياقٍ متّصل، أكَّدَ “مركز الخليج لحقوق الإنسان” لمنظّمة “سمكس” أنَّ هذا الترخيص يمكن أن يُشكِّل مصدر دخلٍ إضافي للمساهمة في الحدّ من اعتماد الاقتصاد السعودي على الإيرادات النفطية.
كانت الحكومة السعودية قد أصدرت الكثير من الضوابط على التسويق غير المُصرَّح به عبر الإنترنت قبل أن تُقرِّر أخيراً فرض الترخيص الجديد. في حزيران/يونيو 2022، كانَ على المقيمين/ات والزوّار غير السعوديين/ات الذين يُروِّجون للمنتجات أو يساعدون في الفعّاليات في المملكة العربية السعودية أن يُسجِّلوا للحصول على تصريحٍ مماثل. وبحسب المملكة، اتُّخِذَ هذا القرار لمنع “الانتهاكات على منصّات التواصل الاجتماعي”، بما في ذلك عدم وجود وثائق التسجيل التجاري والتراخيص القانونية.
في هذا الإطار، مُنِعَ مواطنٌ لبناني لديه أكثر من 13 مليون متابع على مواقع التواصل من الإعلان عبر الإنترنت، وفُرِضَت عليه غرامة بقيمة 400 ألف ريال سعودي لأنَّه نشرَ محتوى على “سناب تشات” ينتهك “قوانين مكافحة التدخين” في البلاد. وتجدر الإشارة إلى أنَّ المملكة العربية السعودية ليست الدولة الخليجية الأولى التي تطلب من المؤثّرين/ات الحصول على ترخيص. فقد أصدرت الإمارات العربية المتّحدة – وهي دولة خليجية أخرى تعتمد أيضاً على الهيدروكربونات – تصريحاً مشابهاً تبلغ كلفته 4000 دولاراً أميركياً في السنة.
تهديد لحرّية التعبير
حَذَّرَ “مركز الخليج لحقوق الإنسان” من أنَّ “الرسالة الواضحة وراء هذا الترخيص هي أنَّ رقابة السلطات ستطال الجميع من دون استثناء”. وأضاف: “لطالما كانَ المُدافِعون/ات عن حقوق الإنسان، وخاصة النساء، هم الفئة الأكثر استهدافاً. أمّا الآن مع هذا الترخيص، يمكن لأيّ شخص أن يكون تحت المراقبة، حتّى الذين ليس لديهم/ن محتويات أو رسائل تتعلّق تحديداً بحقوق الإنسان”. بالتالي، يبدو أنَّ هناك رابطاً واضحاً بين هذا الترخيص وعزم المملكة على التحكُّم بحرّية التعبير عبر الإنترنت أو الحدّ منها، لا سيّما بالنظر إلى سياق الحرّيات العامّة في المملكة العربية السعودية.
وفقاً لمنظّمة “فريدوم هاوس”، تُعَدّ المملكة العربية السعودية دولة “غير حرّة“، حيث يبلغ مؤشّر حرّية الإنترنت 24 من أصل 100، وتحتلّ المملكة مرتبةً أقلّ في “مؤشّر الحرّية العالمي” (7 من أصل 100). وكما تُشير ” جلوبال ميديا انسايت”، يستخدم 82% من السكّان السعوديين وسائل التواصل الاجتماعي في حياتهم اليومية في عام 2022، ويُخصِّصون لها ثلاث ساعات و24 دقيقة تقريباً في اليوم. فضلاً عن ذلك، يستعين 32.6% من المُستخدِمين بوسائل التواصل الاجتماعي للعثور على المنتجات، و28.6% لمتابعة المشاهير والمؤثّرين. وسيطال الترخيص الجديد أكثر من نصف الأنشطة اليومية للمُستخدِمين السعوديين على شبكة الإنترنت.
علاوة على ذلك، يؤكّد “مركز الخليج لحقوق الإنسان” لـ”سمكس” إنّ المملكة العربيّة السعوديّة “تمتلك الوسائل التي تُخوّلها السيطرة على مساحات التعبير عبر الإنترنت باستخدام برامج التتبُّع، والحملات المُخصَّصة للنيل من المُدافِعين/ات عن حقوق الإنسان ومهاجمتهم/ن واستهدافهم/ن وترهيبهم/ن وملاحقتهم/ن بطرق غير مشروعة”. وأوضحَ المركز أنَّ الترخيص لن يُستخدَم كأداة مباشرة للرقابة، بل للترهيب: “في الواقع، الترخيص هو إجراء يهدف إلى تنبيه الأفراد ويدفعهم/ن إلى ممارسة نوع من الرقابة الذاتية تفادياً لانتهاك القوانين والقواعد المتعلّقة بحرّية التعبير وغيرها”.
سيناريو غامض يتطلّب المزيد من الحذر
في ظلّ انتشار التقنيات الجديدة وظهور مهنٍ وطرق جديدة لكسب المال عبر مواقع التواصل، تبرز الحاجة إلى أنظمة وقوانين جديدة، إلا أنها قد تُسخّر لتحقيق أهداف أخرى. وفي البلدان التي لا تضمن وتحمي الحرّيات الإنسانية، يصبح التهديد أكبر.
تختم الباحثة القانونية في القانون الرقمي ومسؤولة الفريق القانوني في منظّمة “سمكس”، ماريان رحمة، بالقول إنّ “الترخيص الجديد هو طريقة أخرى تُحاول من خلالها الحكومة السعودية، وحكومات دول الخليج عموماً، السيطرة على الفضاء المدني على الإنترنت. إنَّها أيضاً وسيلة ضغط أخرى تعبّد الطريق أمام مستوى رقابة ذاتية أعلى في هذه المنطقة، ونظراً إلى سجلّهم السيّئ جداً في مجال حقوق الإنسان، يجب أن نُراقِب المستجدّات على هذا الصعيد بشكلٍ دقيق”.